تشهد الحدود اللبنانية الإسرائيلية العديد من التوترات في فترات مختلفة، بسبب الخلافات الكبيرة بين الجانبين في ترسيم الحدود البرية، إذ تغيب صيغة متفق عليها بين لبنان وإسرائيل، فما أبرز هذه الخلافات؟ ولماذا لم تُرسّم حتى الآن رغم تدخّل الأمم المتحدة؟
حدود لبنان-إسرائيل
رغم أنه لا يطلق عليها "الحدود اللبنانية الإسرائيلية" بشكل رسمي، فإن هذا المصطلح يستعمل في وسائل الإعلام للدلالة والتعريف فقط، إذ لم تُرسّم الحدود البرية بين الجانبين حتى الآن، نظراً للخلافات الكبيرة بينهما في ترسيمها.
وتحل محل كلمة الحدود، عبارة "الخط الأزرق" أو "خط الانسحاب"، الذي رسمته الأمم المتحدة بين الجمهورية اللبنانية من جهة والكيان الإسرائيلي وهضبة الجولان المحتلة من جهة ثانية، في السابع من شهر يونيو/حزيران سنة 2000.
هذا الخط الأممي الذي يبلغ طوله أكثر من 120 كيلومتراً، لا يعتبره الطرفان المعنيان حدوداً دولية ولا يعترفان به، بل أُنشئ من طرف الأمم المتحدة قبل 23 سنة، بهدف التأكد من انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان، بعد احتلاله له.
أصل الخلاف الحدودي بين لبنان وإسرائيل
تعود جذور الخلاف بين لبنان والكيان العبري "إسرائيل" حول الحدود البرية إلى أوائل القرن العشرين الماضي، أي قبل زرع ورم الكيان الإسرائيلي في المنطقة، ولا يمكن فهم هذه المشكلة إلا عبر ثلاث مراحل أساسية، وهي المراحل التاريخية التي مرّ منها هذا الصراع، والتي يمكن تقسيمها على الشكل التالي:
المرحلة الأولى (1923-1948)
تعرف هذه المرحلة باتفاقية 1923، فقد شهدت هذه السنة توقيع ما سمي اتفاق "ترسيم الحدود النهائي"، بين الانتداب (الاحتلال) الفرنسي للبنان والانتداب (الاحتلال) البريطاني لفلسطين، وقد مثّل الجانب الفرنسي في هذا الاتفاق المقدّم بوليه، بينما مثّل بريطانيا المقدّم نيو كمب.
وتضمّن هذا الاتفاق الموقع في السابع من شهر مارس/آذار سنة 1923، 39 نقطة، 38 منها متعلقة بنقاط الفصل بين فلسطين ولبنان، بينما النقطة التاسعة والثلاثون تطرقت إلى الحدود المشتركة بين سوريا ولبنان وفلسطين، التي تمتد من منطقة الحمّة السورية إلى رأس الناقورة اللبنانية في ساحل البحر الأبيض المتوسط.
وقد حُدّد نطاق هذه الحدود بعلامات وإشارات مرقّمة وموصوفة، بعد إيداع نسخة من هذه الاتفاقية لدى عصبة الأمم (1919-1946)، التي صدّقت عليها كوثيقة دولية، في السادس من شهر فبراير/شباط عام 1924.
المرحلة الثانية (1948-2000)
بدأت المرحلة الثانية من هذا الخلاف، بعد إعلان تأسيس الكيان الإسرائيلي في الرابع عشر من شهر مايو/أيار سنة 1948، وفي اليوم الموالي لإعلان التأسيس، نشبت حرب في الأراضي الفلسطينية بين المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة العربية السعودية والمملكة المصرية والمملكة العراقية، إلى جانب سوريا ولبنان وقوات فلسطينية، ضد المليشيات الصهيونية، وهو ما سمي حرب 1948، التي انتهت بهزيمة العرب وانتصار المليشيات الإسرائيلية المسلحة.
بعد انتهاء هذه الحرب في 10 مارس/آذار عام 1949، هجرت قوات الاحتلال الإسرائيلي الفلسطينيين من أراضيهم وقراهم، وسلمتها إلى المستوطنين اليهود، الذين كانوا يهاجرون نحو فلسطين، بينما عرف بهجرة اليهود. ونتج عن هذه الحرب التي دامت نحو 10 أشهر (9 أشهر و3 أسابيع ويومان)، استيلاء إسرائيل على معظم الأراضي الفلسطينية، وخاصة في الشمال قرب الحدود مع لبنان.
وفي تاريخ 23 مارس/آذار عام 1949، وقعت اتفاقية هدنة بين لبنان والكيان الإسرائيلي، برعاية مجلس الأمن الذي صدّق عليها، وجرى بموجبها الاتفاق على ترسيم الحدود على أساس اتفاق نيو كمب وبوليه بين بريطانيا وفرنسا الموقع سنة سنة 1923، الذي تضمن 38 نقطة حملت رمز (BP).
في عام 1961، اشترط الوفد الإسرائيلي في لجنة الهدنة -المشكلة بين الجانبين- إضافة نقاط وسيطة (B) بين النقاط الأساسية الثمانية والثلاثين، إذ طلبت إسرائيل رفع عدد النقاط إلى 97 نقطة، إلى جانب نقاط مساعدة أخرى تحمل إشارة (/BP)، إلا أن الوفد اللبناني رفض ذلك مستنداً إلى اتفاق بوليه-نيو كمب (1923) واتفاقية الهدنة (1949)، التي أقرّ بهما الكيان العبري.
بعد "فشلها الذريع" في المفاوضات مع الطرف اللبناني حول ترسيم الحدود البرية بين الطرفين، عمدت قوات الاحتلال الإسرائيلي في السادس يونيو/حزيران سنة 1982، إلى الهجوم على لبنان، بذريعة شن عملية عسكرية ضد منظمة التحرير الفلسطينية الموجودة في الأراضي اللبنانية، بزعم قيامها بمحاولة اغتيال السفير الصهيوني لدى المملكة المتحدة.
نتج عن هذا العدوان، احتلال إسرائيل لجنوب لبنان، كما تمكنت من إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من الأراضي اللبنانية، بعد هزيمتها فيما سمي "حرب لبنان 1982"، رفقة القوات السورية وبعض الجماعات المسلحة اللبنانية المشاركة في الحرب، بعد ثلاث سنوات متواصلة من المعارك.
رغم توقف حرب لبنان سنة 1985، فإن قوات الاحتلال الإسرائيلي لم تغادر الأراضي اللبنانية في الجنوب، إذ استمرت في احتلالها إلى غاية توقيع ما سمي "خط الانسحاب"، بعد احتلال دام أكثر من عقد ونصف العقد من الزمن (15 سنة).
المرحلة الثالثة (2000 وما بعدها)
تبدأ المرحلة الثالثة، فور إنشاء ما سمي "خط الانسحاب" أو "الخط الأزرق"، الذي أنشأته الأمم المتحدة بتاريخ 7 يونيو/حزيران عام 2000، بعد انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان، في الخامس والعشرين من شهر مارس/آذار من السنة نفسها.
وفي 12 يوليو/تموز سنة 2006 اندلع ما سمي حرب تموز، وفق التسمية الشائعة في لبنان، أو حرب لبنان الثانية، حسب التسمية المعتمدة لدى الكيان الإسرائيلي، وهي عمليات قتالية نشبت بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وقوات من حزب الله المتمركزة في جنوب لبنان.
وبعد تدخل مجلس الأمن الدولي، توقفت ما وصفها الأخير بـ"الأعمال العدائية"، بعد حرب دامت أكثر من شهر (33 يوماً)، إذ نص قرار المجلس (1701) على وقف القتال بين الجانبين، إلى جانب نشر 15 ألف جندي من قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان "اليونيفيل" (United Nations Interim Force in Lebanon) لحفظ السلام.
كما نص القرار الأممي على انتشار الجيش اللبناني في جنوب لبنان، مع انسحاب عناصر حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، فضلاً عن تراجع جيش الاحتلال إلى "الخط الأزرق".
وهذا الخط الأممي تتحفظ عليه السلطات اللبنانية بشكل كبير، إذ تقول إنه يحرمها من مساحة كبيرة من أراضيها في 13 نقطة حدودية مع الأراضي الفلسطينية المحتلة، حسب الاتفاقية الموقعة بين بوليه ونيو كمب سنة 1923.
لماذا تحفّظ لبنان عن "خط هوف"؟
تقول بعض المصادر اللبنانية، إن لبنان يعاني "ضغوطاً دولية واسعة"، وخاصة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية، التي تطالبه بقبول بعض النقاط المضافة (خط هوف) لنقاط "الخط الأزرق"، -وهو خط اقترحه السفير الأمريكي، فريدريك هوف، وسمي باسمه- والتي سيتنازل لبنان بموجبها، إذا قبل بها، عن جزء مهم من حدوده البرية والبحرية معاً.
إذ تحفّظ الجانب اللبناني عن قبول 13 نقطة (بلدة) من ضمن نقاط الخط الأزرق، الذي يقول إنها مناطق لبنانية مئة بالمئة، والتي حرمت لبنان من 485 ألفاً و530 متراً مربعاً من أراضيه.
فضلاً عن مساحات شاسعة من حدوده البحرية في المنطقة الاقتصادية الخالصة في الجنوب اللبناني، بسبب سيطرة إسرائيل على منطقة رأس الناقورة، التي لها امتياز جغرافي وتأثير كبير في ترسيم الحدود البحرية والمنطقة الاقتصادية الخالصة.