هتف المتظاهرون المصريون بشعارات أثناء مشاركتهم في مظاهرة تطالب بإقالة الرئيس عبد الفتاح السيسي في وسط القاهرة في 20 سبتمبر 2019. (AFP)
تابعنا

تحتل الصورة أعلى هرم النسق المعلوماتي في العصر الراهن الذي لم يعد يرى فيه البعض ثمة حواجز بين ما هو واقع حي وافتراضي؛ حيث تتدفق المضامين المصورة من الواقع وتنبث بكثافة وسيولة فائقة غير مقيدة بمعايير قيمية أو تقنية؛ المهم ما تدلل عليه من حال أو ما تفصح عنه من معلومات؛ معلومات قابلة لعدة أوجه من التأويل والاستقراء والتفسير والتحقيق.

وبالرغم من ذلك تُقدم الصورة على أنها الوسيط المرئي العاقل، والتمثيل اليقيني لما نعيشه خارج حدود الشاشة، هذا اليقين التصويري بمقدوره أن يلهب الانفعالات ويصنع روابط التضامن أو الاحتجاج دونما إنفاق كثير من الوقت في التفكير والنقد؛ اليوم، عبر الصورة يمكن أن نشهد حروباً وثورات في عوالمنا الافتراضية، بل وتغدو بمثابة النموذج الذي نقيس عليه واقعنا الحي.

وهو ما جعل الآمال تتعاظم وتعول على دور الصورة والشبكات التواصلية "بديل مؤسسات المجال العام" في تدعيم النضالات والمقاومة سيما في المجتمعات التي تعاني من الانسداد السياسي وتحكمها الأنظمة البوليسية، بل نحا بالبعض القول بأنّ المضمون التصويري الاحتجاجي، بوسعه صنع روابط "بصرية" والكشف عن القواسم المشتركة بين النضالات العالمية على غرار الأممية العمالية.

ولنا أن نعترف بما تنطوي عليه الصورة من قدرة على التأثير وإثارة الانفعال على نحو يشبه السحر مقارنة بالكلمة المكتوبة، وحين نتحدث عن الصورة فنحن نقصد كل مضمون مرئي سواء كان مقطع فيديو أو فيلم أو صورة منفردة.. إلخ.

لكن لا يفوتنا أن الصورة لا تعكس الواقع باليقين الذي تُقدم به، وإنما هي محتوى انتقائي وجزئي يعكس حيزاً محدوداً وزوايا كثيراً ما تكون ذاتية ومؤدلجة وخادعة أيضاً، تصنع واقعاً غير الواقع الذي من المفترض أنها تمثله؛ واقع مفرط الاصطناع بحسب توصيف " جان بودريار".

وفي حال إذا ما كانت الصورة تعكس واقعاً حقيقياً، ففي ظل السيولة الرقمية التي نعايشها، فنحن لسنا أمام واقع واحد وحسب، وإنما أمام واقع متعدد متضارب بقدر زوايا صوره، وتعقيدات المجتمع المعكوس، ما من شأنه أن يزيد الأمر التباساً وضبابية، ويُسلب المتلقي يقينه من المضمون المبثوث الذي يتلقاه، مما ينسحب على إمكانية اتخاذ القرارات وفرص الاستجابة الحاسمة.

سنضرب مثلاً هنا بما يمكن عنونته "بالاحتجاجات الافتراضية" وامكاناتها الواقعية التي حدثت في مصر خلال الأيام الماضية، والتي أطلق البعض عليها على سبيل السخرية " ثورة المليون فيديو" "وحروب الصور"، إشارة إلى سيل التسجيلات المصورة التي أعقبت تسجيلات المقاول "محمد علي" ، ونقف على سبب ضمن أسباب أخرى أكثر تعقيداً لا مجال لها هنا، ولماذا تباينت ردود الفعل والتبست فيما يتعلق بحدود وسيلة الصورة ؟

تدفقت تلك التسجيلات المصورة كتعبير رمزي عن واقع متناقض مفرط في هزليته، يتهاوى سياسياً واجتماعياً؛ وعن نظام لا سياسي، يعرف هو الآخر أنه فقد آليات سلطته الانضباطية وسبل الهيمنة، ولم يعد أمامه بجانب صناعة الخوف، من سبيل سوى الاستعانة على نحو مضمر، برموز تواجه مصدر معارضته بشكل مماثل، وبمقدورها أن تنتهج نفس أساليبه الاستعراضية شكلاً ومضموناً.

ولنشرح ذلك، نقول أنّ النظام بالرغم من أنه ما يزال يتحكم في إدارة وسائط السلطة الانضباطية ( الأسرة، المدرسة، مؤسسات التشريع والضبط، منظومة القيم مثل الفن والدين)، إلا أنه فقد فعاليتها، مما أسفر عن حالة من الانفلات المجتمعي المنطقي في واقع الحال، سيما في صفوف الشرائح العمرية تحت العشرين وصاعداً، تلك التي باتت تستمد نمط سلوكها وبنائها المعرفي وتشكل صورتها الذاتية بشكل رئيس من الوسائط الرقمية البديلة وشبكاتها التواصلية المرئية والمسموعة.

هذه الشرائح العمرية سيما المنتمية إلى التشريح الطبقي الأدنى، لا تأبه بالكود الأخلاقي ومعاييره، ولديها من المشاعر الساخطة والتخوفات من المستقبل، والصدمة من الواقع الذي خلفّه المد الثوري في المنطقة، وكانت هي الشرائح الأكثر تشرباً للمصطلحات والرؤى الثورية الجديدة التي ترسبت، والتي ربما تخلى عنها أصحابها من الثوريين القدامى تحت وطأة الإحباط وضرورات التعقل.

مما جعل هذه الشرائح أكثر سرعة وحسماً في الاستجابة، بل والإعجاب بأي خطاب مرئي شفاهي يلامس حماسهم ونمط سلوكهم، ومكامن السخط لديهم، وإنّ نظرة دقيقة على كشوفات الاعتقال الأولية وما تحتويه من بيانات المعتقلين من الشوارع عشية التظاهرات تؤكد ذلك، إذ تتراوح أغلب تواريخ الميلاد من العام 1990 إلى العام 2000 .

إذاً، وبمعنى آخر، مثلت الصورة التي قدمها محمد علي في تسجيلاته المصورة بالنسبة إليهم نموذجاً ورمزاً يُحتذى به، في حين أنها كانت مصدر ارتباك، وربما رفض من شرائح اجتماعية أخرى سواء الطبقة الوسطى المدينية أو الريف المحافظ، تلك الشرائح التي ما تزال تتمسك بالمعايير الأخلاقية للحديث العام، وتحتفظ في خيالها، جانب صورة " البطل الشعبي" القديمة، بصورة مناضل الشاشة الحديث، الذي لا بّد وأن يظهر فيها منضبطاً في تعبيراته ومظهره، ويحوز تاريخاً مشرفاً من النضال، وقدراً جيداً من التعليم والثقافة، لذا قد يتعاطفون مع نسخة محمد علي ومن مثله، وقد يتحدثون نفس لغته في وسطهم المعيشي المحدود، لكن لن يثقوا لأن يسلموا لهم مصائرهم ويستجيبون واقعياً لخطاباتهم.

بل أن هذا التباين التفاعلي مع رمزية الصورة قد كشف من جديد عن الصراع الطبقي التحتي في تعبيره الثقافي الذي يفصل بين شريحة اجتماعية وأخرى؛ بين صورة " الشغيلة وصغار التجار أولاد البلد" وما يتعلق به من معايير مفهوم الرجولة والذكورة عند الطبقات الوسطى الدنيا في المدينة، وبين صورة " السرسجية" أو ممن يسمون في الأدبيات الماركسية " بالبروليتاريا الرثة" ، ثم بين الريف المحافظ وصورة " الرجل الصايع" الذي لا يحول ثرائه المادي من هذا النعت.

وفي ظل هذا السيل المتناقض، من الصور أصبح مفهوم الشعب ذاته، غائماً وغامضاً وطيعاً للاستغلال في أي مضمون، سنده التعداد الرقمي الذي يسجله عدد المتفاعلين على الوسوم والمنشورات من هنا وهناك.

بالأمس كان يمكن القول ولو بالحد الأدنى، بأنّ الشعب يرى هذا أو ذاك، وتناقضه رواية السلطة من خلال منصات الإعلام التقليدي الذي يتبعها، اليوم صار الشعب يرد على الشعب، إذ يقوم واحد من الشعب يرد على واحد آخر من نفس الشعب، وكلاً يزايد على من ينتمى أكثر للشعب في استعراض مسرحي أقل ما يمكن وصفه بأنه "مبتذل".

وعليه، ساهمت تناقضات تلك الصور في تشتيت مقصود المضامين المبثوثة حتى صارت محل سخرية وشك، خاصة أنها جاءت مباغتة بعد ركود ونأي بالحديث في الشأن العام، ما أحدث نوعاً من الالتباس وعدم الثقة وكذا الصمت، سيما بين صفوف هؤلاء الذين يدركون بأنّ الشبكات التواصلية والمنصات الرقمية لم تعد تحتفظ بنقاوتها التحررية التي سُوقت بها للجمهور، وأن الصورة لم تعد تخلو من خداع، وإنما غدت تخضع لقوة التحكم والرقابة التي تديرها اليد الخفية من النظام أو خصومه بدرجات متفاوتة.

وتبعاً لهذه الحالة الضبابية يسهل امتصاص الاحتجاج وجعله عصياً على الفهم، وقد يتبخر تماماً مع الوقت بالرغم من استيعاب جميع رسائله التي كان من المفترض أن تدفعه، ويصبح المرء في حالة مفارقة مشبعة بالشك، يعرف ولا يعرف، يتعاطف ولا يقرر، على شاكلة: أنا متعاطف وأنا أعرف ومع ذلك لا أريد، أو أرفض، أو لا أثق.. إلخ.

ربطاً بما سبق، لا تكفي الاحتجاجات الرقمية لأن تُسقط أنظمة، سيما تلك المبنية على الخطاب البصري الشفاهي الذي يلهب الحماس دون الاستناد على الشروط الموضوعية في الواقع الحي.

بل على العكس إن لم تتوافر هذه الشروط فإن التدفق المعلوماتي يصبح بلا معنى ومجرد فرجة، وتصير وسائطه وسيلة للامتصاص والتحييد، نعم قد يشهد على/ ويوثق مرحلة التدمير والاهتراء الاجتماعي والسياسي المتضاعف في اصطناعه بحسب بودريار، لكن لا يُسقطه ولا ينفي هزالته، ومن العبث الحلم بثورة عبر مضامين تبثها الميديا ثم تعود فتطمرها بمضامين أخرى سيالة بلا حد، أو يسهل حجبها ومحوها في دائرة عدمية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي