"نحن نصنع أبنيتنا ومِن ثمّ هي تصنعنا وتنظّم مجرى حياتنا"
هكذا عبّر ونستون تشرشل عن تأثير العمارة في سلوك الإنسان حيث رأى أن تصميم البيئة التي يعيش الناس فيها يؤثر عليهم إيجاباً أو سلباً، فهناك علاقة بين التصميم الهندسي وصحّة الإنسان النفسية.
تأثير التصميم في الإنسان من منظور علمي.. التجربة خير برهان
أثبت أستاذ علم الأعصاب خوليو برموديز بعد تجربة أجراها سنة 2017، استخدم فيها الرنين المغناطيسي، كيفية تأثير الهندسة المعمارية في الأفراد عن طريق التقاط آثار العمارة على الدماغ، وتوصّل إلى أن العيش في نوع معيّن من التصميمات المعمارية يومياً ينتج عنه فوائد صحيّة تحدث نتيجة التأمل بطريقة التحفيز الذاتي لكن بمجهود أقلّ كثيراً من جانب الفرد. وهي طريقة في البناء وظّفها المعماريون في العصور القديمة في بناء المساجد والمعابد. ويُعتبر جامع السليمانية في تركيا أبرز مثال عليها.
يُذكر أن تجربة برموديز أتت في سياق تاريخي لفلسفات بيئية سابقة، كالفونغ شوي البايوجيومتري، كاتجاهات لدراسة تأثير الطاقة في حياة الإنسان.
علم البايوجيومتري هو علم هندسي خاص يعمل على توازن الطاقة داخل جسم الإنسان فى البيئة المحيطة به، ويُمكن اعتباره علماً شمولياً مرتبطاً بالكثير من العلوم الأخرى أهمها الهندسة.
التجارب التطبيقية للبايوجيومتري لم تقتصر على المستوى المعماري، وإنما أوضحت دور الشكل الهندسي في تصاميم المفروشات وعناصر الديكور وأخذها بعين الاعتبار في عملية التصميم.

أما فلسفة "الفينغ شوي" علم طاقة المكان، فقد استخدمه الصينيون قبل أكثر من 4000 سنة، وتعتمد هذه الفلسفة على ضرورة الحصول على الطاقة الإيجابية من المكان لتوظيفها في تحقيق التوازن النفسي والسعادة والصحة.
لكن السؤال المطروح هو كيف يؤثر التصميم على صحتنا النفسية وعلى نمط تفكيرنا؟
ناحية السلوكيات
البيت الذي يؤمّن الراحة والسعادة والصحّة لساكنيه ينبغي أن يكون بيتاً مكتمل الأركان ليس قائماً على جمال التصميم فحسب، هذا ما أشار إليه المهندس المعماري محمد زعيتر في حديثه مع TRT عربي متبنياً مفهوم الشكل يتبع الوظيفة بالقول: "إن أغلب الأشخاص يكون عندهم إدماج بين مفهوم التصميم سواء الخارجي أو الداخلي وبين مفهوم الجمال، لكن فعلياً، مفهوم التصميم أوسع من مفهوم الجمال، وهو يشمل أشياء أخرى مثل مفهوم الوظيفة، والإضاءة، والتهوية. كلّ هذه الأمور التي تشمل الحياة وليس فقط ما تراه العين، وبالتالي عندما يُراعي التصميم مفهوم الجمال ومفهوم الوظيفة ويكون مناسباً للفراغ الذي نحن فيه، فهذا كلّه يؤثّر على حالتنا النفسية بأدق التفاصيل. وقد ربط العديد من الخبراء بين تحسّن الحالة النفسية وانعكاساتها الإيجابية على الصحة الجسدية.
ولدى سؤاله عن العوامل التي تُؤخذ بعين الاعتبار في التصميم الخارجي والداخلي أجاب زعيتر: "فعلياً لا يمكن إدماج التصميم الخارجي مع الداخلي، فالعناصر المعتمدة لكلٍّ منهما مختلفة. في التصميم الداخلي هناك أشياء أساسية يجب أن تتناغم مع بعضها، أما التصميم الخارجي فيعتمد على أمور أخرى: كنوع التربة، واتجاه الرياح ، والجوار والمحيط، ومواد البناء، وحجم المبنى (مجمع سكني أو بناء واحد). فما يحكم العمارة الخارجية فعلياً هو تخطيط المدينة نفسها. فجزء من العمارة هو تخطيط المدن، والعناصر التي يعتمدها التصميم الخارجي مختلفة عن الداخلي" .
أما عن الاتجاهات الحالية في العمارة، قال زعيتر إن "عدد المباني سواء سكنية، أو تجارية، أو خدمية يزداد بشكل رهيب، لكنّ التوجّه العام نحو أمرين أساسيين هما: الأبراج، فأغلب الدول تتسابق إلى تحقيق رقم قياسي، كأعلى برج في العالم مثلاً. أما التوجه الثاني، فهو ما يسمى بالعمارة المستدامة بمعنى أن البناء يجب أن يكون متناسقاً مع الطبيعة بطريقة ما".
ناحية الصحّة الجسدية
"البيت الذي تعيش فيه يؤثر على مزاجك وصحتك النفسية"، هذا ما أكّدته منظمة الصحة العالمية عام 1986 عندما أعلنت متلازمةً اسمها متلازمة المباني المريضة Sick Building syndrome SBS، والتي تحدث بسبب المباني سيئة التصميم والتهوية، وتوجد عدّة أعراض تظهر على الفرد المصاب بهذه المتلازمة، يمكن أن يشعر بها جميع الأشخاص الموجودين في المكان ذاته لساعاتٍ طويلة منها الصداع، وضيق التنفس، والحساسية، والاضطرابات النفسية، وانعدام الطاقة وتراجع الأداء، والشعور بتصلّب حادّ في العضلات".
دور التصميم الداخلي في تعزيز العواطف الإيجابية
للتصميم الداخلي دور مهم في تهيئة فراغات المسكن، ليس فقط عن طريق تلبية الاحتياجات الفيسيولوجية التي تعتمد عليها ممارسة الأنشطة، بل يمتد إلى تحقيق الاحتياجات السيكولوجية التي بدورها تعمل على تعزيز العواطف الإيجابية لدى شاغلي المسكن.
إظهاراً لأهمية هذا الموضوع، يقول الفنان التشكيلي عماد فتّاح في حواره مع TRT عربي موضحاً أن "صياغة عملية التصميم الداخلي للمسكن تتم بناءً على معطيات مستشفّة من شاغليه تتم ترجمتها إلى مفردات وعناصر تطبق في الفراغات الداخلية. فعلى مهندس الديكور أن يطّلع على الحالة النفسية للأسرة و انتمائهم وما يريحهم، قبل أن يقدّم لهم أفكار التصميم".
الألوان حياة.. الحياة مشاعر
يختلف اختيار الألوان باختلاف الأشخاص وأذواقهم ونفسياتهم وثقافاتهم وحتى جنسهم، وتوظيف الألوان مهم في حياة الإنسان.

مع تشبيهه الحياة بالألوان وتركيزه على أهمية اختيارها، لم يُخفِ المهندس فتّاح تفضيله في الديكور للون البني وتدرجاته الموجود غالباً في الخشب. والسبب كما أوضح، أنه بلون التراب الذي خُلقنا منه، وهو لون يوحي بالدفء والراحة والسكينة، ويجمّل هذا اللون دخول الأخضر وغيره من ألوان الطبيعة. هناك أيضاً اللون الأزرق مثلاً وهو لون حالم منعش يساعد على تهدئة القلب وعلى تفريغ الطاقة. كذلك اللون الأخضر من أكثر الألوان تأثيراً من الناحية النفسية، لهذا السبب يرتدي الأطباء اللون الأخضر لتخفيف التوتر لدى المريض، ولو أردنا أن نتكلم عن اللون الأصفر فهو يعبّر عن الطاقة والذكاء ويعطي حركة ونشاطاً للدماغ.
وأوضح فتّاح أنّ لكلّ غرفة وظيفتها وخصوصيتها، ونحن عندما نعود إلى المنزل حاملين الضغط النفسي والتوتر والصخب والتعدد اللوني من الخارج، نكون بحاجة إلى سكون وألوان هادئة مدروسة، نوع الطيف في التدرّج اللوني سواء بالإضاءة أو الأثاث وغيرها، هو الذي يبثّ الطاقة الإيجابية.
بقع الضوء في المكان.. نور وظلٌ وفن
يُعتبر وجود الإضاءة في مكانها المناسب مهم جداً، هذا ما أشار إليه المهندس فتّاح، في معرض حديثه عن مصدر الضوء وتأثيره في التصميم.
نصح أن تكون الإضاءة في غرف النوم خافتة وغير مباشرة كخلفية لمجسَّم معلّق على الحائط، ليستمتع السكان من خلال خيوط الإضاءة التي تدخل من خلال هذه الأجسام التي نوظّفها لإعطاء حسٍ جمالي داخل الغرفة، فالأطباء النفسيون يلجؤون للإضاءة غير المباشرة، على سبيل المثال.
بتحويل الجدران الصمّاء إلى مكان يتنفس، هكذا يُزكّى العمران ويرتقي من مجرّد كونه أحجاراً صمّاء إلى منتج فيه روح. روح ترتبط بوجدان الإنسان، مما يخلق حالة من الألفة والانتماء بينه وبين المكان، علاقة روحانية تحتويه لا تُقصيه.