الرئيس الأمريكي جو بايدين (Reuters)
تابعنا

أشارت التقارير مؤخراً إلى أن روسيا قد أصبحت المورّد الأول للطاقة إلى الصين متجاوزةً بذلك السعودية التي كانت تُعتبر تاريخياً المورّد الطاقوي الأول إلى العملاق الصيني. هذه البيانات لن تمرّ مرور الكرام على الاستراتيجيين القابعين في البيت الأبيض، فهذا توجه مُقلِق ينمّ عن تقارب متزايد بين روسيا والصين، وهو الأمر الذي عملت واشنطن على منعه طَوال عقود منذ إدارة الرئيس نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر. هذا التوجه، وتوجهات أخرى بدأت تطفو على السطح منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، يؤشر إلى أن الولايات المتحدة قد تكون أكثر الأطراف الخاسرة من الحرب بغضّ النظر عن مآلاتها.

راهنت الولايات المتحدة ومن خلفها حلفاؤها الأوروبيؤن على العقوبات الاقتصادية في مجال الطاقة لثني روسيا عن المضي قدماً في "عملياتها العسكرية" ضد أوكرانيا، معتبرين أن سوق الطاقة منذ عقود تَحوَّلت لصالح المشترين على حساب الموردين. كانت فكرتهم تدور حول احتمالية انهيار سوق الطاقة الروسية في ظل عدم وجود زبائن. ولكن التجربة أثبتت العكس، وأن سوق الطاقة ما زال يهيمن عليها قطاع الموردين، وأن لهم اليد الطولى في تحديد أسعار السوق ومدى استقرارها. استطاعت روسيا بشكل سريع تعويض الزبائن الأوروبيين بزبائن آخرين في وسط وشرق آسيا. فقد استطاعت أن تصبح المورد الأول للطاقة مع الصين مستثمرة الطريق البري الوحيد لتوريد النفط وهو خط أنابيب ESPO، وخط أنابيب الغاز الوحيد وهو Power of Siberia، هذا فضلاً عن النفط والغاز الروسيين اللذين باتا يُنقلان بحراً إلى البر الصيني.

وإذا بقي هذا التوجه سارياً فمن المرجح أن يقوم البلدان بتعزيز اعتمادهما المتبادل على الطاقة من خلال فتح أنابيب توريد للغاز والنفط جديدة وعدم الاكتفاء بالخطوط الوحيدة المتواجدة حالياً. يخدم هذا الاعتماد الطاقوي المتبادل الطرفين، فروسيا وجدت لها زبائن من الحجم الثقيل بوزن الصين، في حين تتخفف الصين من الطاقة القادمة من الشرق الأوسط والتي تعبر مضيق ملقة وبحر الصين الجنوبي، وهي مناطق غير مستقرة وقد تخضع للإغلاق في حال توترت العلاقات مع الولايات المتحدة بخصوص المسألة التايوانية. وعليه سيكسِب الاعتمادُ الطاقوي مع روسيا الصين مرونة أكبر في مواجهة أي تهديدات محتملة من الغرب وتحالفاته في المنطقة مثل تحالف أوكوس الذي يجمع مع أمريكا كلّاً من بريطانيا وأستراليا.

لم يقتصر الأمر على الصين، فقد دخلت الهند على الخطّ. قبل غزو أوكرانيا لم تكن الهند تشتري أي نفط تقريباً من روسياً، ولكنها الآن تستورد أكثر من 760 ألف برميل في اليوم حسب بعض المؤشرات. يؤشر هذا إلى زيادة التعاون ما بين روسيا والهند، فبعد قطاع السلاح، إذ تُعتبر روسيا أحد أبرز موردي السلاح إلى الهند، يدخل قطاع الطاقة على الخط، وهو ما يضع الجهود الغربية لاقتناص موقف من الهند ضد روسيا في عداد الفاشلة.

في الحقيقية، منذ الغزو الروسي لأوكرانيا اتخذت الهند، التي تُعَدّ أكبر الدول الديمقراطية في العالم، موقفاً سياسياً مغايراً عن حلفائها الغربيين. فقد امتنعت الهند عن التصويت ضد الغزو الروسي لأوكرانيا. ورفضت تحميل روسيا مسؤولية الهجوم، هذا فضلاً عن تثمين الهند للموقف الروسي من قضية كشمير الذي لطالما أيد وجهة نظر نيودلهي. هذا التقارب الهندي مع روسيا سوف يبعد الهند عن أي تحالف غربي ضد روسيا في منطقة المحيط الهندي، ويعدد من استقلالها الذاتي ومرونتها في المراوحة بين الخيارات المتاحة. وإذا ما استطاعت الهند والصين التوصل إلى تسوية لحل النزاعات الحدودية بينهما، فإن التقارب الثلاثي بين الهند والصين وروسيا سيكون كابوسا حقيقياً يقضّ مضجع الولايات المتحدة. فمشهد هذه الدول مجتمعة يترك الولايات المتحدة تبدو كأنها معزولة، خصوصا في ظل حقائق أخرى من قبيل رفض 34 دولة غير الهند والصين اتخاذ موقف الغرب في الحرب الأوكرانية، ما يعني أن ثلثَي سكان العالم في دول امتنعت عن التنديد بروسيا. فحتى المكسيك المجاورة للولايات المتحدة رفضت إدانة روسيا أو الانضمام إلى العقوبات الاقتصادية.

في الواقع إن الكابوس الأمريكي لا يتعلق فقط بتشكُّل جبهة آسيوية من تقارب دول عملاقة بحجم الصين والهند وروسيا، بل بتفكك الجبهة الغربية جراء تعارض الرؤى والمصالح بين اللاعبين الرئيسيين فيها، فضلاً عن الأزمات التي باتت تعصف بها بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم.

لقد حاولت الجبهة الغربية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الظهور بشكل موحدة ضد التهديد الروسي. وقامت بخطوات سريعة تجاه فرض عقوبات اقتصادية طالت غالبية القطاعات الروسية خصوصاً قطاع الطاقة. ولكن كان لهذه العقوبات نتائج عكسية، إذ سقطت أوروبا في مستنقع شحّ إمدادات الطاقة، الأمر الذي رفع الأسعار إلى درجة باتت تهدّد النسيج الاجتماعي الذي بدأت بوادره تلوح في الأفق مع خروج مظاهرات في بعض العواصم الأوروبية منها برلين للتنديد بسياسة العقوبات على روسيا وضرورة النظر فيها مجدداً.

دفعت هذه الحقائق القاسية الاتحاد الأوروبي إلى التفكير جدياً بإعادة النظر في سياسة العقوبات تجاه احتمالية تخفيفها من أجل استقرار سوق الطاقة وخفض الأسعار. تضارب الرؤى بين الحلفاء لا يقتصر على قطاع الطاقة. سياسياً، وبالنظر أسفل السطح، لا يبدو أن الجبهة الغربية موحدة. هناك المجر التي تغرد خارج السرب الأوروبي وترفض سياسة العقوبات على روسيا حتى بات البعض يصفها بـ"حصان طروادة". وهناك دول البلطيق التي تطالب بسياسات شديدة ضد روسيا تصل إلى درجة التدخل العسكري المباشر من الناتو، وهناك ألمانيا المترددة والتي تقدم رجلاً وتؤخّر أخرى في دعم وإسناد أوكرانيا، وهناك فرنسا التي تحاول استثمار الموقف لفرض أجندتها الأمنية على أوروبا وهو الأمر الذي يلقى معارضة شديدة من بروكسل.

تبدو الاختلافات في الجبهة الغربية واضحة على الصعيد العسكري أيضاً؛ تتحمل الولايات المتحدة العبء الأكبر في دعم المجهود الحربي لأوكرانيا، فحتى 20 مايو/أيار 2022 كانت الولايات المتحدة قد قدمت أو التزمت تقديم 54 مليار دولار كمساعدات عسكرية إلى كييف. وجاءت بريطانيا في المركز الثاني بفارق كبير نحو 2.50 مليار دولار، تلتها بولندا بـ1.62 مليار دولار وألمانيا بـ1.49 مليار دولار. اعتباراً من 20 مايو/أيار، كانت الولايات المتحدة قد خصصت أكثر من ثلاثة أضعاف المساعدات إلى كييف مقارنة بمثيلاتها من جميع دول الاتحاد الأوروبي الأخرى مجتمعة.

لقد أشارت تقارير مؤخراً إلى أن مخازن الحلفاء بدأت تنفذ، وقد تكون في الإسناد الغربي العسكري لأوكرانيا مشكلة، الأمر الذي يمدّ عمر الحرب وهو ما لا يصبّ في صالح أوكرانيا التي تدفع من لحمها الحي كل يوم. تنادي أصوات كثيرة بضرورة اتخاذ الغرب مقاربة مختلفة لوضع حد للحرب، وأن استفزاز روسيا لن يجد نفعا. فالخيار العسكري يبدو أنه استنفد احتمالاته، وعلى الغرب التفكير بالحلول الدبلوماسية لإنهاء الأزمة.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً