من المجازة التي ارتكبها الأرمن في منطقة شرق الأناضول بداية القرن العشرين  (AA)
تابعنا

بينما تتواصل الحرب الروسية الأوكرانية بضراوةٍ شديدةٍ منذ 24 فبراير/شباط 2022، فإن الساسة والقادة في الغرب على اختلاف مشاربهم تفوقوا على أنفسهم في تعريف جرائم الحرب التي يرتكبها الجيش الروسي ضد المدنيين الأوكرانيين.

وبغضّ النظر عن الاتهامات المتبادلة بين الأطراف المتحاربة حول المذابح المرتكَبة، اتهم الرئيس الأمريكي جو بايدن روسيا بارتكاب إبادة جماعية في أوكرانيا، واتهم الرئيس الروسي بوتين بـ"محاولة إبادة فكرة أن يكون المرء أوكرانيّاً".

الاتفاقية الأممية لمنع الإبادة الجماعية

بادئ ذي بدء، يُعَدّ مصطلح الإبادة الجماعية (Genocide) تعريفاً قانونياً، إذ يُشتقّ من الكلمة ذات الأصل اليوناني "genos" أي سلالة، والكلمة اللاتينية "caedere" التي تعني اغتيال أو ذبح. وقد نشأت الفكرة وراء الاتفاقية الأممية لمنع الإبادة الجماعية، التي اعتُمدت في 1948 ودخلت حيّز التنفيذ في 1951، عن طريق الحقوقي البولندي اليهودي رفائيل ليمكين. بعبارات بسيطة، تحصر الإبادة الجماعية جميع الجرائم التي تُرتكب بِنِيَّةِ "تدمير مجموعة قومية أو عرقية أو دينية، كلياً أو جزئياً". وفقاً لسجلّ الأمم المتحدة، كانت الولايات المتحدة هي التي أصدرت، بعد اعتماد الأمم المتحدة اتفاقية الإبادة الجماعية، تحفُّظين، وأصدرت مذكرة تفاهم مُفصلة.

الرئيس ماكرون: مصطلح الإبادة الجماعية يجب أن يُعرَّف عن طريق المحامين

رفض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على الجانب الآخر، أن يصف أفعال الجيش الروسي في أوكرانيا بأنها إبادة جماعية. وفقاً لوجهة نظر ماكرون، يُعَدّ ذلك "تصعيداً في الألفاظ" لا يسهم في عملية السلام. وقال إن الجيش الروسي ارتكب بالفعل جرائم حرب في أوكرانيا، لكنه كان حريصاً الآن حول استخدام المصطلحات. في مقابلة مع محطة الإذاعة الفرنسية France Bleu. كان ماكرون واضحاً، إذ قال إن مصطلح الإبادة الجماعية يجب أن يُعرَّف عن طريق المحامين لا الساسة.

النهج الانتهازي لاستخدام مصطلح الإبادة الجماعية

علّق كلّ من الرئيس الأمريكي بايدن والرئيس الفرنسي ماكرون على أفعال الجيش الروسي في أوكرانيا، ويبدو النهج الانتهازي المتعرّج لاستخدام مصطلح الإبادة الجماعية واضحاً من تصريحات كلا الرئيسين.

تبرز في الواجهة ازدواجيةُ المعايير لدى الغرب، تحديداً في الاستخدام غير النقدي لمصطلحاتٍ على شاكلة الإبادة الجماعية، إذ إنها تُستخدم دائماً عندما تكون المصالح السياسية ذات أولوية تسبق الاتفاقيات الدولية الملزمة التي على شاكلة اتفاقية الإبادة الجماعية.

وقد قُوّضَت الاتفاقية عن عمدٍ على مدى سنوات عن طريق منظمات الضغط الأرمنية وداعميها. ألم يكن البرلمان الفرنسي هو الذي صنَّف في 2001 إعادة توطين السكان الأرمن في الحرب العالمية الأولى، على أنه إبادة جماعية؟ ألم يعلن إيمانويل ماكرون يوم 24 أبريل/نيسان ليكون "يوم تذكار الإبادة الجماعية للأرمن" في 2019 بموجب قرار رئاسي، وفاءً بوعد انتخابي تَقدَّم به أمام الناخبين الأرمن النافذين في فرنسا؟

الجرائم الاستعمارية الفرنسية في الجزائر

في أعقاب الحرب العالمية الثانية تَشكَّلَت حركة تحرير في الجزائر التي كانت مستعمرةً فرنسيةً آنذاك، وقاتلتها فرنسا بعنف. وفي هذا السياق فقد عشرات الآلاف من الجزائريين حياتهم في البداية. ونتيجة لحرب الاستقلال الجزائرية ضد الاستعمار، قُتل ما يصل إلى 1.5 مليون جزائري. ترفض فرنسا الاعتراف بجرائمها الاستعمارية في الجزائر، ناهيك بذكر الاعتذار، ولا يوجد مجال في الأساس للحديث عن التعويضات.

دعمت باريس المنظمات الأرمنية الراديكالية في الإمبراطورية العثمانية

تحضر فرنسا على الفور دائماً عندما يتعلق الأمر باتهام تركيا بما يسمى بـ"الإبادة الجماعية" ضد العثمانيين الأرمن، لكنها تُخفِي مشاركتها الذاتية خلال الحرب العالمية الأولى ضدّ الإمبراطورية العثمانية، فلا يقتصر الأمر على احتلال المدن التركية، مثل أضنة وعنتاب ومرعش ومرسين وأورفة، بل إنها كذلك دعمت المليشيات الأرمنية المتمردة بالسلاح والذخيرة.

المليشيات الأرمنية تركت أثر الدمار والرعب في الأناضول الشرقية

الأدهى أنه كان كثير من الأرمن يقاتلون في صفوف الجيش الفرنسي، بجانب فيلق أرمني نفّذ مذابح ممنهجة وعمليات سلب ونهب ضدّ السكان المدنيين الأتراك المسلمين.

يتخلل أثر الدمار والرعب في أرجاء الأناضول الشرقية، ويتضح النطاق الكامل للفظائع الأرمنية ضد السكان الأتراك المسلمين في المقابر الجماعية الكثيرة التي حُفرت. على سبيل المثال، هاجمت وحدات أرمنية المدنيين غير المسلحين في مدينة إغدير الكائنة بالأناضول الشرقية، وقُتل المئات بقسوة. وفي مدينة موش وحدها ارتكبت المليشيات الأرمنية مذبحة ضد النساء والأطفال والكهول، وقتلت نحو 2800 شخص.

بعد الاستيلاء على مدينة أرضروم الواقعة في الأناضول الشرقية عن طريق الجيش القيصري الروسي في 16 فبراير/شباط 1916، حبست المليشيات الأرمنية 587 من سكان قرية أورتاباهتشي (تشينيس) داخل المسجد وأضرمت النيران في مكان عبادة المسلمين، وقتلت جميع من كانوا في الداخل. حول هذه المذبحة شهادات من أبناء عائلات الضحايا القتلى الذين شاهدوا الفظائع التي ارتكبها الأرمن. وفقاً للبيانات الرسمية، فقد 524 ألف شخص حياتهم بسبب عمليات القتل الجماعية التي ارتكبتها المليشيات الأرمنية ضد السكان الأتراك في منطقة الأناضول الشرقية ومنطقة جنوب شرق الأناضول.

تركيز أحادي الجانب على الرواية الأرمنية

من المعروف أنه خلال إعادة توطين السكان الأرمن من مناطق الحرب خلال الحرب العالمية الأولى، فقد كثير من الأرمن حياتهم بسبب الأوبئة المتفشية والجوع والإعياء والهجمات التي شنتها العصابات المغيرة، حتى في ظل وضع الحكومة العثمانية خططاً للحماية ونقل الغذاء. ورغم ذلك يُعرَض جانب إعادة التوطين من منظور أحادي الجانب ومؤيّد للأرمن، يركّز فقط على الرواية الأرمنية ويُلصِق نيةَ إبادةٍ بهؤلاء المسؤولين عن قرار إعادة التوطين، وهو ما لم يكن موجوداً بهذا الشكل.

مقترح تركيا تأسيس لجنة مؤرخين مشتركة

اقترحت تركيا أكثر من مرة تأسيس لجنة مؤرّخين مشتركة لبحث الأحداث خلال الحرب العالمية الأولى، لكن هذا المقترَح قوبل بالرفض من جانب الحكومة الأرمنية. من خلال تسييس إعادة توطين الأرمن كحدث تاريخي، واستخدامها كأداة، يُثار الاستياء المناهض لتركيا، وهو ما قد يكون مفيداً للساسة في حملاتهم الانتخابية أو لمصالح المجموعات الأرمنية، لكنه لا يُفضي إلى إعادة تقييم صادقة للمعاناة التاريخية.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي
الأكثر تداولاً