علمي كل من السويد وفنلدا جنبا إلى جنب مع علم حلف شمال الأطلسي "الناتو"  (DPA)
تابعنا

بدايةً، لا بد من الإشارة إلى حقيقة أن الهجوم الروسي العسكري على أوكرانيا واتّباع موسكو الخيار العسكري لحلّ الخلافات السياسية والجغرافية مع كييف، كان السبب الأساسي في تفكير البلدين الإسكندنافيين في التخلي عن حيادهما التاريخي واتخاذ خطوات جدية ورسمية من أجل الانضمام إلى الناتو ضمن استنتاجات وخلاصات رأت أن العضوية ستكون بمثابة ضمانة أمنية واستراتيجية لحمايتهم من أي اعتداءات أو تصرفات روسية مماثلة، بعدما كسرت موسكو قواعد جدية صامدة في أوروبا منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

معلوم طبعاً أن ميثاق الناتو يشترط موافقة كامل أعضائه على انضمام دول جديدة إليه، بما يعني أنهم يمتلكون حق الرفض "الفيتو" لتوسيعه أو حتى ضمّ شركاء جدد ضمن برامج التعاون والتدريب، مع الانتباه إلى أن تركيا صاحبة ثاني أكبر جيش في الحلف بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وقامت تاريخياً بمهام متعددة ومركزية لصالحه، وعملياً باتت في مكانة لا تسمح بالاستغناء عنها أو تجاهل مواقفها حتى مع المنحى الاستقلالي للسياسات التركية المتبَعة في العقدين الأخيرين، والتي أجبرت دولاً وأطرافاً كثيرة داخل وخارج الحلف على احترامها.

ومن هنا كرّس الرفض التركي مرة أخرى أهمية ومركزية أنقرة، ليس فقط داخل الحلف وإنما في ما يتعلق بملفات وقضايا وتحديات إقليمية ودولية مرتبطة بالأزمة الأوكرانية، والتحولات الاستراتيجية الناجمة عنها بما في ذلك معضلات الأمن الغذائي وضمان تدفُّق الطاقة إلى أوروبا ومناطق أخرى مختلفة حول العالم.

الموقف التركي الرافض صدر عن مستويات رفيعة جداً، إذ أشار الرئيس رجب طيب أردوغان في حيثيات الرفض إلى تحوُّل البلدين وعلى الأخصّ السويد إلى فندق أو دار ضيافة لتنظيمات إرهابية معادية، تحديداً PKK الإرهابي بأجنحته وأذرعه المختلفة، فيما قال وزير الخارجية مولود جاوش أوغلو إن الشعب التركي يحمل مشاعر سلبية تجاه دول تتبنّى سياسات معادية لبلاده.

وكان لافتاً إعطاء الرئيس أردوغان بُعداً تاريخياً للمسألة بإشارته إلى خطأ الحكومات السابقة في الموافقة على طلب اليونان الانضمام إلى الحلف، علماً أنها لم تتخلَّ عن سياستها المعادية لتركيا ورفضت حلّ المشكلات الثنائية سلمياً وفق القوانين والمواثيق الدولية ومبادئ حسن الجوار، وبالتالي الانخراط في عملية جدِّية لترسيم عادل للحدود البرية والبحرية، بل إن أثينا وصلت حتى إلى حد الاستقواء بالحلف نفسه الذي ما كانت لتنضمّ إليه دون موافقة أنقرة.

لا يمكن التشكيك أو الجدال أبداً في أحقية وصوابية الموقف التركي الرافض لانضمام البلدين اللذين تَحوَّلا -خصوصاً السويد- إلى دار ضيافة للإرهابيين من تنظيم PKK، وبدرجة أقلّ جماعة فتح الله كولن "الإرهابية"، علماً أننا نتحدث عن تنظيم ارتكب ولا يزال جرائم موصوفة ضد تركيا وشعبها وأمنها، ومصنَّف إرهابياً من قبل أوروبا وأمريكا، وبالطبع حلف الناتو نفسه.

كما أنهما لم تتعاونا مع تركيا في ملف مكافحة الإرهاب إذ قدّمَت للبلدين 33 طلباً لتسلّيم إرهابيين خلال السنوات الخمس الأخيرة ولم تتلقَّ قَطّ ردوداً إيجابية منهما، فيما وصلت السويد إلى حد فرض عقوبات (2019) على تركيا لتنفيذها عملية عسكرية ضد الجناح السوري للتنظيم الإرهابي شملت تصدير بعض الأسلحة ومكوّناتها، وقدّمت في الوقت عينه مساعدات ومعدات عسكرية للتنظيم الإرهابي.

بناءً عليه، لا شكّ أننا أمام تناقُض سويدي-فنلندي صارخ، إذ تطلب الدولتان تحت ضغط الحاجة الانضمام إلى الحلف، فيما تدعمان سرّاً وعلانية وبشكل فظّ ومفضوح تنظيماً إرهابياً يهدّد دولة عضواً مركزية فيه، ويعتبره الحلف نفسه إرهابياً أيضاً.

إضافة إلى ذلك يُفترض أن يعبّر الناتو عن تحالف جدّيّ بين أعضائه، والبند الخامس فيه الذي دعا الدولتين أصلاً إلى الانضمام إليه، يطلب من الدول الأعضاء نجدة ومساعدة أي عضو آخر يتعرض للاعتداء أو التهديد فيه، عسكريّاً كان هذا أو حتى إرهابياً؛ التدخُّل الأمريكي في أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول تمّ تحت إطار الناتو. وهنا نجد أنفسنا أمام تناقض صريح، إذ تطلب الدولتان الانضمام إلى الحلف فيما تشكّلان هما أنفسهما تهديداً لأحد أعضائه صاحب ثاني أكبر جيش مع مساهمات محورية تاريخية وراهنة في عملياته ومهماته منذ تأسيسه.

في هذا السياق وفي ما يخصّ السويد أيضاً، فقد شهد النقاش الحزبي والسياسي حول الانضمام إلى الحلف لهجة معادية لتركيا تلامس إطار الكراهية والعنصرية، وتساؤلات من قبيل: كيف يمكن أن نساعد أو حتى نساهم في مساعدة تركيا أو الدفاع عنها عند تعرُّضها لأي اعتداء؟

إلى ما سبق كله، لا يمكن تجاهل أسباب وأبعاد أخرى للتحفُّظ التركي وتوسيع الحلف شمالاً باتجاه الحدود مع روسيا التي تعاطت بواقعية مع الأمر باعتبارها أن الانضمام نفسه لا يشكّل تهديداً لها، وعموماً يمكن الاستنتاج هنا أن وجود تركيا نفسها في الحلف يمثّل عامل تهدئة لروسيا واطمئنان إلى عدم الذهاب باتجاه سياسات انفعالية غير حكيمة ومدروسة.

للتحفظ التركي بُعد أمريكي لا بد من أخذه بعين الاعتبار أيضاً كون واشنطن تملك أكبر جيش في الحلف، وصاحبة نفوذ وتأثير كبير فيه، وتبدو متحمسة جداً لانضمام البلدين، ولا شك أن الوزير جاوش أوغلو سيبحث المسألة مع نظيره أنتوني بلينكن خلال زيارته العاصمة الأمريكية.

والشاهد هنا ضرورة احترام مكانة تركيا وقراراتها وتوجُّهاتها والإنصات جيداً إلى هواجسها ومطالبها، خصوصاً أنها دافعت عن الحلف والحاجة إليه عندما ادّعَت دول أوربية كبرى موته سريرياً في موقف استهدف فيه أيضاً تركيا ودورها بالحلف والإقليم بشكل عامّ.

رغم الحيثيات والأسانيد السابقة ورفع السقف من قبل القيادة التركية فإن هذه الأخيرة تبدو منفتحة تجاه الحوار مع الدولتين رغم حاجز عدم الثقة معهما، كما قال الناطق باسم الرئاسة إبراهيم قالن: "لا نرفض من حيث المبدأ فكرة انضمامهما إلى الناتو"، فيما أجرى وزير الخارجية النشط مولود جاوش أوغلو -ولا يزال- حوارات ثلاثية مع نظرائه في السويد وفنلندا على هامش الاجتماع الأخير لوزراء خارجية الحلف، الأحد الماضي في ألمانيا، وتوجد معلومات عن زيارة مرتقَبة لمسؤولين سويديين وفنلنديين رفيعي المستوى لأنقرة لخطب ودّها، علماً أنها لا تطرح شروطاً أو مطالب مستحيلة، بل محدَّدات متوافقة مع القوانين والمواثيق الدولية، ومع ميثاق الحلف نفسه نصّاً وروحاً.

في المحصلة، يبدو الموقف التركي أخلاقياً ومنطقياً وقوياً، ولا شك أن أنقرة في وضع يسمح لها بالحصول على مطالبها المحقة وإجبار ستوكهولم وهلسنكي على التوقف عن الغطرسة والمكابرة والانصياع للقوانين والمواثيق الدولية، بما في ذلك ميثاق الحلف نفسه. هذا الموقف الذي سيزيد حتماً مكانتها واستقلاليتها والنظرة إليها من الحلف وحتى من خصومه، باعتبارها الدولة الأكثر سيادة واستقلالاً داخل الحلف وأوروبا، كما قال عن حقّ الشهر الماضي الناطق باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً