تستمر الحرب التي أطلقها الاحتلال الإسرائيلي على غزة ليومها الـ221، حاصدة ما يكاد يتعدى الـ35 ألف شهيد، مفكّكة الآلاف من الأسر الفلسطينية، ومُخلّفة يتامى بمثل ذلك العدد، منهم أطفال فقدوا كل أفراد عائلتهم وآخرون لم يُعرف لهم أب ولا أم، متروكين لمصير مجهول في ظل الوضع الإنساني المتردي في القطاع.
وتطرح قضية يتامى حرب غزة نفسها بشدة، تزامناً مع مناسبة الاحتفال باليوم العالمي للأسرة، الذي يحل في الـ15 من مايو/أيار من كل عام، وهو ما يسائل الصمت العالمي عن آلام هذه الفئة التي سقطت ضحية الإبادة الجماعية الجارية، كما يسائل المجتمع الدولي عن ما قد يفعل من أجلهم في الظروف المأساوية التي يعيشونها.
يتامى حرب غزة الـ17 ألفاً
حسب تقديرات كشفت عنها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، مطلع فبراير/شباط الماضي، خلّفت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ما لا يقل عن 17 ألف طفل يتيم.
وصرّح رئيس الاتصالات في اليونيسف في دولة فلسطين جوناثان كريكس: "تقدر اليونيسف أن ما لا يقل عن 17,000 طفل في قطاع غزة غير مصحوبين أو منفصلين عن ذويهم. وكل واحد منهم يمثل قصة مفجعة من الخسارة والحزن. وهذا يعادل 1% من إجمالي عدد النازحين في القطاع".
وشدد كريكس على أن هذا الرّقم تقديري، قائلاً: "بالطبع هذا تقدير لأنه يكاد يكون من المستحيل جمع المعلومات والتحقق منها في ظل الظروف الأمنية والإنسانية الحالية". وتأتي هذه التصريحات بعد زيارته لمركز يستضيف ويعتني بالأطفال غير المصحوبين بذويهم في القطاع، مستطرداً بأن "العديد من الأطفال الذين التقيت بهم، كل منهم لديه قصته المروعة ليرويها".
ومن القصص التي سردها مسؤول المنظّمة الأممية، قصة صبي يبلغ من العمر 6 سنوات وابنة عمه التي يبلغ عمرها 4 سنوات، وهما الناجيان الوحيدان من عائلتهما. وقد جرى انتشالهما من تحت أنقاض منزل في منطقة بريج، والذي دمرته غارة إسرائيلية منتصف ديسمبر/أيلول الماضي، وكانت أجسادهما مغطاة بالحروق التي نقلوا على إثرها إلى مستشفى الأقصى لتلقي العلاج.
وفضلاً عن هذا، نقلت وسائل إعلام دولية قصصاً مروعة لعشرات الأطفال من غزة فقدوا عوائلهم. ومن بينهم الطفل كريم ذو الـ14 عاماً، الذي فقد والديه جراء قصف منزلهما في حي الصبرة بغزة، يوم 3 ديسمبر/كانون الأول. كما تعرضت شقيقته لإصابات بالغة تسببت لها بعاهات مستديمة.
وقال كريم، في تصريح لصحيفة الغارديان البريطانية، إنه وقت القصف أخذت والدته تعده بأن العائلة ستبقى مجتمعة حتى إذا حدث الأسوأ، فيمكنهم على الأقل أن يموتوا معاً، وهو الوعد الذي لم تحافظ عليه. وأضاف: "لم أتمكن من توديع أمي وأبي وأخي، ولم تُقَم لهم جنازة (...) أنا لا أستطيع أن أفهم كيف ستكون الحياة بعد فقدان عائلتي. هذا الألم لا يطاق".
أما بالنسبة إلى رؤى، التي تبلغ 13 عاماً، لم يُنجِّ النزوح نحو جنوب القطاع والدتها من الموت. فقبل ذاك كان والداها قد اتفقا على الافتراق من أجل إنقاذ الأبناء، فبينما بقي الأب لحراسة البيت الواقع في منطقة بيت لاهيا، نزحت الأم وأبناؤها الخمسة نحو الجنوب هرباً من الاجتياح الإسرائيلي.
ولقيت والدة رؤى وإحدى شقيقاتها مصرعهما في غارة إسرائيلية استهدفتهما في أثناء نزوحهما، وبعدها بيومين توفي الأب إثر انفجار بقرب المستشفى الإندونيسي. بينما تلقت رؤى إصابة في إحدى يديها وظهرها وصدرها.
وأكد رئيس الاتصالات في اليونيسف في دولة فلسطين جوناثان كريكس، أنه مع ذلك فالأطفال الذين التقى بهم كانوا في مناطق آمنة في رفح، مبدياً مخاوفه بالقول: "نخشى أن يكون وضع الأطفال الذين فقدوا والديهم أسوأ بكثير في شمال ووسط قطاع غزة".
أطفال الـ "WCNSF" ومصائر مجهولة
وإضافة إلى هذه القصص المروعة، يواجه عدد من يتامى قطاع غزة مصير أن يصبحوا مجهولي الهوية. ذلك إذ عثر على العديد منهم في سن صغيرة جداً بحيث لا يستطيعون الكلام أو تحديد هوية والديهم وعائلاتهم، أو أن آثار الصدمة النفسية أو العاهات التي تعرضوا لها جعلتهم غير قادرين على فعل ذلك.
ويشار إلى هؤلاء الأطفال بكلمة "WCNSF"، وهي الحروف الأولى من جملة "طفل جريح من دون والدين على قيد الحياة". وتُجهل لحد الآن أعداد هؤلاء الأطفال، الذين ينتظرهم مستقبل مجهول المعالم في حال لم يجر التعرف على الأسر التي ينحدرون منها.
وفي تصريح لصحيفة الغارديان، قال جيمس إلدر، المتحدث باسم اليونيسف: "أجنحة المستشفيات ممتلئة بالأطفال الجرحى الذين لا توجد أُسَر لهم على قيد الحياة (...) وكانت لدينا فتاة تبلغ من العمر 14 عاماً، خرجت لتوها من منطقة حرب في مدينة غزة، مصعوقة وصامتة وملطخة بالدماء، ولم يكن لديها أحد على الإطلاق".
وأضاف إلدر: "كم يبلغ عدد الأطفال في مثل وضعها؟ نحن ببساطة لا نعرف". مشدداً على أن وجود مثل هذه الحالات بكثرة "تؤكد الطبيعة العشوائية وشراسة" العدوان الإسرائيلي على غزة، بحيث "تمت إبادة عوائل بأكملها".
وحسب الأطباء وعمال الإغاثة في غزة، فإن هؤلاء الأطفال غير المصحوبين بذويهم غالباً ما يعانون من إصابات مروعة: حروق الأنسجة العميقة، وكدمات الرئة، وتلف الدماغ، وفقدان الأطراف، وجروح الشظايا. بل ويصل البعض فاقداً للوعي، ويحتاج البعض إلى الإنعاش الفوري في ظل انعدام الإمكانيات الطبية اللازمة في مستشفيات القطاع.
وذكرت صحيفة واشنطن بوست، بأنه حتى الأطباء وعمال الإغاثة يصابون بالصدمة عندما يقابلون مثل هذه الحالات. ونقلت عن أحمد المخللاتي، جراح التجميل الذي عمل في مستشفى الشفاء والمستشفى الأوروبي في غزة، قوله: "من الصعب حقاً الأداء عندما تفكر في هؤلاء الأطفال، ومستقبلهم، وأحلامهم، وكيف ستبدو حياتهم، وكيف سيعيشون بقية حياتهم".
يعيش هؤلاء الأطفال، بمعية أقرانهم الآخرين من يتامى الحرب في غزة، وضعاً مأساوياً يشترك فيه فقدان العائلة المعيلة وويلات الإبادة الجماعية، في وقت يستمر فيه الاحتلال الإسرائيلي بمنع المساعدات الإنسانية إلى القطاع المحاصر.
وحذّرت منظمة "إنقاذ الطفولة" الإنسانية الدولية، من أن الكثير من أطفال في غزة "سيموتون بسبب المجاعة والجفاف والمرض إذا استمر استخدام المساعدات الإنسانية كسلاح"، كما "سيعاني العديد أيضاً من آثار خطيرة على الصحة العقلية على المدى الطويل".
وتساعد اليونيسف على إضفاء الطابع الرسمي على إجراءات الوصاية القانونية مع أفراد الأسرة الممتدة لأيتام غزة والأطفال الجرحى المنفصلين عن ذويهم، وتعمل على إنشاء مرافق في المستشفيات لدعمهم، لكن هذا المجهود يبقى بطيئاً مع استمرار الحرب والضغط الذي يعانيه نظام الرعاية الصحية في غزة.
ووصف المتحدث باسم اليونيسف، جيمس إلدر، مصير أيتام غزة بالقول: "إنهم لا يعرفون بعد أن حياتهم أكثر انكساراً، وأكثر حزناً مما يتصورون".