قضى حسن حنفي جل عمره في قاعات الدرس والمؤتمرات والندوات والنقاشات التي كان يزداد فيها توهجاً كلما تقدم به العمر، وأسرعت به السنون نحو "كل نفس ذائقة الموت"، هكذا عنون فصل مذكراته الأخير.
عاش الرجل زاهداً كل شيء إلا المعرفة وفلسفتها، التي قضى في محرابها طويلاً يعيد القراءة تلو القراءة في كثير من مسلمات التراث والتحديث والحداثة منطلقاً من سؤال جوهري برأسه، هو هل التراث الإسلامي عامل نكوص أم عامل انطلاق نحو النهوض لهذه الشعوب التي انطلقت به بالأمس القريب؟ وها هي اليوم جاثمة لا تستطيع حراكاً.
طاف حنفي العالم مشرِّقاً ومغرباً، مدرساً وباحثاً ومنظِّراً ومناقشاً، من المشرق العربي حتى مغربه ومن غرب العالم إلى شرقه أيضاً، فدرّس بأمريكا واليابان وألمانيا وتونس والجزائر والمغرب وغيرها، واستطاع طوال هذا التطواف أن يضع خلاصاته الفلسفية لكل المسائل والمشكلات التي تواجه سكان المنطقة العربية، مشكلاته مع ماضيه وحاضره ومستقبله في محاولة جريئة وشجاعة لقي في سبيلها الكثير من الازدراء والتهميش والتجاهل وأحياناً التكفير.
مشروع حنفي وفلسفته
مضى حنفي غير آبه بشيء سوى إيمانه المطلق بالمعرفة وسيلةً للتغيير والنهوض، فانطلق مُكباً على التراث، طارحاً مشروعاً فكرياً فلسفياً متكاملاً منطلقاً من عنوان "التراث والتجديد" لإعادة صياغة ملاحظاته وتأملاته واستخلاصاته الفلسفية، فبدأ مشروعه الذي يتبلور بفكرة إعادة بناء التراث الإسلامي القديم وإمكانية الاستفادة من الفكر الغربي فيما يغيب عنا، وكيف يمكن توظيف كل هذا وإسقاطه على واقعنا المعاصر ليسهم كل هذا بوضع إطار علمي ناظم لحلول كل المشكلات المستعصية اليوم عربياً.
فانطلاقاً من هذا المنحى دشن حنفي مشروعه الفكري والفلسفي عام 1988 بــ"مِن العقيدة إلى الثورة" في خمسة أجزاء، و"من العقل إلى الإبداع" ما بين 2000-2002 بتسعة أجزاء، و"من النص إلى الواقع" في جزئين 2004، و"من الفناء إلى البقاء" في جزء 2008، و"من النقل إلى العقل" في ثلاثة أجزاء 2010.
وهو هنا يؤسس من جديد لإعادة الاعتبار للتراث بقراءة جديدة تناسب لحظة النهوض والانطلاق، كما رأى، ولهذا كانت كل هذه المداخل تدور حول إعادة الاعتبار لعلم الكلام وتجديده من خلال مدخله من العقيدة إلى الثورة، ثم علم أصول الفقه من النص إلى الواقع ثم علم التصوف من الفناء إلى البقاء ثم علم الفلسفة الإسلامية من النقل إلى الإبداع، وكل هذا اشتغال في إطار المنظومة التراثية للفكر والتراث الإسلاميَّين ومحاولة الاشتغال عليه باعتباره وقوداً للانطلاق لا مادة للكسل والتخلف. وعلى هامش هذا المشروع فقد ترك عشرات الكتب في الدرس الفلسفي والسياسي والفكري والثقافي، فضلاً عن صكِّه مصطلحات دالة على حقول دراسية مهمة كان هو صاحبها، كمقدمة علم الاستغراب واليسار الإسلامي إلى غيرهما من الحقول الفلسفية والتجديدية التي اشتغل عليها.
من المحطات اللافته في مسيرة الدكتور والفيلسوف حسن حنفي، هو ذلك الحوار الفكري والعلمي الثري والكبير والممتع، الذي دار على صفحات مجلة اليوم السابع العربية الصادرة في باريس حينها، بينه وبين المفكر العربي الكبير محمد عابد الجابري عام ١٩٨٩م.
التجاهل والتهميش
دفع حنفي ثمن موقفه السياسي الثوري والتنويري الرافض لكل العمليات التجميلية في بنية الأنظمة السياسية الحاكمة، وظل وفياً لمنهجه الثوري في التغيير، مما جعله يبدو غريباً وحيداً بهذا السياق، فقرر مرات عديدة أن يغترب بعيداً في جامعات العالم ومراكز أبحاثها عاكفاً على مشروعه الفكري الذي لم ينل حظه من الدرس والبحث والنقاش حتى هذه اللحظة، على عكس رفيق دربه كما كان يطلق عليه محمد عابد الجابري ومشروعه في نقد العقل العربي مثلاً الذي انتشر وذاع في المشهد الثقافي والفكري العربيين بفعل ما كتبه جورج طرابيشي في نقد نقد العقل العربي وغيرها.
يضاف إلى قائمة أسباب التغييب الفكري لمشروع حسن حنفي بجانب عدم رضى النظام عنه أنه كان لا يزال متهماً بإسلاميته باعتبار خلفيته الإخوانية عند عديد من نظرائه من مثقفي اليسار، فيما يُتهم أيضاً بين الإسلاميين بيساريته، فظل يسارياً بنظر الإسلاميين وإسلامياً بنظر اليساريين كما قال ذات مرة، ولم يحاول أحد الاقتراب منه وقراءة فكره عبر مشروعه الذي اشتغل عليه طويلاً.
التنوير عالي الكلفة عربياً
ظل التنوير الفكري والثقافي لدى حنفي هو السبيل الوحيد لانتشال هذه الأمة من وهدتها، وخاض في هذا السياق معاركه ومطارحاته غير آبه بأحد سوى ما يؤمن به، وتجلى ذلك بحوار المشرق والمغرب، فقال إنه الحوار الذي تجاوز مُسلَّمات الصواب والخطأ إلى نسبية الأفكار والتصورات، وإن ما قد تعتبره صواباً قد لا يكون كذلك لدى غيرك، ولهذا لم يكن حنفي ذا منزع راديكالي بأطروحاته رغم ثوريته التنويرية، لكنه في المقابل لقي الكثير من التهديد والتكفير والتفسيق والازدراء، لكنه مضى في مساره المعرفي واستوى لديه فيه المدح والقدح، في تجلٍّ واضح لفنائه في ذات المعرفة وتوحده بها.
فبعد عودته إلى مصر عام 1989 أسس الجمعية الفلسفية المصرية، إطاراً معرفياً ناظماً للاشتغال الفلسفي وكل المنشغلين في هذا الحقل، وظل قائماً على هذا العمل الذي واجه الكثير من التضييق، لكنه مضى فيه رغم كل المعوقات فظل يتعهد الباحثين والهواة من الشباب في حقلي الدراسات الفكرية والفلسفية، وظل يعقد مؤتمراته السنوية بجهود ذاتية بالغة الصعوبة والتعقيد، مؤسساً بذلك معنى آخر في العمل الفكري هو الإيمان بقدرة الأفكار النافعة على البقاء والاستمرار.
حسن حنفي الذي عرفته
كنت ذات مرة صيف 2012 ضيفاً على القاهرة، وكنت حينها عازماً على لقاء نخبة من المفكرين الذين قرأنا لهم الكثير ولم نعرفهم أو نلتقيهم، وبدأت مشواري بحسن حنفي الذي زرته في مكتبه بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة.
ورغم زحمة انشغال الرجل ومشاغله الكثيرة أكاديمياً وبحثيًا، وجدته شخصاً غاية في اللطف والبساطة والتواضع، وكان اللقاء لمدة نصف ساعة فقط، لأعرض عليه ما لدي من أفكار، فإذا بالوقت يأخذ منا ما يقارب ساعة ونصفاً، وكان من المصادفة حينها أن مؤتمره السنوي للفلسفة على وشك الانعقاد، فطلب مني المشاركة بهذا المؤتمر.
شاركت في مؤتمر السيرة الذاتية من منظور فلسفي الذي انعقد حينها في جامعتي المنيا والمعهد السويدي في الإسكندرية على مدى أسبوع، ظللت بجوار الدكتور حسن طوال هذه الرحلة التي كان فيها مريضاً لكنه أصر على حضور كل أعمال المؤتمر وفاعلياته.
خرجت بانطباع عام ومهم في هذه التجربة التي كنت أتمنى أن تتكرر، لكنها لم تتكرر للمتغيرات الكبيرة التي طرأت بفعل الثورة المضادة وويلاتها التي تحدث عنها حسن حنفي في مذكراته بالقول إنها مأزق كبير أدخل المنطقة كلها في أتون دوامة لا خروج منها.
وختاماً مثلت ثورات الربيع العربي مختبراً حقيقياً لكثير من الأفكار والأشخاص والتيارات بالوطن العربي، وكشفت لنا الكثير من الزيف وعرت كثيراً من الأدعياء في أول اختبار حقيقي لمدى إيمانهم بما يحملونه من قيم وشعارات رنانة، لكنها سقطت عند أول محطة اختبار لهذه الأفكار، وكان لأستاذنا الدكتور حسن حنفي مسار مغاير لكل الذين سقطوا، مثبتاً بذلك عظمة الرجل ومدى إيمانه العميق بفكره وكل القيم العظيمة التي تصون الإنسان وتعلي من قيم الحرية والكرامة الإنسانية، رحمة الله عليه.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.