البحر الأبيض المتوسط واحد من أكثر الأجزاء المميزة والتاريخية في عالمنا، يمثل نقطة التقاء بين قارات إفريقيا وأوروبا وآسيا، ما يجعله منطقة جغرافية استثنائية ذات تأثير كبير في حضارات الإنسان على مر العصور، يُعرف البحر الأبيض المتوسط أيضاً بمسميات أخرى مثل "بحر الرومانسية" و"البحر الأبيض الكبير"، وهو مصدر إلهام للكتّاب والشعراء والفنانين على مر العصور.
في هذا المقال، سنستكشف تاريخ وثقافة وأهمية البحر الأبيض المتوسط، ودوره الحيوي في مواجهة تحديات البيئة، سنبحر في أعماق هذا البحر الذي ألهم الإنسانية على مرّ العصور واستمرّ في تشكيل مستقبلنا بطرق متعددة.
لماذا سمي البحر الأبيض المتوسط بهذا الاسم؟
سُمي بهذا الاسم نتيجة لاتساعه، إذ تظهر مياهه بلون فاتح شبيه بمياه المحيطات الكبيرة عند الإبحار فيه، وجاء وصفه بالمتوسط نتيجة توسطه بين قارة أوروبا شمالاً وقارتي إفريقيا وآسيا جنوباً وشرقاً.
موقع البحر الأبيض المتوسط:
يقع البحر الأبيض المتوسط بين الجهة الجنوبية من قارة أوروبا، وشمال إفريقيا إلى الجنوب، وفي الجزء الجنوبي الغربي من قارة آسيا إلى الشرق، يفصل قارة أوروبا عن قارة إفريقيا، ويقع فلكياً بين خط عرض 30-46 درجة شمالاً، وخط طول 50-36 درجة غرباً، يقع البحر المتوسط على حدود 21 دولة في ثلاث قارات، مساحة البحر تقدر بنحو 2.510.000 كيلومتر مربع.
دول حوض البحر الأبيض المتوسط:
حوض البحر الأبيض المتوسط هو منطقة غنية جغرافياً وثقافياً تضم العديد من الدول الساحلية التي تحيط بالبحر الأبيض المتوسط. ومن أبرز هذه الدول:
تركيا: تطل تركيا على البحر الأبيض المتوسط من خلال شبه الجزيرة الأناضولية وتضم مدناً مثل أنطاليا ومرسين.
إسبانيا: تمتد سواحل إسبانيا على البحر الأبيض المتوسط في منطقة تعرف باسم الكوستا ديل سول (ساحل الشمس) وتشمل مدناً مثل برشلونة وفالنسيا.
فرنسا: تشتمل سواحل فرنسا الجنوبية على البحر الأبيض المتوسط مناطق ساحلية رائعة مثل نيس ومرسيليا.
إيطاليا: يمتد الساحل الإيطالي الشهير على البحر الأبيض المتوسط من جنوب البلاد مروراً بمدن ساحلية مثل روما ونابولي وصقلية.
اليونان: تشكل اليونان جزءاً كبيراً من السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط وتحتوي على العديد من الجزر الجميلة مثل كريت ورودس.
مصر: يمتد البحر الأبيض المتوسط على ساحل شمال مصر، وميناء الإسكندرية هو أحد المواني الرئيسية على هذا الساحل.
تونس وليبيا: تمتد سواحل تونس وليبيا على الساحل الشمالي للبحر الأبيض المتوسط وتضم العديد من المدن الساحلية.
المغرب: يمتد الساحل المغربي على البحر الأبيض المتوسط من مدينة طنجة وصولاً إلى مدينة الحسيمة.
جزيرة قبرص: تعتبر جزيرة قبرص في شرق البحر الأبيض المتوسط جزءاً من حوض البحر الأبيض المتوسط.
لبنان وسوريا: تشترك لبنان وسوريا في الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ولديهما سواحل تضم مدناً مثل بيروت وطرطوس.
تاريخ البحر الأبيض المتوسط:
منذ المستوطنات الأولى التي تأسست فيها عام 9000 قبل الميلاد في أريحا كان البحر الأبيض المتوسط مهداً للحضارة العالمية. يمتلك ارتباطاً وثيقاً بمراحل التطور البشري عبر التاريخ، فقد كان مكاناً لميلاد وانتقال الرسالات السماوية في المناطق الشرقية المجاورة له، وهو أيضاً منبع العديد من الحضارات الإنسانية بدءاً من الحضارات البابلية والآشورية والمصرية والإغريقية وصولاً إلى الحضارات الفارسية والرومانية والفينيقية والإسلامية، وله دور كبير بتأثيره في الحضارة الغربية التي تقود العالم في الوقت الحالي.
شغل البحر الأبيض المتوسط دوراً رئيسياً في تعزيز الاتصالات بين الشعوب، وساهم في إرساء أسس لتبادل الأفكار والإبداع، إذ كان البحر الأبيض المتوسط بيئة ثرية لتطور الفنون في مختلف مجالاتها، بما في ذلك الأدب والفلسفة والموسيقا والفلك، وقد أسهم هذا التنوع الثقافي والتبادل الفكري في تقدّم التكنولوجيا أيضاً.
على ضفاف البحر الأبيض المتوسط ازدهرت حضارات رائدة من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، شملت بلاد ما بين النهرين ومصر والأناضول وطروادة ومقدونيا والمدن اليونانية والحضارة الفينيقية وقرطاج وروما وبغداد والأندلس وبيزنطة والإمبراطورية العثمانية والإسكندرية وبولونيا.
تأسست إحدى أكبر المكتبات في العالم القديم على سواحله، وهي مكتبة الإسكندرية في مصر (300 قبل الميلاد)، كما شهدت هذه المنطقة ظهور أوائل التفكير الفلسفي والفكري في الفترة الهيلينية، بما في ذلك علماء مشهورون مثل طاليس وأناكسيمندروس وفيثاغورث وأرسطو والعديد من الفلاسفة والعلماء الآخرين في القرون السادس والخامس والرابع قبل الميلاد.
في العصور الوسطى ازدهرت الحضارة الإسلامية في المنطقة، وبين عامي 622 و750م، امتدت الدولة الإسلامية من شبه الجزيرة العربية إلى مناطق متعددة في الشرق الأوسط، آسيا الصغرى، بلاد فارس، شمال إفريقيا، وشبه جزيرة إيبيريا، وأصبحت الأندلس في إسبانيا والمغرب مركزًا ثقافياً بديلاً لبغداد لفترة طويلة.
من القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر، أثّر فلاسفة كبار في تطوير الفلسفة الإسلامية في المنطقة، منهم جابر بن حيان والفارابي والبيروني وابن سينا والقشيري والغزالي وأيضاً البغدادي وابن رشد وجلال الدين الرومي وابن خلدون.
الهجرات التاريخية على ضفاف البحر الأبيض المتوسط ساهمت بشكل كبير في تعزيز التنوع العرقي واللغوي والديني والثقافي والحضاري في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، لذا لقّبت هذه المنطقة من مؤرخين وعلماء اجتماع بـ"مركز العالم".
ماذا يوجد في البحر الأبيض المتوسط؟
البحر الأبيض المتوسط هو منطقة غنية بالثقافة والتاريخ والبيئة، ومن أبرز ما يمكن العثور عليه في هذا البحر:
المدن التاريخية: يوجد العديد من المدن التاريخية الشهيرة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، مثل أثينا وروما وباريس وإسطنبول والقاهرة وبرشلونة ومرسيليا والقرى الساحلية الجميلة مثل سانتوريني في اليونان وسينترو في إيطاليا.
مناظر طبيعية مذهلة: تحتضن المنطقة مناظر طبيعية متنوعة تشمل الشواطئ الذهبية والسواحل الصخرية والجبال والجزر الخلابة مثل جزر البليار وسردينيا وقبرص.
مواقع ثقافية وأثرية: يوجد العديد من المواقع التاريخية والأثرية في المنطقة، مثل الأكروبوليس في أثينا ومدينة بومبي القديمة في إيطاليا.
حياة بحرية غنية: البحر الأبيض المتوسط يضم مجموعة متنوعة من الأنواع البحرية، بما في ذلك الأسماك والدلافين والسلاحف البحرية، يعتبر البحر الأبيض المتوسط مكاناً رائعاً لمشاهدة الحياة البحرية والغطس.
مأكولات لذيذة: تعتبر المنطقة من أفضل وجهات الطهي في العالم، إذ يمكنك تذوّق المأكولات البحرية الطازجة والأطباق المحلية الشهيرة مثل الباييلا الإسبانية والباستا الإيطالية والمزيد من المأكولات الأخرى.
ثقافات متنوعة: يعيش في المنطقة مجموعة متنوعة من الثقافات واللغات والأديان، ما يضيف تنوعها الثقافي، ويجعلها مكاناً فريداً للاستكشاف والتفاعل الثقافي.
جامعات البحر الأبيض المتوسط:
منطقة البحر الأبيض المتوسط تضم العديد من الجامعات المرموقة والمؤسسات التعليمية التي تسهم بشكل كبير في التعليم والبحث والتنمية في المنطقة، ومن أبرز هذه الجامعات:
جامعة إسطنبول (تركيا): تضم تركيا العديد من الجامعات المرموقة، وجامعة إسطنبول تعد واحدة من أبرزها وتوفر برامج دراسات متنوعة.
جامعة الإسكندرية (مصر): من أكبر الجامعات في مصر ويعود تاريخ إنشائها إلى عام 1938، وتعدُّ مركزاً رائداً للبحث العلمي والتعليم في مصر والعالم العربي.
جامعة السوربون (فرنسا): تعدُّ جامعة السوربون واحدة من أقدم الجامعات في أوروبا ومعروفة بتقديم التعليم العالي في مجموعة متنوعة من التخصصات.
جامعة أثينا (اليونان): تأسست في عام 1837 وهي واحدة من أقدم الجامعات في اليونان والمنطقة.
جامعة بوسطن (لبنان): تعدّ جامعة بوسطن واحدة من أفضل الجامعات في لبنان وتشتهر بتقديم برامج دراسات عليا متميزة.
جامعة برشلونة (إسبانيا): تعدُّ جامعة برشلونة واحدة من أفضل الجامعات في إسبانيا وتقدم برامج دراسات متنوعة في مجموعة متنوعة من التخصّصات.
جامعة وارث الأنبياء (تونس): تعدُّ جامعة وارث الأنبياء واحدة من أبرز الجامعات في تونس وتلعب دوراً مهماً في تعزير التعليم والبحث.
أهمية البحر الأبيض المتوسط:
منذ العصور القديمة اكتسب البحر الأبيض المتوسط أهمية استراتيجية كبيرة، إذ أن مضائقه مثل جبل طارق والدردنيل شهدت صراعات دولية للسيطرة على هذه الممرات الحيوية التي تمكنت من خلالها الجيوش والهجرات من الانتقال عبر العالم، ونتيجة لذلك تميزت المنطقة بالتنوع العرقي واللغوي والديني والثقافي والحضاري الكبير.
مع اكتشاف العالم الجديد في نهاية القرن الخامس عشر بما في ذلك الأمريكتان الشمالية والجنوبية، زادت أهمية البحر المتوسط بشكل كبير على الرغم من صغر مساحته، أصبح البحر المتوسط بالفعل "مركز العالم" بفضل الازدهار الكبير للتجارة الدولية، وخاصة بعد افتتاح قناة السويس في عام 1869، التي أمكنت التواصل البحري بين البحر المتوسط والبحر الأحمر.
تظل أهمية منطقة البحر الأبيض المتوسط استراتيجية ماثلة على الرغم من تقدم وسائل النقل وازدهار المناطق البعيدة مثل الأمريكتين وآسيا وأستراليا، فنسبة تفوق 30% من إجمالي السفن العاملة في المحيطات تعبر مياه البحر الأبيض المتوسط، ونسبة تفوق 40% من ناقلات النفط تستخدم هذه المنطقة كمرور، وذلك بفضل قربها من منطقة الشرق الأوسط التي تُشكل أكثر من 70% من إجمالي صادرات النفط والغاز على مستوى العالم.
تجذب دول منطقة البحر الأبيض المتوسط أكثر من 200 مليون سائح سنوياً، ومن الناحية الاستراتيجية تسعى القوى الكبرى إلى تأسيس وجود لها في هذه المنطقة المهمة، سواء من خلال إنشاء قواعد عسكرية أم مراكز للمراقبة الفضائية أو مراكز للتجسس.
التلوث البيئي في البحر الأبيض المتوسط:
حوض البحر الأبيض المتوسط يُعدُّ واحداً من أكثر المناطق تنوعاً بيئياً في العالم، يتميز المناخ المتوسطي بمعدلات حرارة معتدلة ومواسم متوازنة وكميات معتدلة من الأمطار، ما يجعله مناسباً للأنشطة التجارية والإنتاجية.
ومع ذلك، يواجه البحر الأبيض المتوسط خطر التلوث، فمن خلال دراسة أجريت في عام 2015 أظهرت وجود أكثر من 250 مليار قطعة بلاستيك تتناثر في مياهه بفعل الأمواج والتيارات البحرية، وبعض هذا البلاستيك يتجمع في عمق البحر، هذا التلوث يشكل تهديداً كبيراً للبيئة البحرية بسبب التأثير الضار للبلاستيك في البيئة الطبيعية، ولمدة طويلة يبقى البلاستيك في المياه لمدة تصل إلى 1000 سنة.
البحر الأبيض المتوسط يتعرض أيضاً للتلوث الناتج عن نشاط حاملات النفط، إذ تُفرغ هذه السفن الكبيرة أكثر من 200 ألف طن من المحروقات على سواحل المتوسط سنوياً.
في الختام، يظل البحر الأبيض المتوسط رمزاً للجمال والثقافة والتاريخ، فهو بحر يروي حكايات الشعوب والحضارات على مدار آلاف السنين، من خلال مدنه الساحلية الرائعة ومناظره الطبيعية الخلابة، إلى تاريخه الغني والمعقد وإسهاماته الكبيرة في التبادل الثقافي والاقتصادي، يظل البحر الأبيض المتوسط تحفة طبيعية وثقافية لا تضاهى.
ومع ذلك فإنه يجب علينا أيضاً أن نتذكر التحديات التي يواجهها البحر الأبيض المتوسط في العصر الحديث، بما في ذلك التلوث البيئي والضغوط البيئية والهجرة غير الشرعية، إذ يتعين علينا العمل معاً كمجتمع دولي للمحافظة على هذا التراث الثقافي والبيئي والمساهمة في تحسين ظروف حياة الناس في المنطقة.