من المتوقع أن تمتد الحرب في السودان إلى مختلف الدول الإقليمية المحيطة بالسودان / صورة: AA Archive (AA Archive)
تابعنا

لا يمكن التكهن بما ستكون عليه الأوضاع في منطقتَي القرن الإفريقي وجنوب الصحراء الإفريقية بعد عشرة أشهُر من الحرب الدائرة الآن في السودان، فقد بات الفتق يتسع على الراتق، وتقف هاتان المنطقتان على شفير الهاوية، لما لهذه الحرب من امتدادات إقليمية تتجه شرقاً إلى القرن الإفريقي عند المحيط الهندي وغرباً حيث الدول الإفريقية جنوب الصحراء أو ما تُسمى بدول الساحل حتى المحيط الأطلسي، وذلك لأسباب جيوسياسية لا تخطئها عين، وسياقات عرقية وتداخلات قَبَلية وتعارض مصالح وتقاطع أطماع.

ويبدو السودان الذي يمثل حلقة وصل بين شرق القارة وغربها، ونقطة التقاء بين شمال القارة وجنوبها، وبُعده الحضاري باعتباره منطقة رابطة بين الثقافات العربية الإسلامية والإفريقية وتتلاقى فيه دماء وأعراق شتى من كل صنف لون.. يبدو ككرة لهب تتقاذفها الأرجل شرقاً وغرباً، فهذه الحرب الطاحنة لا تشبه الحروب السابقة في القارة السمراء، فقد تحوّلت من يومها الأول إلى حرب إقليمية، تمهدت فيها كل الطرق للتدخلات من جوار السودان القريب، ومن الإقليم الأكثر تأثيراً في أوضاع السودان وهو الخليج العربي، وترافقت مع هذا مصالح دولية غربية ترى دوائرها المتحكمة فيها أن المنطقة كلها، لا السودان وحده، حانت اللحظة الحاسمة لإعادة تركيبها وتقسيمها من جديد، والسيطرة عليها وعلى مواردها الطبيعية، ويقع السودان في عين هذه العاصفة التي مِن غبارها العنيف وُلدت هذه الحرب.

إذا كان بعض دول الجوار السوداني تورَّط في الحرب بشكل ظاهر، خصوصاً إثيوبيا في القرن الإفريقي، وتشاد في دول الساحل، واللواء المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا، وإفريقيا الوسطى في الجنوب الغربي، وجزء من المسؤولين في دولة جنوب السودان، فإن الحرب قد تجاوزت عملية تدفق مرتزقة وتجنيد عناصر محترفة عابرة للحدود.

وتحولت مواقف هذه الدول إلى داعم فاعل للتمرد السوداني ومساند فعال لميليشيا الدعم السريع، تقدم الدعم السياسي وتفتح حدودها للإمداد بالعتاد العسكري والسلاح، وتشجع مرور المرتزقة القادمين من إفريقيا الغربية أو المرتزقة الآخرين من إثيوبيا واليمن وليبيا وجنوب السودان. وما كان لهذه الحرب أن تبلغ شهرها العاشر لو لم تكن حرباً متحولة من نزاع داخلي إلى صراع إقليمي ودولي.

في تصنيف دول الجوار السوداني فإن مصر وإريتريا هما الدولتان اللتان لم تطَلْهما الاتهامات والشكوك الرسمية وغير الرسمية، فيما يعلو وينخفض بعض الشكوك حول دولة جنوب السودان نسبة إلى وجود مقاتلين هم في الأساس جنود في الجيش الشعبي لجنوب السودان وميليشيات تتبع لأمراء حرب وزعماء سياسيين جنوب سودانيين.

المهم أن مصر اتخذت موقفاً منذ بداية الحرب مسانداً لشرعية القوات المسلحة السودانية واستقبلت قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان في أول زيارة خارجية له بعد اندلاع الحرب، وزارها عدد من المبعوثين الرسميين والوزراء السودانيين، واحتضنت اجتماعات ولقاءات مختلفة متسقة مع موقفها الرسمي من الحرب، واستضافت قمة لدول جوار السودان، وجرى تكوين لجنة تنفيذية لوزراء خارجية هذه الدول لمتابعة ما خرجت به القمة.

وترى مصر أن أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية لا تنفصل عن الأمن السوداني، فالاستقرار والسلام في السودان هما الأساس استقرار وطمأنينة في مصر، لكنّ كثيراً من المراقبين يرون أن تحركات مصر ودورها في لجم الحرب ووقفها لا تتناسب مع حجم المخاطر التي يتعرض لها السودان وتهدد بانهيار الدولة أو تقسيمها، لكن مهما كان فإن الموقف المصري هو الأبرز سنداً ودعماً لدولة السودان من بين دول الجوار.

ليبيا التي يسيطر على شرقها وجنوبها الشرقي اللواء حفتر هي داعم للتمرد السوداني، وعبرها تصل سيارات الدفع الرباعي المستخدمة عتاداً عسكرياً، وهي عربات مقاتلة، ويتدفق منها الوقود عبر البرّ إلى الدعم السريع، إضافة إلى العتاد الحربي والأسلحة النوعية والذخائر، والأهم من ذلك فإن جماعات المرتزقة الذين كانوا يقاتلون مع اللواء المتقاعد حفتر جرى إرسالها إلى السودان للقتال مع الدعم السريع.

كما توجد معسكرات في جنوب ليبيا وفي مناطق الكفرة والعوينات فتحت فيها معسكرات لتجميع المرتزقة وتنظيم صفوفهم وإرسالهم إلى السودان، فيما للحكومة الليبية في العاصمة طرابلس موقف مخالف تماماً لموقف حفتر، وتسعى لمنع اتساع رقعة الحرب والحدّ من التدخلات الإقليمية في الصراع الذي استقطب أعداداً تُقدَّر بعشرات الآلاف من المرتزقة الأجانب، وتسعى طرابلس لأن يكون دورها في إطار ما خرجت به قمة الجوار السوداني في يوليو/تموز 2023.

تلعب تشاد وإفريقيا الوسطى في جنوب وجنوب غرب السودان رأس الرمح في دعم التمرد، وهما دولتان متاخمتان لإقليم دارفور الذي تسيطر على جزء كبير منه قوات الدعم السريع، وعبر تشاد يصل الإمداد العسكري خصوصاً مطار أم جرس شرقي تشاد على مقربة من الحدود السودانية، ومطار أبشي عاصمة الشرق التشادي، وبعض منه من مطار العاصمة أنجمينا، وتجد قوات الدعم السريع وقيادتها دعماً سياسياً واضحاً من الرئيس الانتقالي محمد إدريس ديبي.

تنطلق تحركات قيادة التمرد من بلاده، وتنسيق عملية جلب المقاتلين المرتزقة يجري من تشاد، وتعبر مجموعات هؤلاء المرتزقة الأراضي التشادية إلى السودان، فيما انخرط الآلاف من التشاديين في هذه الحرب، وتوجد أسواق في تشاد للسيارات المنهوبة من السودان.

وتغيَّر الموقف التشادي من الحرب عقب زيارة محمد إدريس ديبي في مطلع يونيو/حزيران 2023 إلى العاصمة الإماراتية أبوظبي، إذ كان في البداية داعماً للجيش السوداني، فعاد من هناك بعد قرض إماراتي بلغ 1,5 مليار دولار فتغير الموقف تماماً وأصبحت تشاد موالية للتمرد بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ، بالإضافة إلى أن مجموعات من المعارضة التشادية المسلحة انخرطت في الحرب مساندة للدعم السريع لأسباب قبلية وسياسية، قد تخشى حكومة الرئيس الانتقالي أن الحملة الارتدادية العكسية بعد الحرب ستكون وجهتها تشاد.

في إفريقيا الوسطى التي شهدت خلال السنوات الخمس الماضية نشاطاً مشتركاً لشركة فاغنر الروسية وقوات الدعم السريع في التنقيب عن الذهب والألماس واليورانيوم ومعادن نفسية، وتقدّر جهات غربية أن ما نُهب من هذا البلد، خصوصاً الذهب واليورانيوم، يتجاوز عائده 20 مليار دولار في أقل تقدير.

ويحظى الرئيس فوستان آرشانج تواديرا في عاصمته بانقي بحماية كاملة من قوات فاغنر، فيما تولّت الدعم السريع حماية المقاطعات الشمالية والشرقية من إفريقيا الوسطى من هجمات المعارضة المسلحة، حركة سيليكا، حركة انتي بالاكا. وتوجد مطارات ترابية في شمال شرق إفريقيا الوسطى كانت تسيطر عليها شركة فاغنر، يرجح أنه قد جرى تشغيلها، تهبط وتقلع منها طائرات شحن متوسطة الحجم تحمل الدعم العسكري.

أما دولة جنوب السودان فالموقف الرسمي شبه محايد وتسعى للحل السياسي، إذ طرحت مع بداية الصراع وساطة لكن لم تجد النجاح بسبب أن واشنطن وقفت في وجهها، فهي لا تريد إعطاء أي دور إقليمي للرئيس سلفاكير ميارديت، وينحصر دورها الآن في مبادرة دول منظمة الإيغاد، لكن المعلومات والتقارير الدبلوماسية والاستخبارية تشير إلى أن أطرافاً نافذة داخل حكومة الرئيس سلفاكير تدعم تمرد الدعم السريع، ويوجد مقاتلون من جنوب السودان يقاتلون في صفوف الدعم السريع داخل الخرطوم وولايات أخرى.

الموقفان الإثيوبي والإريتري متناقضان تماماً، فبينما أعلن الرئيس الإريتري أسياس أفورقي عن موقف واضح مع الدولة السودانية وتماسكها وشرعية قواتها المسلحة، محذراً من مخاطر الحرب وامتداداتها، فإن إثيوبيا اتخذت خطوات فهمت منها الحكومة السودانية رسالة واضحة بأن إثيوبيا التي تعلن عن موقف داعماُ لمبادرة الإيغاد وتكرر حرصها على الأمن والاستقرار في السودان، فتحت الأبواب على مصراعيها لقيادة التمرد والدعم السريع وعناصره للانطلاق والحضور السياسي، وكذلك سمحت لمجموعة الأحزاب المدنية المتحالفة مع الدعم السريع التي يقودها رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك بممارسة كل أنشطتها من أديس أبابا.

وتوجد استثمارات بمئات الملايين من الدولارات لقيادة التمرد السوداني، عبارة عن أعمال عقارية ومصانع ومنتجعات سياحية ومزارع وإنتاج حيواني، بالإضافة إلى مبالغ تصل إلى مليارَي دولار ودائع في البنك التجاري الإثيوبي، واستقبلت الحكومة الإثيوبية محمد حمدان دقلو (حميدتي) استقبالاً رسمياً في زيارته لها في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، باعتباره رجل دولة، وقابله رئيس الوزراء آبي احمد. وقد مارَس حميدتي نشاطه السياسي من أديس أبابا والتقى ووقّع اتفاقاً مع تنسيقية القوى المدنية بقيادة حمدوك، ومنها انطلق في جولاته الإفريقية.

إذا كانت هذه هي مواقف الدول حول السودان، فإن خطر تمدد الحرب في كل اتجاه قائم، لن تعصم هذه البلاد مواقف مع أو ضد التمرد، فالحقيقة الواضحة أن عوامل الجغرافيا والديمغرافيا والامتدادات القبلية والعرقية والفقر وغياب التنمية وتضارب المصالح والهوامش السياسية التي تعيش فيها قطاعات واسعة من شعوب المنطقة ستشعل نار الحرب عاجلاً أم آجلاً في المنطقتين (القرن الإفريقي، وجنوب الصحراء)، وستكون حرب السودان مجرد الشرارة التي قدحت النار.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً