تابعنا
أثبتت أزمة اللاجئين مجدداً ضعف الإجراءت الأوروبية للتعاطي مع طالبي اللجوء، كما أثبتت تهاوي التزاماتها الأخلاقية.

من جديد تُقبِل أوروبا على اختبار أخلاقيّ وتفشل فيه. إن الصوّر المروّعة والقصص المخيفة التي باتت ترد إلى مسامعنا من الحدود اليونانية، والطريقة القاسية التي تتعامل بها قوات الأمن اليونانية المهاجرين الفارين من إليها أتون الحرب في سوريا تُوجِع الضمير الإنساني، وتُنذِر بخطر كبير، وتبعث برسالة مغرقة في الحزن والأسف.

تعرية المهاجرين، وضربهم بطرق مبرحة، وإطلاق وابل من الغاز المسيل للدموع عليهم، ومحاولة إغراقهم، والتسبب في قتلهم كلها مشاهد لم يكُن للفرد منا أن يتوقعها من أولئك الذين يتشدقون بحقوق الإنسان، ويمارسون الوصاية الأخلاقية باسم البشرية. لم يكُن أحد ينتظر أن تستقبل أوروبا هؤلاء المهاجرين بالزهور والورد، ولكن لا أحد أيضاً كان يتوقع استقبالهم بالرصاص الحيّ، والغاز المسيل للدموع و"الشبح".

إن هذا التعاطي الخشن والقاسي مع المهاجرين على الحدود اليونانية مع تركيا إنما يعبّر عن المأزق الأخلاقي الذي تعاني منه أوروبا في ما يتعلق بواحدة من أبرز قضايا حقوق الإنسان التي يواجهها العالَم هذه الأوقات. كما تعبّر عن فشل الاتحاد الأوروبي في اجتراح سياسة واضحة ومُحكَمة وفعالة في ما يتعلق بمسألة اللجوء رغم الكثير من الدعوات منذ أحدث عام 2015 الذي شهد أكبر موجة لجوء إلى أوروبا وحتى الآن إلى ضرورة إصلاح قانون الهجرة لتجنب الكثير من الويلات.

لم تكتفِ اليونان بتعاطيها الخشن مع اللاجئين، وإغلاقها الحدود في وجههم، بل ووقفت طلبات اللجوء لمدة شهر قابل للتجديد، وقامت بترحيل جميع المهاجرين الذي يحاولون دخول البلاد بشكل "غير قانوني" رغم أن وكالة الأمم المتحدة للاجئين قالت إنه لا يوجد أي أساس قانوني لتعليق قرارات اللجوء. وقد بررت الحكومة اليونانية هذه السياسات الخشة بداعي الحرص على أمن أوروبا، والدفاع عن حدودها، والحفاظ على استقرار الاتحاد الأوروبي على أساس أن حدود اليونان هي حدود الاتحاد الأوروبي.

وللأسف لاقت هذه السياسات الدعم من الاتحاد الأوروبي، فقد أشاد رئيس مفوضية الاتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لين، الذي زار اليونان قبل يومين لإظهار تضامنه مع أثينا، بدور اليونان كـ"درع أوروبا". وقد وعد اليونان بتقديم مبلغ 700 مليون يورو لدعم وتعزيز أمن الحدود. أما ديفيد مكاليستر، وهو رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي، فقد أكد أن "أحداث عام 2015 يجب أن لا تتكرر"، وهو بذلك يشير إلى تدفُّق ما يقرب من مليون و300 ألف طالب لجوء إلى الاتحاد الأوروبي وقتها.

منذ موجة اللجوء الأولى، ما قامت به أوروبا هو فقط شراء مزيد من الوقت، وشراء سكوت تركيا. لا أحد ينبغي له لوم تركيا على فتح حدودها أمام مرور اللاجئين إلى أوروبا، فتركيا تستضيف الملايين من اللاجئين على أراضيها منذ عدة سنوات، وتتحمل عبأهم بشكل مباشر، حتى أصبحت تركيا بذلك البلد الأول في العالَم من حيث عدد اللاجئين المقيمين على أراضيها. كانت سياسة فتح الأبواب التي انتهجتها أنقرة مؤخراً صرخة في وجه أوروبا من أجل الاستيقاظ من سباتها والانتباه لمعضلة تدفُّق اللاجئين المتزايد لاجتراح مقاربة للتعاطي معهم بعيداً عن منطق دفن الرأس في الرمال.

في السابق عقد الاتحاد الأوروبي صفقة مع تركيا تسمح بموجبها بتحويل تركيا إلى أكبر خزان للاجئين في العالَم. هذه الصفقة كانت في الأصل بداية لسلسلة خطوات من أجل حل معضلة طالبي اللجوء وتخفيف معاناتهم. ولكن ما جرى هو أن هذه الصفقة تم التعامل معها على أنها هي الحل، وبذلك تقاعست أوروبا كلها عن مساعدة تركيا أو دول الجوار للاستمرار في شروط الضيافة وإيواء اللاجئين.

بالرجوع إلى هذه الصفقة التي عُقدت في مارس/آذار من عام 2016 وصاغتها إلى حد كبير الحكومة الألمانية بزعامة المستشارة أنجيلا ميركل فإن تركيا بموجبها ستحصل على مبلغ 6 مليارات يورو كمساعدات لاستقبالها اللاجئين، في المقابل يقوم الاتحاد بتسريع المفاوضات بشأن عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، ومنح الأتراك السفر إلى أوروبا من غير فيزا، وتحسين وضعية تركيا في الاتحاد الجمركي بين الاتحاد الأوروبي وتركيا.

كما نصّت الاتفاقية على أنه في مقابل كل لاجئ يدخل إلى اليونان بشكل غير قانوني ويتم إعادته إلى تركيا، يقوم الاتحاد الأوروبي بإعادة توطين لاجئ من مخيَّمات اللجوء الرسمية في تركيا، على أن يتم توزيع هؤلاء الأشخاص في جميع أنحاء أوروبا وفقاً لنظام الحصص.

بدا الاتفاق في بدايته ناجحاً، خصوصاً في الشق المتعلق بتخفيض أعداد اللاجئين. فقد تم خفض أعداد اللاجئين المتقدمين للحصول على اللجوء في الاتحاد الأوروبي من مليون لاجئي وصل إلى أوروبا عام 2015 إلى 200 ألف عام 2017، و150 ألفاً عام 2018. أما في النصف الأول من عام 2019 فقد تم تسجيل نحو 40.000 فقط.

أما في جوانبه الأخرى فقد بدا الاتفاق متعثراً، وآيلاً للسقوط بأي لحظة. فالتفاؤل الذي أبدته ميركل من خلال هذا الاتفاق توارى خلف حقيقة أن منح الاتراك مزيَّة الدخول إلى الاتحاد الأوروبي من غير فيزا لم تتحقق، كما أن المبالغ التي وصلت إلى تركيا من الاتحاد الأوروبي لم تلامس السقف المدرج في الاتفاق، وكانت محلّ خلاف بين تركيا والاتحاد الأوروبي على الدوام. فالأخير زعم أنه قام بتحويل 3 مليارات يورو إلى تركيا، في حين تصر أنقرة على أنها تلقت فقط نصف هذا المبلغ.

كما أنه كان من المفترض أن يقوم الاتحاد الأوروبي بإعادة توطين ما يقرب من 72 ألف لاجئ من الموجودين في المخيمات التركية، ولكن منذ عام 2016 فإن مجمل من تم إعادة توطينهم بلغ نحو 27 ألف لاجئ فقط ذهبوا في غالبيتهم من نصيب ألمانيا.

إن فشل هذا الاتفاق يدلّ على أن أوروبا لم تتخذ خطوات من أجل تحسين سياستها بحق طالبي اللجوء، كما أنها تغافلت عن أصل المشكلة، فالأمر لا يتعلق بتسكين الوضع الحالي من خلال البحث فقط عن صفقات مؤقته، بل يتطلب تدخُّلاً حاسماً في سبيل التوصل إلى حلِّ لأصل المشكلة، وهو وضع حد للحرب الأهلية التي تجري في سوريا، وممارسة ضغط حقيقي على روسيا والرئيس بوتن لوقف استهداف المدنيين هناك.

إن خروج الاتحاد الأوروبي من معضلته الأخلاقية في التعاطي مع مسألة اللجوء يتطلب أوّلاً الكفّ عن اعتبار اللاجئين مشكلة تركيا وحدها، فهذه مشكلة المجتمع الدولي ككل، والكف عن انتهاج الحلول الترقيعية المتعلقة بتسليع مسألة اللجوء عبر المنح المالية أو المساعدات الإنسانية والبحث في حلٍّ لأصل المشكلة لوضع حدّ نهائي لها، وأخيراً، وحتى إتمام الشرط الثاني، التوقف السريع والمباشر عن تجريم اللاجئين ونزع صفة الإنسانية عنهم الذي تسمح بمعاملتهم بطريقة غير لائقة على الحدود وصلت إلى حدّ القتل.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRTعربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً