تابعنا
تدرك إسرائيل طبيعة التشابك بين الأونروا باعتبارها مؤسسة إغاثية من جهة وبين الحقوق الفلسطينية والوجود الفلسطيني من جهة أخرى، وأنه في السبيل نحو هدر حقوق الفلسطينيين وتصفية وجودهم لا بد من تفكيك أي روابط عالمية تحفظ حقهم ووجودهم.

لا تنفك إسرائيل وحلفاؤها عن توظيف كل ما هو متاح في المواجهة ضدّ الفلسطينيين، فما تبدأ به البنادق ويمضي به الإعلام تكمله السياسات والدبلوماسية النشطة بهدف تصفية كل ما يمكن أن يشكل دعامة للوجود الفلسطيني.

وفي هذا السياق قرّرت 18 دولة غربية والاتحاد الأوروبي واليابان تعليق تمويلها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بعد مزاعم إسرائيلية بمشاركة 12 من موظفي الوكالة في هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وهذه الدول هي الولايات المتحدة وكندا وأستراليا واليابان وإيطاليا وبريطانيا وفنلندا وألمانيا وهولندا وفرنسا وسويسرا والنمسا والسويد ونيوزيلندا وأيسلندا ورومانيا وإستونيا والسويد بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي.

يفاقم القرار الكارثة الإنسانية في قطاع غزة ومختلف مناطق وجود اللاجئين، فقُبيل القرار أكد تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، الصادر عن الأمم المتحدة يوم 21 ديسمبر/كانون الأول 2023، أن جميع سكان القطاع "يعانون من أزمة أو مستويات أسوأ من الانعدام الحاد للأمن الغذائي".

وبيّن التقرير أن "26% من السكان قد استنفدوا إمداداتهم الغذائية وقدراتهم على التكيف، وأنهم يواجهون جوعاً كارثياً". وبعد هذا القرار فإن أوضاع الفلسطينيين ستصبح أكثر سوءاً، إذ قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إن "تعليق التمويل لأونروا ينذر بمجاعة وشيكة".

ينبني هذا التقدير على اعتبار أن الأونروا ستواجه عجزاً مالياً غير مسبوق في ميزانيتها، ويصل مبلغ مساهمة الدول المعلقة دعمها السنوي نحو 550 مليون دولار، وهي نسبة تقارب 51% من إجمالي دخل الوكالة لعام 2024، فيما أن ما تملكه حالياً من تمويل يكفي فقط حتى فبراير/شباط الجاري، وفق ما أعلنته أونروا.

أما على الصعيد السياسي فتكمن خطورة القرار في كونه يهدد الإطار الدولي الأهم الحامل لقضية اللاجئين منذ تأسيسها عام 1949، وعلى الرغم من المحاولات للدفع بأونروا لتكون بديلاً عن الحق الفلسطيني في العودة وما حمله ذلك عن مشاحنات لم تتوقف بين الفلسطينيين وممثلي وكالة الغوث في غالب الأحيان، فإن الأونروا تمثل ما تبقى من تجسيد للحق الفلسطيني في الضمير العالمي، فهي مؤسسة انبثقت عن الأمم المتحدة وتمثل نظرياً ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها، وأبرزها قرار الجمعية العمومية رقم 194 الذي ينص على حق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين، ومن هنا فإن استهداف الوكالة هو في جوهره استهداف لما تبقى في الضمير العالمي من عدالة إزاء مسألة اللاجئين، فضلاً عما تقدمه من خدمات.

سياق من الاستهداف

من السطحية بمكان النظر إلى هذا القرار باعتباره إجراءً طارئاً أو أنه جاء بسبب مزاعم إسرائيلية لم تثبت، بل استند القرار إلى منطق إسرائيل وحلفائها القائم على تصفية الوجود الفلسطيني بمختلف الأشكال والسبل بالاستناد إلى الشواهد، فقد تصاحب القرار مع جملة من التصريحات والمواقف الإسرائيلية التي أوضحت بشكل لا لبس فيه أن إسرائيل تستهدف منظمة الأونروا برمتها.

وذكر بيان صادر عن مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أنه قال أمام وفد من الأمم المتحدة: "حان الوقت ليفهم المجتمع الدولي والأمم المتحدة نفسها أنه لا بد من إنهاء مهمة الأونروا". كما قال وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس إن "إسرائيل ستسعى لمنع وكالة الأونروا من العمل في القطاع بعد انتهاء الحرب".

وهذه المواقف ليست جديدة أو رهينة بتطورات الحرب وما صاحبته من رواية إسرائيلية تعكف على ربط الصلة بين المقاومة والأونروا، بل هي جزء من تصور ناجز لدى قيادة اليمين الإسرائيلي إزاء المؤسسة الدولية، فقد طالب نتنياهو في يونيو/حزيران 2019 سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي آنذاك بتفكيك الأونروا وإنهاء دورها تجاه اللاجئين الفلسطينيين.

وتدرك إسرائيل طبيعة التشابك بين الأونروا باعتبارها مؤسسة إغاثية من جهة وبين الحقوق الفلسطينية والوجود الفلسطيني من جهة أخرى، وأنه في السبيل نحو هدر حقوق الفلسطينيين وتصفية وجودهم لا بد من تفكيك أي روابط عالمية تحفظ حقهم ووجودهم.

ولتحقيق هذا الهدف دأبت إسرائيل على تجريم الأونروا عبر ابتذال رواية تستبدل بالتشابك بين المهمة الإغاثية لها والحق الفلسطيني تشابكاً آخر هو بين وجود الوكالة واستمرارها من جانب وما تطلق عليه إسرائيل "الإرهاب الفلسطيني" من جانب آخر، وبذلك تنزع إسرائيل الشرعية عن الأونروا بوصفها مؤسسة إنسانية وتقدمها للعالم على أنها مؤسسة حاضنة لـ"الإرهاب".

وقد مثلت الحرب الجارية في غزة فرصة مميزة لإسرائيل لاتخاذ هذه الخطوة، وهي جزء من برنامج تمضي به منذ سنوات لتصفية القضية الفلسطينية، وترمي إسرائيل من استهداف الأونروا إلى عدة أهداف، أولها يتمثل في تضييق الخناق على الفلسطينيين عبر قطع المساعدات والإغاثات الضرورية عنهم، ومن ثم ربط حاجاتهم الأساسية تلك بتنازلات جوهرية، وكذلك تريد إسرائيل إنهاء الرابط الدولي الأخير الذي يضمن في ذاكرته وبنيته الوجودية وتقاليديه الأخلاقية حقوق الفلسطينيين.

إن نزع الشرعية عن الأونروا في جوهره جزء من مشروع نزع الشرعية عن الوجود الفلسطيني، ومن ثم إنهاؤه عبر الاستمرار بإجراء تغييرات جوهرية لحسم الصراع، إلى جانب تعزيز الاستيطان وتهويد القدس ومنع قيام دولة فلسطينية، تريد إسرائيل التخلص من الأونروا واستبدال مؤسسة أخرى بها تكون ملائمة للمعايير السياسية والأمنية الإسرائيلية، بمعنى إخراج مسألة اللاجئين من حيازة المسؤولية الدولية ووضعها تحت التصرف الإسرائيلي الذي يوجهها وفق مشروع التصفية.

كذلك فإن هذا القرار يشير إلى النوازع النفسية المفعمة بالانتقام من الفلسطينيين، فالأونروا لا تشمل خدماتها قطاع غزة فحسب، بل تقدم خدماتها الإغاثية للفلسطينيين في مختلف المناطق "الضفة الغربية ولبنان والأردن وسوريا"، وهي مناطق لا تسيطر عليها حماس ولا يوجد لها نشاط عسكري فيها، وبذلك فإن غاية قيادة إسرائيل لا تستهدف الأونروا في غزة فقط، بل إنها تريد إلحاق الضرر بكل فلسطيني في أي مكان.

أمريكا والغرب.. تماهٍ مستدام

لم يكن التماهي الأمريكي ورديفه الغربي مع إسرائيل مفاجئاً بالعطف على السوابق، فقد وصف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أونروا بأنها "فاسدة بشكل لا يمكن إصلاحه"، ودعا غاريد كوشنير كبير مستشاريه آنذاك إلى "بذل جهود مخلصة لتعطيل الأونروا".

وأعلنت إدارة ترامب في أغسطس/آب 2018 عن وقف كلّ التمويل والدعم الذي كانت تقدمه لأونروا، كذلك عارضت كل من أمريكا وإسرائيل بخلاف 170 دولة قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة القاضي بتجديد ولاية أونروا، خلال الجلسة التي عقدت في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وفي يناير/كانون الثاني 2020 أعلن ترامب عن بنود "صفقة القرن" التي أشارت إلى إلغاء حقّ العودة، وإنهاء عمل الأونروا.

وفي عهد الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن وقعت وزارة الخارجية الأمريكية ووكالة الأونروا اتفاق "إطار العمل للتعاون 2021-2022"، نصّ على مراقبة عمل مؤسسات وكالة الغوث كافّة، من خلال تقديمها تقارير مالية وأمنية ربع سنوية، فضلاً عن استثناء بعض اللاجئين من دعم الوكالة، هم المنتمون إلى فصائل المقاومة الفلسطينية، ومؤيدو المقاومة، والحفاظ على حيادية موظفي الأونروا، وكذلك مراقبة المناهج الدراسية الفلسطينية، وحذف أي محتوى لا يتناسب مع التوجهات الإسرائيلية.

وأوروبياً، قرّر البرلمان الأوروبي عام 2022 حجب 20 مليون يورو من المساعدات المقدمة للأونروا إذا لم تُجرَ تغييرات فورية على الكتب المدرسية الفلسطينية، كما قلّصت بريطانيا دعمها للوكالة بأكثر من 50%.

لقد استجابت الدول الغربية للرواية الإسرائيلية تماماً، وتجاهلت اعتداءات إسرائيل على الأونروا، إذ قتلت إسرائيل 152 من العاملين فيها واستهدفت مراكزها ومؤسساتها، وعلى الرغم من أن تصفية الوكالة لا يتماشى في الظاهر مع سياسة الغرب تجاه القضية الفلسطينية فإن هذا القرار أظهر مدى قدرة إسرائيل على التأثير في قرارات ومواقف هذه الدول.

البدائل الممكنة

جرى طرح بدائل عدة لمواجهة القرار، وكان على رأسها الاستبدال بالدعم الغربي للأونروا دعماً مالياً عربياً، وقد يكون هذا الطرح مفيداً لو كان الأمر يقتصر على الجانب المالي فقط على أهميته، لكنّ إسرائيل وحلفاءها لا يريدون فقط قطع الإغاثات عن الفلسطينيين، بل يمهدون لتصفيتهم، وعليه فإنّ التمويل العربي سيرفع المسؤولية الدولية والأخلاقية عن كاهل المجتمع الدولي ويجعل المسألة مادية لا حقوقية، كما أن هذا الطرح يُعَدّ هروباً من القرار وليس مواجهة له.

إنّ البديل الحقيقي يتمثل في مواصلة الضغط على إسرائيل والحكومات الحليفة لها عبر الوسائل الناعمة، وذلك من خلال الجهود الدبلوماسية وشرح تداعيات القرار وخطورته الإنسانية والأخلاقية عبر منصات الإعلام الغربي. لقد أثبتت فكرة إيصال المعاناة الفلسطينية عبر الإعلام الغربي نجاعتها وقدرتها على التأثير في السياسة الخارجية، لذا يمكن أن يثمر هذا الخيار بإثناء الحكومات الغربية عن موقفها.

ومع ذلك فإن ما يحدد خيارات الغرب بين استئناف دعم الأونروا أو الاستمرار في تعليقه حتى أمد غير محدد، أو إعلان قطعه بشكل نهائي، هو رهين بقدرة أدوات إسرائيل الناعمة وعلى رأسها اللوبيات المنتشرة في الدول الغربية في التأثير في مواقف هذه الدول، وقد أفادت صحيفة وول ستريت جورنال أن إسرائيل تضغط على أمريكا والأمم المتحدة من أجل أن يكون أحد مخرجات الحرب في غزة هو إنهاء عمل الأونروا.

وفي المقابل يتوقف الأمر على مدى نجاح الفلسطينيين في التأثير في الرأي العام الغربي وإقناعه بضرورة وأحقية استمرار دعم الأونروا، كما يرتبط بموقف الإدارة الأمريكية، فإذا ما استمر تعليق الدعم الأمريكي حتى العام القادم، وأسفرت الانتخابات الأمريكية عن عودة ترامب، فمن المرجح أن يستمر التعليق وصولاً إلى القطع الكامل، وقد تتخذ إدارة ترامب قرارات تمس جوهرياً باستمرار الأونروا.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً