الدكتور الشهيد رفعت العرعير (Others)
تابعنا

في عام 2007 بدأ رفعت العرعير تدريس اللغة الإنجليزية وآدابها في الجامعة الإسلامية بغزة، حينها دخلت المدينة حقبة جديدة بعد تشديد الحصار الإسرائيلي عليها وشن الاحتلال عدداً من الحروب والحملات العسكرية، إذ حرص على تعليم تلاميذه كيفية سرد الرواية الفلسطينية، وتأكيد الحياة والمقاومة، لتكون جزءاً من سرديةٍ حملَ رفعت عبء نقلها إلى العالم.

طلاب رفعت هُم سِرّه، وفي علاقته معهم ترى رفعت المعلم، والإنسان، والمناضل، والمنظم. لم تقتصر شريحة طلابه على من يجلس على مقاعد الدراسة، بل امتدت إلى خليط من الشباب والشابات من أبناء مدينة غزة، رأى فيهم مواهب يمكنها إخبار العالم بجزء من قصة المدينة.

طيلة أيام الحرب الإسرائيلية على غزة عقب عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، رفض رفعت سياسة التهجير وظل صامداً في حي الشجاعية الذي وُلد وترعرع فيه، فرغم الحصار والقصف الشديد الذي تعرضت له المنطقة، وتهديد جيش الاحتلال المستمر لها ولرفعت بشكل شخصي، فإنه استمرّ في سعيه لنقل ما يجري إلى العالم، فظل يمشى يومياً لساعات بحثاً عن اتصال بالإنترنت لينشر ما في حوزته من صور وقصص من فصول حملة الإبادة التي يتعرض لها أهل غزة.

بعد استشهاده بعمر 44 عاماً برفقة عدد من أفراد أسرته في 7 من ديسمبر/كانون الأول، تعرَّف العالم جوانبَ من شخصية الأستاذ الجامعي، من خلال سيل من مشاركات طلابه وأصدقائه على وسائل التواصل الاجتماعي، ليعود رفعت مرة أخرى على شكل كلمة وقصيدة وحكاية تعاند قاتلها، وترفض النسيان والتهميش.

غزة.. المكان الذي يشبه رفعت

كان رفعت كثير التعلُّق بغزة وأحيائها وأهلها، ورغم قدرته على الاستقرار خارجها، فلغته الإنجليزية ممتازة، وموهبته الفذة وتحصيله الأكاديمي العالي يضمن له ذلك، فإنه اختار دوماً العودة إليها والبقاء فيها.

وجد رفعت في غزة نفسه، ورأى فيها مكاناً يألفه ولا يلفظه. يصف ياسر عاشور صديق رفعت وتلميذه في حديث مع TRT عربي ذلك قائلاً: " فهّمني أن الإنسان يمكنه زيارة كل دول العالم، لكنه سيعود إلى مكان يشبهه، إلى المكان الذي يجد نفسه فيه، هذه الفكرة دائماً ما يكررها، وسمعت مؤخراً أنه تحدث بها إلى صديق لنا كان مغترباً وعاد قريباً إلى غزة".

ومن أحياء غزة أحب رفعت حي الشجاعية شرق المدينة حيث وُلِد، فالحي عُرف بصلابة أهله، وحدّة طباعهم. وعن ذلك يصف يوسف الجمل الباحث والكاتب الفلسطيني وصديق رفعت المقرب تعلقه بالحي بقوله: "دائماً ما كان فخوراً بكونه ابناً للشجاعية، ويتحدث كثيراً للناس عن هذا الحي".

وفي نضال المدينة لحريتها اتخذ رفعت دوراً في نقل قصتها وقصة سكانها بوصفهم بشراً لهم حيواتهم المليئة بالتفاصيل. ويقول أيمن قويدر لـTRT عربي، وهو صديق رفعت وتلميذه، إنه "كان حريصاً على تقديم الرواية الفلسطينية عبر استعراض القصص الإنسانية، كما جرى في مبادرة (لسنا أرقاماً)، لأنه آمن أن الإنسان هو قصة فيها من الأمل والألم".

اللغة سلاح تحرر

احتلَّت اللغة موقعاً مركزياً في حياة رفعت، إذ رأى فيها أداة لتجاوز الحصار على فلسطين وروايتها، وسلاحاً للتحرر وكسر هيمنة المصطلحات الإسرائيلية التي تسيطر على اللغة الخاصة بنضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال.

وحرص طيلة السنوات التي قضاها في غزة على تدريب وتطوير قدرات طلابه لامتلاك قدرات لغوية تمكنهم من المساهمة في سرد القصة الفلسطينية بعيداً عن الهيمنة الإسرائيلية.

ويستذكر ياسر كيف حثّه رفعت على الكتابة، بقوله: "دائماً كان يحثّني على ضرورة ألّا يكون صوتي غائباً، وأنه بإمكاني أن أخبر الناس عن قصتي، وأحكي للعالم ما هو موجود لدي، وباللغة التي أمتلكها".

أما أنس أبو سمحان، الكاتب والمترجم الفلسطيني وتلميذ رفعت، فقد تحدّث لـTRT عربي عن أن رفعت "كان مؤمناً أنه على ثغر من ثغور القضية الفلسطينية وأنه يجب عليه أن يستغل المنصب الأكاديمي والتعليمي والأدبي والقصصي والشعري لأبعد مدى".

ولم يقتصر اهتمام العرعير على اللغة الإنجليزية فقط، بل شجع طلابه وأصدقاءه من متقني اللغات الأخرى على الاستمرار في النشر والكتابة ونقل ما يجري، وفي هذا الإطار يقول أنس: "دائماً ما دفعنا نحو الكتابة، هو أراد منا التوجه إلى الكتابة بكل اللغات، بما فيها العربية، وذلك عبر تفعيل ملكة التفكير النقدي في كل اللغات".

أكثر من معلم وأكبر من صديق

لعل أهم ما ميز رفعت علاقاته الخاصة بتلاميذه وطلابه، التي اتخذت مزيجاً من الإرشاد والأبوة وكثيراً من الصداقة، هذه المعاني الثلاثة كونت مجتمع رفعت الخاص الذي ضم طلابه وأصدقاءه المنشغلين بهموم مشتركة، شكلت قضية فلسطين محورها.

واهتم رفعت بوسائل التواصل الاجتماعي بشكل خاص، فقد رأى فيها وسيلة فعالة لإيصال جزء من الرواية الفلسطينية. يقول يوسف الجمل إنه دائماً ما "شجعني كما شجع طلابه على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في الترويج للقضية الفلسطينية، كما أعطى في إحدى المرات طلبته في الجامعة وظيفة دراسية بأن ينشئوا حساباً على تويتر ويغردوا عن مجريات الحرب باللغة الإنجليزية".

ذات الأمر أكده الشاعر والباحث الفلسطيني نورالدين العايدي، الذي بدأت علاقته مع رفعت في سنوات صباه، إذ يقول: "كنت مراهقاً محباً للأدب، وفي لقاءاتنا الواقعية القليلة وبعض أحاديثنا على الإنترنت كان يهتم بقراءة ما أكتب، ولم يبخل بتوجيهي ونصيحتي بلطافة المعلم الذي كانه"، حسب ما يرويه لـTRT عربي.

وعن علاقته الاجتماعية والشخصية مع طلابه يضيف يوسف: "كان رجلاً عظيماً دائم السؤال عنا، يسأل عن طلابه، تجاوزت علاقته مع طلابه حدود الصف الدراسي، إذ كان يزور الأهل في غيابنا ويسأل بشكل مستمر عن أخبارنا. كان يستضيفنا لديه، في ماليزيا مكثت عنده عدة أسابيع حتى تمكنت من العثور على سكن".

وتعود علاقة ياسر مع رفعت إلى سنوات الثانوية، يصفها ياسر بأنها بدأت مرتبكة، "فهو رجل من سن الوالد أو أصغر قليلاً، في المقابل أنا أكبر من أبنائه قليلاً، لما عرفته كنت طالباً في الثانوية وكان هو استاذاً في الجامعة، فكنت دائماً أناديه بالدكتور أو أبو عمر، ودائماً ما كان حريصاً على كسر هذه الحواجز، ويقول إنه رغم كونه أستاذاً في الجامعة وكوني طالباً في الثانوية فإنه يمكن أن نكون أصدقاء".

ولم يكن السفر حائلاً دون استمرار هذه العلاقة وتطورها، فعندما "سافرت كان يزور أهلي باستمرار، وعندما قصف منزلي زار أهلي في البيت، وعندما تزوجت شارك في (جاهة) الخطوبة، دائماً ما كان حاضراً لدى أهلي، ووالدتي تطهو له، لقد تأثرت بشدة بعد خبر استشهاده".

"فليصبح موتي حكاية"

في آخر أشعاره كتب رفعت قائلاً: "إذا كان لا بد أن أموت، فليأتِ موتي بالأمل، فليصبح حكاية"، إذ ربط العرعير ثلاثة عناصر، الموت والحكاية والأمل، فالموت لن يكون غياباً إذا جرت روايته، بل يظل محافظاً على حضوره، ومصدراً للأحياء لعلهم يجدون فيه أملاً للمضي قدماً، وهذا ما أراده رفعت، أن يربي الأمل في نفوس طلابه وأصدقائه، باعتباره معلماً وصديقاً ومرشداً.

"رفعت فكرة دائمة، لا يمكن قتله.. رفعت حي، وسيظل كلامه وتعليماته ورسائله وقصائده ومقالاته وكلماته خالدة للأبد، رفعت لا يموت وغير قابل للكسر"، يقول صديقه المقرب يوسف.

ويرى ياسر في الشهيد رفعت "شخصية لن تكرر، رفعت كان مؤثراً بشكل حقيقي بصلابة رأيه وقوة كلمته، حتى في توظيف الفكاهة في خطابه".

ويؤكد نورالدين أن "أثر الدكتور سيظل حاضراً، ليس في قلوب من أحبوه فقط، بل أيضاً في لغتهم وحروفهم. إنّ الدكتور الذي مزج فلسطين في كل تفاصيل حياته، مع طلابه، وفي كتاباته، وعلى مساحته الخاصة الإلكترونية، سيظل منارة لأجيال جديدة من الفلسطينيين، خصوصاً من تلامذته ومحبيه الذين سيكملون دربه".

ويشير أيمن إلى أن خسارة الدكتور رفعت "كانت خسارة لفلسطين وروايتها، الأمل دائماً حاضر بأن نستمر في هذه المسيرة من إعلاء الأصوات في المساحات المقهورة".

TRT عربي
الأكثر تداولاً