طوال أغسطس/آب الماضي، عُرِض في تركيا الفيلم المصري "بيت الروبي"، الذي حصل على أعلى إيرادات في مصر لهذا العام، والحائز لقب "رابع أعلى الأفلام تحقيقاً للإيرادات في تاريخ السينما المصرية".
وقُدّم الفيلم بدور العرض في عددٍ من المدن التركية، ويرى القائمون على توزيع الفيلم داخل تركيا أنّه سيكون انطلاقة لعودة التعاون السينمائي بين البلدين، الذي يمتدّ تاريخه لما يقرب من قرن.
وفي هذا السياق يقول صاحب الشركة الموزعة للفيلم داخل تركيا، إبراهيم بكتاش، إنّه منذ بداية فكرة إنشاء شركة لتوزيع الأفلام العربية، كانت أولى خططهم عرض فيلم من مصر، "لأنّها من أفضل البلدان العربية في الإنتاج السينمائي، كما يوجد تاريخ مشترك للدولتين في هذا المجال، حيث كانت تُعرض الأفلام قديماً في سينمات القاهرة وإسطنبول في توقيت واحد".
ويضيف بكتاش لـTRT عربي، أنّ الجمهور العربي في تركيا تفاعَل بشكل كبير مع فيلم بيت الروبي، كما أنّها كانت تجربة مختلفة بالنسبة إلى الجمهور التركي، لافتاً إلى أنّهم يعملون على مشاريع مشابهة عدّة، بعد نجاح التجربة الأولى، وسيعلنون عنها قريباً.
الموسيقى باباً للسينما
اعتاد الأتراك منذ عقود موسيقاهم الشرقية، وفي منتصف ثلاثينيات القرن الماضي بثت الإذاعة التركية الموسيقى ذات الإيقاع الغربي بدلاً عن موسيقى المقامات، ومع ذلك لم يتخلَّ الأتراك أبداً عن الموسيقى الشرقية التي عرفوها.
وحول ذلك يقول الباحث والأكاديمي التركي مراد أوزيلدريم، إنّ إذاعة القاهرة أصبحت تحظى بمتابعة كبيرة في تركيا، إذ لم تكن أجنبية على الذوق الموسيقيّ للأتراك، وكانت تبث أعمال الملحنين الأتراك والعرب في تلك الفترة.
ويضيف أوزيلدريم لـTRT عربي، أنّ بث الموسيقى التركية الشرقية عاد مرة أخرى عام 1936، ومع ذلك ظلّت المحطات المصرية تصدح في منازل الأتراك ومقاهيهم ليس فقط بالموسيقى، بل أيضاً بإذاعة القرآن الكريم.
ويبدو أنّ الموسيقى المصرية قد مهَّدت لعرض الأفلام في تركيا، إذ يقول أوزيلدريم، مؤلف كتاب "وحدة الموسيقى العربية والتركية في القرن العشرين" الذي تناول فيه انتشار الأفلام المصرية بالسينما التركية: "اشتهر الفنانون المصريون في تركيا، مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وعندما بدأ استيراد الأفلام الغنائية المصرية لتركيا، أصبح من الممكن رؤية الفنانين على هذه الستارة السحرية، وكذلك الاستمتاع بأصواتهم التي أحبها الأتراك عبر الراديو".
بدايات مشتركة
أُنتج أول فيلم مصري طويل عام 1927، بعنوان "ليلى"، وقامت ببطولته المصرية عزيزة أمير مع التركي وداد عرفي بنغو، وقد حظي الفيلم الصامت بحفاوة بالغة عندما عُرض على مسرح القاهرة.
وعن الدور المهم الذي لعبه حفيد الصدر الأعظم خليل رفعت باشا، وداد عرفي بنغو في تاريخ السينما المصرية والتركية، يشير أوزيلدريم إلى أنّه بالإضافة إلى التمثيل وصناعة الأفلام، شغل بنغو منصب رئيس تحرير كثير من مجلات السينما التركية والفرنسية، كما كان المدير الفني لشركة "إيزيس للإنتاج السينمائي"، التي أسَّستها عزيزة أمير وزوجها أحمد الشريعي، وصوّر بنغو أكثر من 10 أفلام في مصر، مثل "جميلة الصحراء" و"كارثة في الأهرام".
ومثّلت عزيزة أمير في أول فيلم ناطق تُنتجه تركيا عام 1931، بعنوان "شوارع إسطنبول Istanbul Sokakları"، الذي صوّرته شركة "إيبك فيلم"، وكتبه محسن أرطغرل -وهو من أهم مؤسسي المسرح والسينما في تركيا- وكان إنتاجاً مشتركاً لتركيا ومصر واليونان، حسب أوزيلدريم.
"دموع الحب" التي لم تجفّ عشرين عاماً
كانت صناعة السينما المصرية منتصف القرن العشرين قوية جداً من حيث الإمكانات الفنية والتقنية، كما أنّ مصر ليست مكاناً بعيداً عن تركيا، إذ كان هناك كثير من العلاقات التجارية وعلاقات القرابة، وفق أوزيلدريم.
ويشير الباحث في كتابه "وحدة الموسيقى العربية والتركية في القرن العشرين" -الذي تُرجم إلى العربية ضمن مشروع "كلمة" التابع لمركز أبو ظبي للغة العربية- إلى أنّ فيلم "دموع الحب"، 1935، من بطولة محمد عبد الوهاب ونجاة علي، هو أول فيلم مصري يُعرض في تركيا، حيث عُرض في سينما تقسيم بإسطنبول في نوفمبر/تشرين الثاني 1938، وسرعان ما أصبح مشهوراً جداً بسبب أغاني عبد الوهاب.
ويذكر أوزيلدريم في بحث له بعنوان "أثر الأفلام المصرية على السينما التركية"، أنّ جريدة "صون بوسطة" كتبت في 1939 أنّ 270 ألف شخص شاهدوا الفيلم خلال أربعة أسابيع تقريباً في سينمات إسطنبول، وبالنظر لعدد سكان المدينة الذي كان نحو 600 ألف نسمة، سيُفهم حجم الجمهور الذي وصل إليه الفيلم.
وحول ذلك يقول إنّ الفيلم حطم أرقاماً قياسية بإيراداته في تركيا. صُوِّر وسُجِّل بعض أغاني عبد الوهاب العربية باللغة التركية، وحطمت الأرقام القياسية في المبيعات، لافتاً إلى أنّ أسعار التذاكر كانت معقولة جداً، وغالباً ما شوهد الفيلم أكثر من مرة.
وبعد النجاح المبهر لـ"دموع الحب"، عُرض عدد من الأفلام المصرية، أهمها "الوردة البيضاء" و"يحيا الحب"، وأفلام أم كلثوم الستة: "وداد"، و"نشيد الأمل"، و"دنانير"، و"عايدة"، و"سلامة"، و"فاطمة".
وفي هذا السياق، يبيّن أوزيلدريم أنّ السينما التركية ظلّت تعرض الأفلام المصرية حتى عام 1957، وكانت الفترة الأقوى ما بين 1938 و1953.
يُذكر أنّ دور السينما التركية عرضت 17 فيلماً تركياً بين عامَي 1938 و1944، وفي المقابل عرضت 16 فيلماً مصرياً.
ويشير أوزيلدريم إلى أنّ الأفلام المصرية عُرضت في البداية مدبلجة باللغة التركية، لكن بقيت أغانيها بالعربية، وبعدها بدأ الملحنون الأتراك -خصوصاً سعد الدين قايناق- بتأليف مقطوعات تركية لهذه الأفلام، وغناها فنانون أتراك مشهورون.
ويتابع: "تفضيل الأتراك الأفلام المصرية في الأربعينيات والخمسينيات لم يكن بسبب قلة الأفلام الغربية إثر الحرب العالمية الثانية، كما يرى البعض، فقد كان يُعرض آنذاك الإنتاج الغربي والمصري في دور السينما بتركيا، ولكن من الواضح أنّ الشعب التركي كان يفضّل الأفلام المصرية على غيرها".
إسطنبول.. سوق جديدة لنجوم مصر
كانت فترة الستينيات نقطة التقاء السينما المصرية والتركية مرّة أخرى في أعمال مشتركة عدّة، ويعزو الكاتب والناقد الفني والأدبي محمد علام، ذلك إلى ما مرّت به سوق السينما في مصر من حالة ركود في النصف الثاني من الستينيات، ولذلك عكف المنتجون على البحث عن سوق جديدة، وكانت إسطنبول مستعدّة بامتياز، إذ كانت الفترة الذهبية، لوفرة الإنتاج السينمائي في تركيا بين الستينيات والثمانينيات المعروفة بـ"يشيل جام".
ويقول علام لـTRT عربي، إن أول مَن رحَّب بفكرة اشتراك النجوم العرب مع فناني إسطنبول كان المخرج اللبناني ذو الأصول التركية سيف الدين شوكت، وقدم في ذلك الاتجاه عدداً من الأعمال مثل: "غرام في إسطنبول" عام 1966 من بطولة دريد لحام، و"طريق بلا نهاية" 1969 من بطولة إيهاب نافع، وبمشاركة عدد من النجوم الأتراك مثل: أوزجان تك جول، وتورون كاراجا أوغلو.
ويضيف علام: "بعد أن حقق فيلم (غرام في إسطنبول) عام 1966 نجاحاً كبيراً في تركيا، قدّم المخرج المصري نيازي مصطفى عام 1968 فيلماً للسينما التركية من تأليف عبد الحي أديب، وبطولة مراد صويدان، وهوليا كوتشييت، وفريد شوقي، بعنوان (Vahşi bir erkek sevdim)، وفي العام نفسه، قدّم شوقى فيلم (شيطان البوسفور)، وبعدها فيلم (bir damat aranıyor)".
ويلفت الناقد الفني إلى أنّ شهرة فريد شوقي ذاعت بين الأتراك، تحديداً بسبب فيلم (1968 Cemile) الذي اشتهر عربياً باسم "عثمان الجبار"، وهو من إخراج التركي عاطف يلماز، الذي حقق نجاحاً غير مسبوق في دور العرض التركية.
وبعدها حصل فريد شوقي، الذي شارك فيما يقرب من 15 فيلماً تركياً، على جائزة مهرجان أنطاليا السينمائي في 1969، لأفضل ممثل مساعد، ليكون أول ممثل أجنبي يحصد الجائزة في المهرجان الأهم في تركيا.
وعن التقنيات اللغوية، يبيّن علام أنّ كل ممثل كان يؤدي دوره بلغته ثم يُدبلَج حوار الممثلين المصريين إلى التركية والممثلين الأتراك إلى العربية، وبذلك تُنتج نسختان، واحدة تركية وأخرى عربية للفيلم، ويسوَّق في تركيا ومصر على حد سواء.
تاريخ طويل
وبالعودة إلى الجذور المشتركة يقول الباحث والأستاذ في جامعة "مرسين"، مراد أوزيلدريم، إنّ "تركيا ومصر شقيقتان حقاً، دولةً وشعباً، فبالإضافة إلى الأخوة الدينية وعلاقات النسب والجوار، يجمعهما تاريخ مشترك يعود لأكثر من ألف عام، لم يبدأ فقط مع الدولة العثمانية، بل كان موجوداً منذ عصر الطولونيين والإخشيديين".
ويشير أوزيلدريم إلى الوحدة الثقافية التي تمتدّ لمئات السنين، وأبرز الأمثلة التي تتبادر إلى الذهن هو قيام الخديو إسماعيل بإحضار الموسيقيين المصريين إلى إسطنبول واستضافته في مصر الفنانين الأتراك.
ويتابع: "يتذكر كثير من الأتراك كبار السن تلك الأيام، عندما كان للأفلام المصرية تأثير غير عادي حين عُرضت في تركيا، وما زالوا يقولون إنّهم شاهدوا هذه الأفلام، وبالمثل اليوم، فقد سحرت المسلسلات التلفزيونية التركية العالم العربي بتأثيرها، وأصبح كثير من الممثلين الأتراك الآن معروفين بين العرب".
ويختم أوزيلدريم قائلاً إنّ هذا الماضي الطويل بين مصر وتركيا يؤهلهما لإحياء العلاقات الثقافية والفنية مرّة أخرى، والمسؤولية التاريخية المشتركة، أتراكاً وعرباً، تقتضي ذلك.