تابعنا
فشلت المملكة العربية السعودية في ابتكار استراتيجية طويلة الأجل في المنطقة، في حين تؤتي عقود من التخطيط الإيراني أُكُلها الآن.

في أعقاب الضربة التي تعرضت لها منشأة معالجة النفط السعودية في بقيق، لا يمكن لأحد أن يجزم بمن يقف وراء الهجوم، إذ زعم الحوثيون المدعومون من إيران في اليمن أنها طائراتهم. ووجهت الولايات المتحدة مرة أخرى أصابع الاتهام إلى إيران وتورطها المحتمل في إطلاق صواريخ كروز من جنوب العراق واستبعدت تورط جماعة الحوثي في اليمن. وزعم بومبيو فيما بعد أن المعلومات الأمريكية تؤكد نفي بغداد استخدام أراضيها لشن هذا الهجوم. وقال وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف، تعليقاً على مزاعم الولايات المتحدة، إن الولايات المتحدة "فشلت في سياسة الضغط الأقصى" وتتحول الآن إلى "سياسة الخداع الأقصى".

لكن ما يمكننا الجزم به هو أن إيران تقف وسط كل هذا وهي مبتهجة فعلياً لأنها، على أغلب الظن، تضرب السعودية بشكل غير مباشر فيما تقف الرياض عاجزة تماماً عن الإتيان برد مماثل بأي طريقة أو شكل.

ضعف السعودية تاريخياً

هذا بطبيعة الحال جوهر قصة العجز السعودي. لطالما كان ملوك السعودية يعتمدون على الآخرين لخوض معاركهم ولم تكن لديهم الجرأة الكافية لنشر قواتهم خارج حدود أرضهم.

في الأيام الأولى للصراع العربي-الإسرائيلي، أجّرت السعودية جزيرتي تيران وصنافير المطلّتين على البحر الأحمر لمصر كي تضمن عدم ارتباط أراضيها بدولة إسرائيل الوليدة حينها، وبذلك أمكنها التملص من توقُّع العرب انضمامها إلى مساعيهم العسكرية لمحاربة إسرائيل.

وفي ثمانينيات القرن الماضي، قررت السعودية أن تغدق الأموال على العراق تحت حكم صدام حسين في أثناء خوضه حرباً دامية استمرت ثماني سنوات مع إيران الثورية التي كان يتزعمها آية الله روح الله الخميني.

تسعى الرياض جاهدة لإيجاد وسيلة للرد على إيران لكنها لا تجد سبيلاً سوى الشكوى إلى أسيادها الغربيين والسعي لإبرام صفقات أسلحة ضخمة لم يسبق لها مثيل.

طلحة عبد الرازق

لم يكن ملوك السعودية يأبهون بالتضامن العربي، ولكنهم كانوا خائفين من فكرة أن إسلام الخميني الشيعي الثوري السياسي سيؤدي إلى ظهور دولة مجاورة معادية على حدودها الشمالية إذا سقط صدام، وسيؤدي إلى تأجيج المشاعر بين سكان السعودية نفسها من الشيعة الذي يقطنون المنطقة الشرقية الغنية بالنفط في السعودية.

وتتحقق هذه المخاوف ذاتها الآن، فيما تبسط إيران نفوذها في الشرق الأوسط، بإثارة انزعاج الأنظمة العربية، مثل تلك التي تحكم السعودية والبحرين، وبتحويل العراق إلى دولة تذعن لها وتعمل لصالحها بالوكالة. وبالإضافة إلى اليمن، لا تزال البحرين واحدة من الحالات القليلة التي نشرت فيها السعودية بالفعل قوة عسكرية لاستعراض القوة.

بعد أن نجح العراق في وقف انتشار الخمينية المباشر عام 1988، سهلت الرياض التوسع الأمريكي من خلال التعاون مع الكويت والإمارات لتخفيض مبيعات النفط العراقية وإنتاج النفط بكميات تتجاوز حصص أوبك، وتمهيد الطريق لغزو صدام المتهور للكويت عام 1990 من خلال ضمان أن العراق لن يتمكن أبداً، في ظل اقتصاد متأزم في وقت الحرب، من سحب جيشه "المليوني" دون أن يكون عرضة لاضطرابات هائلة.

ثم سمحت الرياض للجيش الأمريكي بالانتشار على أرضها، ومع أنها قدمت مشاركة رمزية في الجهود العسكرية لرفع قبضة صدام عن الكويت بالقوة، كان أداء الجيش السعودي عشوائيّاً وكاد يُهزم لولا الحماية الأمريكية.

لا حلول قصيرة الأجل لمشكلات طويلة الأجل

لكن المشهد الجيوسياسي المعاصر في الشرق الأوسط يُظهر تراجع مكانة الولايات المتحدة وتزايداً مطّرداً في انخفاض مشاركتها. وقد أدَّى ذلك إلى فراغ فوضوي في القوة الإقليمية لم يتمكن أحد من ملئه، ولا حتى روسيا التي تحاول استعادة مكانتها رغم دورها الحاسم في سوريا.

لم يعُد بإمكان الرياض الاكتفاء بالاعتماد على بعثرة أموالها على مشكلة ما، آملة أن يؤدي ذلك إلى حلها، وتتمثل مشكلتها الحالية في إيران الطَّموح التي أمضت عقوداً في التخطيط لصعودها الإقليمي.

السعودية تدرك أن أي مواجهة مباشرة مع إيران ستؤدي إلى هزيمة فادحة لأنها لا تملك القدرة العسكرية التي تمكّنها من توجيه ضربات قاصمة.

طلحة عبد الرازق

وفي الوقت الذي أطلقت فيه إيران وكلاءها لإلحاق الأذى بالمصالح السعودية، تسعى الرياض جاهدة لإيجاد وسيلة للرد عليها لكنها لا تجد سبيلاً سوى الشكوى إلى أسيادها الغربيين والسعي لإبرام صفقات أسلحة ضخمة لم يسبق لها مثيل.

بل ولم يؤدِّ انخفاض الإنتاج العالمي من النفط بنسبة 5% في أعقاب الضربة الأخيرة على بقيق، إلى إثارة أي تحرُّك ذي جدوى. وقد أشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تغريداته إلى أنه إذا كانت الرياض ترغب في شن حرب على إيران، فإن واشنطن ستدعمها، لكن يبدو أنه يتعيَّن على السعودية تصدُّر الجبهة فيما تساندها أمريكا.

على أن السعودية تدرك أن أي مواجهة مباشرة مع إيران ستؤدِّي إلى هزيمة فادحة لأنها لا تملك القدرة العسكرية التي تمكّنها من توجيه ضربات قاصمة تبدأ بها الحرب وتُنهيها بسرعة، وستواجه هجمات ليس من إيران وحدها بل من وكلائها في العراق ولبنان، واليمن أيضاً، وهي هجمات لا يوجد لديها وكلاء أقوياء لصدّها.

السعودية إذاً مُحاصَرة، ولا يتمتع سكانها المدللون بأي شجاعة أو خبرة لحرب تضرّ بالجبهة الداخلية لردح من الزمن، ولا تملك الرياض أي شيء لتفعله في هذا الشأن اللهم إلا الدعاء بتدخُّل العمّ سام.

وفي حال استثمرت الرياض في تطوير قدرات وإمكانات مجموعات يمكنها مواجهة وكلاء إيران في بلدان ذات أهمية محورية مثل العراق، فستغدو قادرة على تحدِّي قوة طهران بشكل مباشر. لكن السعوديين أهملوا ذلك وفضّلوا التعلق بأذيال الأمريكيين، ويدفعون الآن ثمن الإنفاق الهائل قصير النظر ومحاولة التودُّد لأولئك الذين هم في ركب إيران بالفعل مثل رجل الدين الشيعي العراقي مقتدى الصدر.

من المذهل أن نظاماً ملكيّاً مطلقاً مثل ذلك الذي يحكم السعودية لا يملك تقريباً أي مخطط استراتيجي طويل الأجل. وليس الأمر كما لو أن المسؤولين السعوديين بحاجة إلى أن يقلقوا إزاء التخطيط للانتخابات كل أربع أو خمس سنوات، لذا فإن عجزهم عن الخروج باستراتيجية تدوم لعقود من الزمن من شأنها الحفاظ على استقرار حدودها وتأمين مصالحها في الداخل والخارج لا يُغتفر.

السعودية مُحاصَرة ولا يتمتّع سكانها المدللون بأي شجاعة أو خبرة لحرب تضرّ بالجبهة الداخلية لردح من الزمن، ولا تملك الرياض أي شيء لتفعله في هذا الشأن اللهم إلا الدعاء بتدخُّل العمّ سام.

طلحة عبد الرازق

وبغض النظر عمَّا قد يعتقده المرء عن إيران وأجندتها التوسعية التي كان لها عواقب وخيمة على العراقيين والسوريين واللبنانيين واليمنيين، فهي جديرة بالثناء، من منظور السياسة الواقعية. وفي حين يقبع خصومها تحت رحمة داعمين أجانب أقوياء، تشكّل طهران تحالفات مع القوى الصاعدة مثل روسيا والصين، لكنها تخطّط وتعمل بجِدّ بشكل مستقل لتحقيق طموحاتها الإقليمية.

لقد أمضت إيران عقوداً من الزمن في رعاية عملائها، ووسّعَت تدريجيّاً نفوذها الاقتصادي والثقافي والعسكري. وقد آتت استراتيجيتها أُكُلها، إذ بوسعها الآن أن تهدّد بالانتقام من جميع خصومها العرب والولايات المتحدة، فيما توسّع نفوذها في العواصم العربية الكبرى، التي من بينها دمشق وبغداد.

وبدلاً من اكتفاء العرب بإبداء كراهيتهم للنظام الإيراني، لن يضيرهم إبداء شيء من الاحترام لهم وتعلُّم شيء أو اثنين منهم لمصلحتهم.

هذا المقال مترجم عن موقع TRTWORLD.

TRT عربي
الأكثر تداولاً