إثر تصاعُد التوتر الدبلوماسي مع فرنسا، تصاعدت الأصوات في الجزائر لإحداث قطيعة ثقافية وآيديولوجية بشكل نهائي مع المستعمر القديم، باتخاذ جملة من التدابير على رأسها إحياء القانون المتعلق بتعميم استخدام اللغة العربية.
ومنذ مطلع الشهر الماضي توالت قرارات إنهاء التعامل باللغة الفرنسية في عدة قطاعات حكومية، وسط دعوات لتعزيز مكانة اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للبلاد، وكذا دعم وجود الإنجليزية في التعليم.
والمقصود بتعميم العربية اتخاذها لغة عمل وحيدةً في المحررات والمعاملات الإدارية داخل المؤسسات الرسمية في البلاد.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فجّر أزمة غير مسبوقة بين البلدين بسبب تصريحات وُصفت بأنها "مُسيئة"، طعن فيها على تاريخ الجزائر، مما أدَّى بالأخيرة إلى سحب سفيرها من باريس وحظر عبور الطيران العسكري الفرنسي إلى أجوائها.
وانتفضت الأوساط السياسية في الجزائر ضد هذه التصريحات، وسارعت إلى سنّ قانون لتجريم الاستعمار الفرنسي للبلاد (1830-1962) والتمكين للعربية داخل المؤسسات الحكومية وطرد الفرنسية منها.
توجه حكومي
وعادة ما تشهد الجزائر جدلاً بشأن مكانة الفرنسية في الأوساط الرسمية بالدرجة الأولى، إذ يحتجّ معارضون، خصوصاً من المحافظين، على صدور خطابات رسمية بالفرنسية، وتداول وثائق في الإدارات الحكومية باستخدامها.
وعام 2019 عمل وزير التعليم العالي والبحث العلمي (وزارة الجامعات) السابق، الطيب بوزيد، على مشروع استبدال الإنجليزية بالفرنسية كلغة تدريس وبحث علمي.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني من 2020، أصدر وزير العمل والضمان الاجتماعي السابق الهاشمي جعبوب، إلى إطارات الوزارة كافةً تعليمة يحظر فيها استخدام الفرنسية عند استقبال ومخاطبة المواطنين.
ليعرف شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي تتابعاً غير مسبوق، للقرارات الوزارية الرامية إلى طرد الفرنسية من المكاتب وتعويضها بالعربية.
وكانت أقوى القرارات إصدار ثلاث وزارات هي "التكوين المهني" و"الشباب والرياضة" و"العمل"، تعليمات إنهاء التعامل بالفرنسية، واستخدام العربية حصراً في جميع المراسلات والتقارير ومحاضر الاجتماعات والوثائق.
وداخل وزارات معلومات متداولة بوجود تعليمات شفهية من أعلى سلطات البلاد، بإنهاء التعامل بالفرنسية داخل القطاعات الحكومية، لكن لم يتسنَّ للأناضول التأكد من صحة تلك المعلومات.
وتشير مصادر متقاطعة إلى أن إخراج الفرنسية من الإدارة الجزائرية، لا يستحقّ قراراً سياسياً، بل ضمن نطاق الصلاحيات المخولة إلى أعضاء الحكومة، والتوجه تدريجياً نحو هذا المسعى حتى يترسخ ويتحول إلى آلية عمل دائمة.
قانون تعميم العربية
وفي سياق التمكين للغة العربية، باعتبارها اللغة الرسمية لدولة الجزائر بنصّ الدستور، تجددت الدعوات إلى إعادة إحياء "قانون تعميم اللغة العربية".
والمقصود بكلمة "إحياء" أن القانون موجود، لكنه ظلّ مجمَّداً منذ ما يقارب 30 سنة.
وفي يناير/كانون الثاني 1991 أصدرت السلطات الجزائرية قانوناً يقضي بتعميم استخدام العربية في المعاملات كلها داخل القطاعات الحكومية، لكن تطبيقه بقي معلقاً لأسباب يقول معارضون إنها تعود إلى نفوذ ما يُسمَّى "اللوبي الداعم لفرنسا" في البلاد.
وقال المؤرخ عامر رخيلة، إن هذا النص التشريعي "سُنّ وصدّق عليه المجلس الشعبي الوطني (الغرفة الوحيدة للبرلمان آنذاك)، وصدر في الجريدة الرسمية، لكنه لم يدخل حيز التنفيذ".
وأضاف رخيلة للأناضول أن "المبادرة بهذا القانون فرضتها تجاذبات سياسية بين حزب جبهة التحرير الوطني (الحاكم سابقاً) وحزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ (محظور)، لكن أدخل الثلاجة بتعليمة (توجيه) من جهات عليا في الدولة لأسباب لا تزال غامضة".
وأكد المتحدث أن لمسة اللوبي الفرنسي كانت واضحة جداً في الدفع باتجاه تجميد القانون وعدم اعتماده، بخاصة أنه كان يأمر بالشروع في فرض اللغة العربية، في جميع المؤسسات "ليُعلَّق قبل الآجال المحددة".
سيجري إحياؤه
رئيس كتلة حركة مجتمع السلم (أكبر حزب إسلامي في الجزائر) على مستوى المجلس الشعبي الوطني (الغرفة الأولى للبرلمان) أحمد صادوق، أكد أن "إحياء هذا القانون مبرمج كخطوة تلي قانون تجريم الاستعمار".
والأحد الماضي وضع نحو 100 نائب مشروع قانون تجريم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، على مستوى مكتب المجلس الشعبي الوطني.
وقال صادوق للأناضول: "خطوتنا الموالية رفع التجميد عن النص، المجمد بتعليمة مجهولة سنة 1993".
وأفاد بأن "التيار التغريبي (نسبة إلى الثقافة الغربية) المتحكم في دواليب السلطة آنذاك استطاع تجميد القانون".
واعتبر أن الفرصة مواتية لإعادة إحيائه "لكونه قانوناً جيداً"، وحتى "إضافة أو تعديل بعض الموادّ ليتلاءم مع الوقت الراهن"، بخاصة "مع التوجه الجديد للسلطة الجزائرية تجاه فرنسا".
وقال إن تمكين اللغة العربية لن يتوقف عند إحياء القانون، بل سنّ قانون آخر "يجرّم" استخدام الفرنسية في المؤسسات والإدارة الرسمية للدولة الجزائرية، بما يعطي اللغة الوطنية حصانة قوية.
لماذا ينبغي سنّ القوانين؟
وفي وقت يقول فيه خبراء ومؤرخون إن انتشار الفرنسية في الجزائر يعود إلى فرضها خلال الحقبة الاستعمارية التي استمرت 132 سنة (1830-1962)، ومحاربة الاحتلال للعربية، فضلاً عن تأخر تطبيق قوانين لتعريب الإدارة والتعليم بعد الاستقلال.
يذهب آخرون إلى القول بأن الخلاص من النفوذ الفرنسي في مفاصل الدولة الجزائرية، هو تحرير الإدارة نهائياً من الفرنسية، لأنها ليست مجرد لغة عمل، بل "آيديولوجيا" تُخفي وراءها في الغالب توجهات في صالح فرنسا.
وفي السياق نفسه شدّد المؤرخ عامر رخيلة، على أهمية سنّ القوانين، بدل الاكتفاء بالتعليمات الوزارية في تعميم العربية، "لأن التراجع عن التعليمة أسهل ما يكون، باعتبارها مجرد توجيهات إدارية، ولا بد من تأسيس الأمر على نصّ قانوني أو مرسوم تنظيمي".
وأضاف: "القوانين لم تصمد أمام الموالين للغة الفرنسية، فما بالك بتعليمات؟"، ليستطرد بأن "نجاح الخطوات يتزايد بالنظر إلى المعاملة الندية الواضحة التي يتبناها الرئيس عبد المجيد تبون مع فرنسا".
وقال: "خطاب تبون حيال المستعمر القديم لم نسمعه من وقت الزعيم الراحل هواري بومدين (1965-1978)، وهو خطاب مصحوب بإجراءات".