انخفاض غير مسبوق.. هل تتدارك اليابان نزيفها السكاني الحاد؟ / صورة: Reuters (Reuters)
تابعنا

تراجع عدد المواليد في اليابان إلى مستوى قياسي جديد العام الماضي، وفقاً للتقديرات الرسمية، حيث انخفض إلى أقل من 800 ألف، للمرة الأولى، وهي لحظة فاصلة جاءت قبل ثماني سنوات مما توقعته الحكومة. أدى ذلك على الأرجح إلى مزيد من الانخفاض في عدد السكان في بلد يبلغ فيه متوسط العمر 49 عاماً، وهو أعلى معدل في العالم بعد مدينة موناكو الصغيرة فقط.

وتحاول اليابان في السنوات الأخيرة جاهدة تشجيع شعبها على إنجاب المزيد من الأطفال، وذلك بإعطائهم الوعود بمكافآت نقدية ومزايا أفضل، لكنها لا تزال واحدة من أغلى الأماكن في العالم لتربية الأطفال، وفقاً للاستطلاعات.

وبينما تكافح اليابان مع هذه الأزمة الديموغرافية، يراقب العالم ليرى ما إذا كان بإمكانها تنفيذ استراتيجيات فعالة لتصحيح النزيف السكاني الحاد.

نزيف سكاني حاد

توجد في اليابان أدنى معدلات المواليد في العالم، فضلاً عن كونها من أعلى معدلات العمر المتوقع؛ ففي عام 2020، كان ما يقرب من واحد من كل 1500 شخص في اليابان يبلغ من العمر 100 عاماً أو أكثر، وفقًا لبيانات حكومية، الأمر الذي يعني تضخم عدد المسنين وتقلص القوى العاملة وعدم وجود عدد كافٍ من الشباب لسد الفجوات - مما يشكل أزمة ديموغرافية في طور التكوين لعقود، وفق شبكة CNN الأمريكية.

وفي عام 2022، سجلت كل محافظة من محافظات اليابان البالغ عددها 47 انخفاضاً في عدد السكان، بينما انخفض إجمالي عدد اليابانيين بنحو 800 ألف، في وقت تكثف الحكومة اليابانية التدابير في مسعى لزيادة معدل المواليد المنخفض للغاية.

ولم تتمكن الزيادة الكبيرة في عدد المقيمين الأجانب بأكثر من 10%، لتصل إلى 2.99 مليون، من وقف الانزلاق في إجمالي عدد السكان، الذي انخفض لمدة 14 عاماً على التوالي.

وتشير الأرقام الصادرة عن وزارة الشؤون الداخلية اليابانية إلى أن عدد السكان الذين يحملون الجنسية اليابانية بلغ 122,42 مليون في الأول من يناير/كانون الثاني 2023، أي أقل بنحو 800500 شخص عن عام 2021. وأشارت الوزارة إلى أن التراجع الذي بلغ 0.65% هو الأعلى منذ عام 1968، عند توفير الإحصاءات القابلة للمقارنة.

وتضيف البيانات الجديدة التي تتوقع أن يصل عدد سكان اليابان المتراجع بسرعة إلى 87 مليون نسمة في عام 2070 إلى الضغط على صانعي السياسة لمواجهة أزمة ديموغرافية في ثاني أكبر اقتصاد في آسيا.

"الآن أو أبداً"

منذ تسعينيات القرن الماضي، أدركت الحكومات اليابانية المتعاقبة أن عدد السكان سيبدأ في الانخفاض وحاولت تقديم حلول. ومع ذلك، فاجأت سرعة الانكماش حتى الخبراء. في عام 2017، على سبيل المثال، توقع المعهد الوطني لأبحاث السكان والضمان الاجتماعي ومقره طوكيو أن العدد السنوي للمواليد لن يقل عن عتبة 800000 حتى عام 2030.

ومع تزايد خطورة انخفاض عدد السكان في اليابان، أعلنت حكومة رئيس الوزراء فوميو كيشيدا عن سلسلة من الجهود لتشجيع المزيد من الناس على إنجاب الأطفال. وفي بداية العام الجاري، تعهد كيشيدا باتخاذ خطوات عاجلة للتصدي لانخفاض معدل المواليد في البلاد قائلاً إنه "الآن أو أبداً"، وفقاً لما نقلته رويترز.

في يناير/كانون الثاني، حذر كيشيدا من أن الأمة "على شفا أزمة" وأن البلاد "على وشك عدم القدرة على الحفاظ على الوظائف الاجتماعية" بسبب انخفاض معدل المواليد. وقال إن حكومته سوف تنفق حوالي 20 تريليون ين (حوالي 140 مليار دولار) على تدابير لدعم الأزواج الشباب الذين يرغبون في إنجاب المزيد من الأطفال. يتوافق هذا مع حوالي 4% من الناتج المحلي الإجمالي لليابان، وهو ما يقرب من ضعف المبلغ الذي خصصته الحكومة لنفس الهدف في السنة المالية 2021.

وافقت الحكومة على زيادة مخصصات الأطفال وبذل جهود إضافية للقضاء على فقر الأطفال وإساءة معاملتهم. سيتم أيضاً تشجيع الآباء الجدد على أخذ إجازة أبوة، فضلاً عن منحهم إعفاءات ضريبية أكبر وتخصيص تمويل إضافي لمرافق الحضانة حتى يتمكن الآباء العاملون من العودة إلى العمل.

عقبات اقتصادية واجتماعية

أنماط الحياة الحضرية المزدحمة وساعات العمل الطويلة لا تترك سوى القليل من الوقت لبعض اليابانيين لتكوين أسر، كما أن ارتفاع تكاليف المعيشة التي تعني إنجاب طفل أمر مكلف للغاية بالنسبة للعديد من الشباب. في عام 2022، صُنفت اليابان كواحدة من أغلى الأماكن في العالم لتربية الأطفال، وفقاً لبحث أعدته مؤسسة جيفريز المالية ونقلته CNN.

وخلال حديثه لـ دويتشه فيله الألمانية، وافق ماساتاكا ناكاجاوا، الباحث الأول في المعهد الوطني لأبحاث السكان والضمان الاجتماعي، على أن أحدث الإحصاءات السكانية كانت مقلقة، لكنه حذر من وجود عوامل أخرى يجب أخذها في الاعتبار، مثل انخفاض عدد الزيجات. وقال إن الناس في اليابان عادة ما يتزوجون في وقت لاحق من حياتهم ويختارون إنجاب عدد أقل من الأطفال، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى الضغوط المالية.

فيما قالت تشيساتو كيتاناكا، الأستاذة المشاركة في علم الاجتماع بجامعة هيروشيما، إن الحكومات فشلت في وضع سياسات فعالة لحل مشكلة السكان، على الرغم من إدراكها أن التراجع أمر لا مفر منه.

وأضافت كيتاناكا: "لطالما كان هناك الكثير من العقبات للشباب الذين يريدون إنجاب الأطفال للتغلب عليها". مشيرةً إلى أن هذه تشمل المخاوف المالية والتعليمية، بالإضافة إلى أن المشكلة الأكبر تتمثل في المواقف الاجتماعية.

وقالت: "في اليابان، إنجاب طفل يعني أنه يجب على الزوجين الزواج. 2% فقط من الأطفال يولدون خارج إطار الزواج في اليابان". وأردفت كيتاناكا: "هذا ما لا يعتبر مقبولاً اجتماعياً هنا، وهو ما يجعل تربية الطفل كأم عزباء أمراً صعباً لأنه يتعين عليها العمل وكسب المال، وفي الوقت نفسه يتم تحديدها من قبل المجتمع".

وبينما يقترح الخبراء أنه من الجيد التفكير بجدية في الهجرة على نطاق واسع كطريقة لحل مشكلة السكان في اليابان وتوفير إمدادات مستقرة من العمال، إلا أنهم يرون في هذه الخطوة "أمر صعب" التحقيق حالياً، لا سيما وأن الكثير من اليابانيين غير مستعدين بعد لقبول الأجانب.

آفاق قاتمة

على الرغم من جهود حكومة كيشيدا التي تهدف إلى كسب دعم المجتمع للأطفال والآباء عبر خلق دائرة اجتماعية صديقة لتربية الأطفال في جميع أنحاء البلاد، إلا أن النقاد غير مقتنعين تماماً بالمقترحات الأخيرة. ويحذرون من أن الحكومة السابقة حاولت أيضاً استخدام الإنفاق لتشجيع طفرة المواليد، لكن المجتمع الياباني فشل في الاستجابة.

ويشيخ السكان بسرعة، ويبلغ عدد الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً بالفعل ما يقرب من 30% في اليابان. وتؤثر شيخوخة السكان في اليابان بالفعل على كل جانب من جوانب المجتمع تقريباً. وتم تصنيف أكثر من نصف جميع البلديات كمناطق خالية من السكان، وأكثر من 1.2 مليون شركة صغيرة لديها مالكون يبلغون من العمر 70 عاماً تقريباً وليس لديهم ورثة، بحسب ما نقلته صحيفة الغارديان البريطانية.

ولهذا السبب بدأت البرامج على قنوات البث عبر الأقمار الصناعية توجه رسالتها للجمهور الأكبر سناً، مع الإعلانات التجارية، مثل الإعلان عن عروض لخدمات الجنازات، والمكملات الغذائية لتخفيف آلام المفاصل ومنصات السلس.

كما أن العالم السفلي لليابان أيضاً لم يفلت من الأذى الديمغرافي هذا، فغالبية الياكوزا - العصابات اليابانية - تزيد أعمارهم عن 50 عاماً وهناك الآن عدد أكبر من رجال العصابات في السبعينيات من العمر أكثر من العشرينات.

TRT عربي
الأكثر تداولاً