منذ اقتراحها للغناء في حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024، تتعرض المغنية الفرنسية من أصول مالية آية ناكامورا، لهجوم عنصري واسع من اليمين المتطرف، الذي رفع شعارات تعيّر الفنانة بلون بشرتها، كما اعتبر ترشيحها للمشاركة في الحفل "إهانة لفرنسا"، وهو ما وصفه عدد من الفعاليات الحقوقية بـ"وصمة العار" التي ستلاحق هذه النسخة من الألعاب الأولمبية.
تضاف هذه الوقائع إلى ما حذر منه الحقوقيون سابقاً بشأن "التطهير الاجتماعي" الذي يطول مشردي العاصمة الفرنسية، ومساعي بلديتها طردهم خارجها، وإلى التقارير التي أشارت إلى استغلال المهاجرين غير النظاميين في بناء المرافق الخاصة بالحدث الرياضي، لتشكل كل هذه الانتهاكات الجنب المظلم من الأولمبياد المزمع أن تحتضنها باريس شهر يوليو/تموز المقبل.
"هنا باريس، لا باماكو!"
طول الأسابيع الثلاثة الماضية ظل اسم آية ناكامورا حاضراً بشكل مستمر على وسائل التواصل الاجتماعي وفي البلاتوهات التلفزيونية في فرنسا، بل داخل اجتماعات البرلمان الفرنسي، إذ اهتم السياسيون اليمينيون المتطرفون بمناقشة قضية المغنية من أصول مالية التي ستغني في حفل افتتاح الألعاب الأولمبية.
فيما تعود أطوار القصة إلى 29 فبراير/شباط الماضي حين نشرت صحيفة ليكسبريس الفرنسية تحقيقاً حول المطالبات السرية التي يسعى الرئيس إيمانويل ماكرون لفرضها على الهيئة التنظيمية للأولمبياد.
وقالت الصحيفة إن ماكرون استضاف ناكامورا في قصر الإليزيه وعرض عليها غناء قطعة للمغنية الفرنسية الشهيرة إديث بياف خلال حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في يوم 26 يوليو/تموز المقبل.
ولم تنفِ الرئاسة الفرنسية ولا آية ناكامورا الخبر الذي أثار زوبعة من ردود الفعل الرافضة للاقتراح، بالرغم من أن المغنية ذات الأصول المالية تعد الصوت الفرنسي الأشهر والأكثر استماعاً على منصات البث الموسيقية حالياً، ما يظهر أن أسباب الرفض متعلقة بعنصرية إزاء لون بشرة المغنية، وهو ما لم يتوانَ النشطاء اليمينيون المتطرفون عن تأكيده، إذ أطلقوا حملة شرسة من التهديدات والشتائم على وسائل التواصل الاجتماعي ضد ناكامورا.
وفي 9 مارس/آذار الجاري بلغت هذه الحملة أوجها عندما خرج نشطاء مجموعة يمينية متطرفة تدعى (Les Natifs) إلى شوارع باريس، مستعرضين لافتة مكتوب عليها: "لا يمكن أن يحدث هذا! هنا باريس لا سوق باماكو"، في إشارة إلى مقطع من أغنية (Djadja) والأصول المالية ناكامورا.
وقالت المجموعة في منشور على منصة إكس: "تظاهرنا تنديداً باختيار رئيسنا استبدال الابتذال الإفريقي بالأناقة الفرنسية، وتهميشه السكان الأصليين لصالح المهاجرين من خارج أوروبا".
ودخل عدد من السياسيين الفرنسيين المحسوبين على اليمين المتطرف على خط هذه الحملة، وآخرهم كانت زعيمة حزب "التجمع الوطني" مارين لوبان، التي قالت في تصريحات يوم الأربعاء، 20 مارس/آذار، إن اقتراح ناكامورا "ليس مثالاً لطيفاً (نعطيه للعالم)، بصراحة إنه عمل استفزازي إضافي من إيمانويل ماكرون، وهو الذي يستيقظ كل صباح قائلاً: مهلا، كيف سأنجح في إذلال الشعب الفرنسي؟".
واستغل الصحفي والسياسي ذو السوابق العنصرية إريك زمور، الفرصة لركوب الموجة واستغلال الحدث في حشد أنصاره للتصويت لصالحه في الانتخابات الأوروبية القريبة، وقال زمور في خطاب إطلاقه الحملة الانتخابية: "أطفالنا سيصوتون على موزارت (موسيقي كلاسيكي نمساوي)، لا على آية ناكامورا".
في المقابل أدانت وزيرة الثقافة الفرنسية رشيدة داتي، الحملة العنصرية التي طالت المغنية، موجهة سهام انتقادها إلى خصومها المتطرفين، وقالت إنهم "يتحجَّجون لتمويه دوافعهم العنصرية الخالصة لمواجهة شخص بعينه". وانضمت إلى داتي زميلتها في حقيبة الرياضة، أميلي أوديا كاستيرا، التي قالت إن "هؤلاء العنصريين لا مكان لهم في بلادنا".
وفي السياق ذاته، فتح المدعي العام في باريس يوم الجمعة 15 مارس/آذار تحقيقاً بشأن الحملة العنصرية التي طالت آية ناكامورا، موضحاً في مذكرته أن القرار يأتي بعد شكوى رفعتها منظمة "الرابطة العالمية لمناهضة العنصرية ومعاداة السامية" إلى المركز الوطني لمكافحة الكراهية، "تندد فيها بالمنشورات ذات الطابع العنصري التي استهدفت آية ناكامورا".
التطهير الاجتماعي
تضاف وقائع العنصرية المذكورة إلى انتهاكات حقوقية أخرى تحوم حول أولمبياد باريس 2024، من بينها ما وُصف بـ"الطهي الاجتماعي" الذي يطول المشردين تحضيراً للحدث، ومع اقتراب موعد انطلاق الأولمبياد تكثف سلطات العاصمة الفرنسية حملاتها ضدّ الأشخاص الذين يعيشون من دون مأوى، إذ تتضاعف عمليات الإخلاء القسري وتفكيك مخيماتهم، كما رُفعت قيمة الغرامات التي تعاقب هؤلاء الأشخاص.
وفي 7 فبراير/شباط الجاري نشرت منظمة "يوتوبيا 56" المعنية بالخدمات الاجتماعية للأشخاص بلا مأوى، أن السلطات الفرنسية فكَّكت مخيماً للمشردين في قلب باريس، "كان يحوي نحو مئة من الأطفال القاصرين".
وخلال الشهور الماضية، تحركت جمعيات ومنظمات غير حكومية عدّة بهدف اتخاذ إجراءات قوية في الأسابيع الأخيرة للتنديد بإخلاء أكثر من 4000 شخص من منازل العمال المهاجرين، وكذلك نقل المنفيين إلى مراكز الاستقبال في المحافظات.
وتقول المحامية كارول بينبلان، عضو مجلس النقابة والناشطة في نقابة المحامين في باريس: "إننا نشهد بالفعل، تجريماً للأشخاص المشردين في باريس".
وتضيف بينبلان أن هذا التجريم يتجلى في "زيادة حالات إبعاد الأشخاص الذين يعيشون دون مأوى والمهاجرين دون إقامة"، كما "نلاحظ وجوداً كبيراً للشرطة وتوزيعاً منهجياً لقرارات مغادرة الأراضي الفرنسية".
ومنذ العام الماضي والسلطات الفرنسية تتابع هذه الإجراءات الممنهجة، وفي أبريل/نيسان 2023 فُكّك أكبر مخيم للأشخاص بلا مأوى في الضاحية الباريسية سان دوني، الذي يقع قرب مقر الإقامات المعدَّة للرياضيين المشاركين في الألعاب الأولمبية.
وندَّدت نحو 75 منظمة حقوقية فرنسية بهذا الوضع واتهمت السلطات بتنفيذ "تطهير اجتماعي"، وقالت المنظمات في رسالة مفتوحة نشرتها شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023، إنه "تحت غطاء الحدث (الرياضي)، تطرد الدولة وتهجِّر آلاف الأشخاص دون حوار أو حلول حقيقية".
وقالت المنظمات إن أولمبياد 2024 "سيسبب اضطراباً عميقاً في المدينة، مع تأثير سلبي للغاية في حياة هؤلاء الأشخاص"، بسبب طرد المشردين، وتقليص أماكن الإيواء في حالات الطوارئ، وإغلاق نقاط الاستقبال، وتقليص توزيع المساعدات الغذائية.
وأشارت الرسالة إلى أن السلطات بدأت بالفعل عملية إجلاء أكثر من 4000 شخص من المنازل المؤقتة ونقلهم إلى مراكز استقبال في مقاطعات أخرى.
استغلال المهاجرين غير النظاميين
ومن بين أعمال البناء الجارية للمرافق الرياضية والفندقية التي ستضمها القرية الأولمبية في ضاحية سان دوني الباريسية، تحدث مأساة إنسانية عنوانها عمالة المهاجرين غير النظاميين، أو من هم "بلا أوراق" كما يصفهم اللفظ الفرنسي، الذين يُجبرون على العمل في ظروف قاسية دون حماية لازمة وبأجور زهيدة، في أحد أشكال "العبودية الحديثة" كما تعرّفها الأمم المتحدة، إذ لا يملك هؤلاء العاملون حق الشكوى بسبب وضع إقامتهم غير القانوني.
يعود أول اكتشاف لهذه القضية إلى مايو/أيار 2022، حين قررت مجموعة من 12 مهاجراً غير نظامي من مالي التوجه بشكواهم إلى نقابة "الكونفدرالية العامة للشغل" الفرنسية، مطالبين منها الوقوف إلى جانبهم والدفاع عنهم ضد مستغليهم.
من بينهم شاب ثلاثيني يدعى موسى، قرر بعد شهور من العمل في ظروف سيئة في أحد ورش البناء الخاصة بالأولمبياد التوجه إلى هيئة تفتيش الشغل، وإخبارهم بأنه يعمل دون عقد، فيما أتى هذا القرار بعد وقت طويل من التخبط والمخاوف المريرة بأن يجري ترحيله إلى مالي إن كشف عن نفسه للسلطات.
وفي حديث له لصحيفة ليبراسيون يحكي موسى عن معاناته ويقول: "ليس لدينا حقوق، ليس لدينا ملابس عمل، ولا أحذية أمان متوفرة، ولا نتقاضى بدلاً مقابل بطاقة النقل، وليس لدينا فحص طبي ولا حتى عقد. إذا مرضت أو أصبت، فسيعوضك المدير بعامل آخر في اليوم التالي".
وتكشف الصحيفة الفرنسية في تحقيق نشرته وقتها عن القضية، أن استقطاب هؤلاء العمال يحدث غالباً سراً عبر عمّال مثلهم، إذ يستغل أرباب العمل حاجتهم إلى العمل وضعفهم الذي يجردهم من الحقوق كافة، ما يجعل منهم يداً عاملة رخيصة ويعفي المشغلين من دفع كل الالتزامات القانونية إزاءهم، وفق شهادة هؤلاء العمال، لا يتعدى راتب الواحد منهم 80 يورو في اليوم.
وكشف موسى في حديثه أحد وسائل التلاعب التي يستخدمها أرباب العمل، قائلاً: "بعد أن طفح الكيل، هددنا بالإضراب. طبعاً هذا لم يرق للمدير المباشر لنا، لكنه كان مرغماً على الاستجابة. في النهاية وقعنا عقود عمل دائمة معهم، لكننا اكتشفنا لاحقاً أنها بلا قيمة، هي مجرد أوراق تقدمها الشركة للضمان الاجتماعي".
ويضيف تحقيق صحيفة ليبيراسيون في كشف تلك التلاعبات، نقلاً عن الأمين العام المحلي لـ"الكونفدرالية العامة للشغل" في بوبيني جان ألبرت غيدو، قوله إن "الشخص الذي يدفع ليس بالضرورة هو الشخص الموجود على الموقع، لدرجة أنه من المستحيل التأكد من هوية المسؤول الذي يوظفهم حقاً".
وتُعرّف العبودية الحديثة بأنها استغلال غير قانوني للأشخاص من أجل تحقيق مكاسب شخصية أو تجارية، وتغطي مجموعة واسعة من الانتهاكات والاستغلال بما في ذلك السخرة والعمل القسري، وهما أمران يبرزان جلياً في حالة العمال غير النظاميين بمواقع الألعاب الأولمبية، وكذلك مئات العاملين الآخرين بمثل ظروفهم.