تابعنا
إن السمة التي تغلب على طبيعة العلاقة بين القوتين هي التسخين المستمر. وإذا كان يبدو أنهما إلى الآن يحاولان إدارة عملية التسخين بطريقة حذرة، إلا أنه لا يوجد ضمان أن لا تنفلت الأمور من عقالها، ويتطور التسخين إلى مواجهة مباشرة.

يتوجه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى الصين يوم الأحد القادم 18 يونيو/حزيران وهي الزيارة المؤجلة منذ فبراير/شباط من هذا العام في محاولة منهم لإعادة رسم خطوط التنافس مع الصين قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة ويجد العملاقان نفسيهما في مواجهة مباشرة ضد بعضهما البعض. وهي مواجهة يبدو أنهما غير مستعدين لها في الوقت الحاضر.

إن السمة التي تغلب على طبيعة العلاقة بين القوتين هي التسخين المستمر. وإذا كان يبدو أنهما إلى الآن يحاولان إدارة عملية التسخين بطريقة حذرة، إلا أنه لا يوجد ضمان أن لا تنفلت الأمور من عقالها، ويتطور التسخين إلى مواجهة مباشرة. إن أقل ما يمكن أن يقال هو أن التسخين في عالم مضطرب وغير مستقر مهمة محفوفة بالمخاطر.

بدأت عملية التسخين بين الصين والولايات المتحدة منذ فترة ليست بالقصيرة. لقد تواجه الطرفان بشكل شبه مباشر في الحرب الكورية مطلع خمسينيات القرن الماضي. وبالرغم من سياسة الباب المفتوح التي تبنتها إدارة نيكسون-كسنجر مطلع سبعينيات القرن الماضي تجاه الصين لإحداث شرخ في المعسكر الشيوعي، إلا أن العلاقة ببن واشنطن وبكين سرعان ما عادت إلى المنافسة، إذ وصلت إلى ذروتها مع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الذي شن حرباً اقتصادية غير مسبوقة.

لفترة طويلة، كانت المنافع الاقتصادية تغطي على المنافسة الجيوسياسية. استفادت الشركات الأمريكية (مثل أبل) من السوق الصينية بشكل هائل. ولكن مع مرور الوقت، بدا انتقال الوظائف من الولايات المتحدة إلى الصين أحد أبرز العوامل المقلقة والتي وظفها الرئيس دونالد ترمب بشكل ذكي لكسب قاعدة قوية من المؤيدين وغالبيتهم من الطبقة الوسطى من الأمريكان البيض الذين تضررت أعمالهم بسبب سياسات الليبرالية الحديثة التي بدأت مع الثنائي ريغن-تشاتر.

تبنت إدارة الرئيس ترمب سياسة مزدوجة تتمثل بالحمائية-والانعزالية. فيما يخص الحمائية الاقتصادية، كانت الصين الهدف الأبرز للإدارة الأمريكية حينها، إذ فرضت الولايات المتحدة جملة من العقوبات الاقتصادية على شاكلة تعرفة جمركية استهدفت ما قيمته 200 مليار من المنتجات الاقتصادية وذلك عام 2019.

بالنسبة إلى العالم الذي بدأ يشاهد اشتعال سلاح التعرفة الجمركية لأول مرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، فإن حقبة من الحرب الاقتصادية بالنسبة إليه قد بدأت فعلاً. لقد كانت بداية تضعضع الاقتصاد الدولي (الذي قام على مبدأ التجارة الحرة) إلى أن مُني بضربة موجعة على إثر جائحة كوفيد-19، والإغلاقات الشاملة التي رافقتها. أحدثت التعرفة الجمركية، وجائحة كورونا حالة من الهلع في الأسواق العالمية مازلنا نعيش آثارها حتى يومنا هذا.

بالنسبة إلى الولايات المتحدة، يبدو أن نهجها تجاه الصين قد استقر على تبني سياسة "الإبطاء الاستراتيجي". على عكس سياسة الاحتواء الاستراتيجي التي تبنتها سابقاً تجاه الاتحاد السوفيتي. تدرك واشنطن أن احتواء دولة بحجم الصين أمر يتعذر القيام به. فالصين منفتحة على العالم بشكل كبير سياسياً وجغرافيا. فللبلاد منافذ بحرية استراتيجية، في حين تتواصل برياً عبر "طريق الحرير الجديد" مع الصفيحة البرية من أقصى شرق آسيا الوسطى إلى أقصى غرب أوروبا. ولذلك وفي ظل هذا الواقع المعقد، والصعود الصاروخي للصين، يبدو أن "الإبطاء الاستراتيجي" هو الخيار الأكثر عقلانية بالنسبة إلى صناع القرار في واشنطن.

اقتضت "استراتيجية الإبطاء" فرض قيود على محركات التنمية الصينية وعلى رأسها القطاع التكنولوجي. لقد أشعلت واشنطن مع بكين حرب الرقائق الإلكترونية الدقيقة، أو أشباه الموصلات كما تُعرف، إذ فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على أي شركة تزود الصين بهذه التكنولوجيا أو أي جزء منها. وكما هو معروف تدخل أشباه الموصلات في الصناعات التكنولوجية الحديثة جميعها، من الأجهزة اللوحية المحمولة، إلى مركبات الفضاء إلى السيارات الكهربائية الحديثة، وأجهزة الحاسوب وغيرها. إن إبطاء هذا القطاع في الصين من المرجح أن يفرمل مشاريعها التنموية وبالتالي طموحاتها الخارجية. بالنسبة إلى العديد من المراقبين فإن العقوبات الأمريكية على قطاع التكنولوجيا في الصين يعد بداية حقبة جديدة بين البلدين لها ما بعدها.

لا عجب أن تتخذ الصين خطوات عاجلة لتحدي هذه القيود وذلك عبر زيادة الاستثمار في المجالات التكنولوجية الدقيقة من ناحية، وتسريع عمليات التجسس على الغرب من ناحية أخرى. فقد أثبتت حادثة منطاد التجسس الصيني على البر الأمريكي ذروة عمليات التجسس. في السياق ذاته، لا تقل عنها الأنباء التي أوردتها العديد من التقارير الإعلامية عن عزم الصين إنشاء قواعد تجسس فائقة التطور على الأراضي الكوبية للتجسس على الولايات المتحدة.

باختصار، عززت العقوبات الأمريكية من توجه الصين نحو الاعتماد الذاتي، وذلك وفق أربعة مسارات رئيسية هي: الحد من استمرار تعرض الصين للضغوط الاقتصادية الخارجية؛ وردع الضغوط الاقتصادية الأمريكية وحلفاء واشنطن في المستقبل؛ وزيادة الاعتماد الاقتصادي الدولي على الصين؛ وإحداث اختراق في التطبيقات الاقتصادية والأمنية لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.

تبرز هذه النقاط الأربع قدرة الصين على التكيف والتعاطي مع المستجدات القابلة للإدارة نوعاً ما. ولكن تبقى هناك قضايا عالقة بين العملاقين يبدو أن هامش المناورة بينهما يضيق مع الوقت. تتعلق هذه القضايا بالخلافات الجيوسياسية وتحديداً في بحر الصين الجنوبي وجزيرة تايوان. ترفض الولايات المتحدة بشكل قاطع الاعتراف بالجزر الاصطناعية التي تفرضها الصين كأمر واقع في بحر الصين الجنوبي، في حين تسعى الصين إلى إنهاء استقلال تايوان وضمها إلى الأرض الأم وهو ما ترفضه الولايات المتحدة تماماً.

يختلف الخبراء بشكل كبير في التنبؤ بمستقبل العلاقة بين الولايات المتحدة والصين. فالمحسوبون على النهج الليبرالي-المثالي يرون أن سيناريو التعايش هو الأقرب بينهما. في حين يذهب أصحاب النهج الواقعي إلى أن الصدام العسكري المسلح هو السيناريو الأقرب. ربما لا تسعفنا كثيراً النظريات الحالية في معرفة شكل مستقبل العلاقة بينهما. ولكن ما هو مؤكد حالياً أن عملية التسخين التي تجري على قدم وساق بين واشنطن وبكين لا تخدم السلم والاستقرار الدوليين خصوصاً في ظل نظام عالمي هش ويكتنفه الكثير من الـ "لا يَقين".

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي