إن حاجة الإنسان اليوم إلى غابات طبيعية واسعة ونضرة أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً أن الغابات تزودنا بكل ما نحتاج إليه تقريباً للبقاء على قيد الحياة، من الطعام الذي نتناوله إلى الهواء الصحي الذي نتنفسه، فضلاً عن الدور المحوري الذي تلعبه في المحافظة على التوازنات البيئية التي تجعل من عالمنا مكاناً صالحاً للسكنى.
ومع تزايد النمو السكاني والتوسع الذي تشهده المجالات الصناعية لتلبية الاحتياجات المتزايدة، يزداد احتياجنا إلى الغابات القليلة المتبقية، إذ إن الغابات تعمل على مواجهة التلوث والانبعاثات الصناعية، فضلاً عن توفيرها لأماكن الراحة والاستجمام التي يتزايد الطلب عليها مع مرور الوقت في ظل الضغوط النفسية التي يتعرض لها الكثير منا.
وفي ظل استمرار الحرائق التي تلتهم الغابات في أكثر من مكان في أرجاء تركيا، يتبادر إلى أذهاننا العديد من القضايا التي يجب مناقشتها والعديد من الأسئلة التي يجب طرحها. وبينما تستمر المناقشات حول سبب الحرائق وجهود إطفائها، فإن القضايا الرئيسية التي نحتاج إلى التفكير فيها تتمثل في كيفية الحد من خطورة احتراق الغابات الذي يتزايد باستمرار، والطرق الواجب اتباعها من أجل استعادة الغطاء النباتي، فضلاً عن المدة اللازمة لإعادة إحياء الغابات المحترقة.
أرقام وحقائق حول حرائق تركيا
تبلغ مساحات الغابات في تركيا 22.7 مليون هكتار، 12.5 مليون هكتار من هذه المساحات مغطاة بأشجار حرجية حساسة للحرائق. تبدأ مناطق الغابات الحساسة للحرائق من مرعش وتمتد إلى أضنة وعثمانية ومرسين وأنطاليا وموغلا وصولاً إلى إزمير وجناق قلعة وتراقيا، حيث إن غالبية أشجار هذه الغابات تتكون من أشجار الصنوبر الأحمر سريعة الاشتعال.
وبحسب الإحصائيات، بلغ المعدل السنوي لعدد حرائق الغابات في تركيا بين عامي 2011 و2020 نحو ألفين و631 حريقاً، فيما بلغ متوسط مساحة الغابات المحترقة نحو 9 آلاف و96 هكتاراً (الهكتار= 10.000 متر مربع).
وفي العام الماضي فقط، ارتفع عدد حرائق الغابات داخل تركيا إلى 3 آلاف و399 حريقاً، ووصلت مساحة الغابات المحترقة إلى نحو عشرين ألفاً و971 هكتاراً، حيث شهد عام 2020 زيادة ملحوظة في عدد الحرائق بنسبة تجاوزت 29% ونحو 131% في مساحة الغابات التي فقدتها تركيا. فيما تم إنفاق ما يقرب من 800 مليون ليرة تركية لإخماد حرائق الغابات وإعادة التشجير.
وبخصوص الحرائق المشتعلة في أكثر من مدينة داخل تركيا حالياً فإن الحديث عن أرقام دقيقة حول المساحات التي التهمتها النيران غير وارد فعلياً، كون الحرائق ما زالت مشتعلة وعمليات الإطفاء ما زالت مستمرة في 4 أو 5 مدن تركية على الأقل. ووفقاً للتقديرات الأولية لجمعية الحراجين التركية، فإن الحرائق التي التهمت أكثر من 10 آلاف هكتار من الأراضي في منطقة "مانافجات" وحدها، قضت على ما لا يقل عن 5 هكتارات من أراضي الغابات في المنطقة.
الطبيعة تجدد نفسها
إلى جانب تدمير الغطاء النباتي الأخضر وقتل الأحياء العضوية فضلاً عن الحيوانات والطيور في أعقاب الحرائق الهائلة التي تستمر لأيام وفي بعض الأوقات لأسابيع، قد يكون من الصعب تقدير الخسائر الحقيقية للحريق نفسه، خاصة عندما لا يتبقى غطاء نباتي لتثبيت التربة في مكانها، فبمجرد هطول الأمطار يمكن أن يؤدي إلى حدوث فيضانات وانهيارات طينية في مواسم هطول الأمطار.
لكن المطر الذي يكون سبباً في بعض الكوارث أحياناً، ينفث الحياة مرة أخرى في الغابات المحترقة، ما يسمح للنباتات الجديدة بالنمو في المناطق المتفحمة، حيث تبدأ البذور المخزنة في أرضية الغابة في الإنبات، وتبدأ بعض الأشجار في إنبات أغصان جديدة نضرة الخضرة من براعم الأشجار المحترقة. بينما هناك أنواع من الأشجار تعتمد على الحرائق من أجل التكاثر وإعادة الإنبات، على سبيل المثال، بذور الصنوبر (موطنه غابات البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجة) مختومة برابطة راتنجية لا يمكن تكسيرها إلا من خلال درجات الحرارة المرتفعة المرتبطة بحرائق الغابات، وربما من هنا جاء القول السائد "إن الحرائق هي طريقة الطبيعة من أجل تجديد غاباتها".
ويشار إلى النمط الطبيعي للتعافي بعد حرائق الغابات باسم "التعاقب البيئي"، وهي العملية التي تتحرك فيها الأرض والنباتات والحياة البرية عبر مراحل بيئية مختلفة من أجل العودة إلى حالة الاستقرار النسبي، إنه مثل الضغط على زر "إعادة الضبط" في دورة حياة الغابة.
ما مدى سرعة استعادة الغابات؟
تعد عملية التحريج إحدى الطرق الرئيسية لإعادة الحياة إلى الغابات المحترقة، لكنها تختلف عن عملية زرع الأشجار التقليدية من ناحية أن أهدافها الأساسية هي استعادة التنوع البيولوجي وحماية البيئة، بالإضافة إلى كونها إلى حد بعيد أكثر الإجراءات إيثاراً التي يمكن أن يفعلها الإنسان تجاه الأجيال القادمة التي ستستمع بفوائد الغابات الجديدة، حيث إن الغابات التي نصنعها ونحافظ عليها اليوم ستكون أماكن الاستجمام ومصانع الهواء النقي لأولئك الذين سيعيشون بعدنا.
واعتماداً على شدة حرائق الغابات وانتشارها، قد تتعافى الغابات بسرعة إذا ما تعرضت لحرائق منخفضة الكثافة، كما يمكن التسريع من فترة التعافي إذا استخدمت مغذيات التربة التي تساعد على تجديد الحياة النباتية. ولكن في حالات الحرائق الكبرى والأكثر تدميراً غالباً ما تكون هناك حاجة إلى جهود نشطة للمساعدة في التعافي، بدءاً من جهود منع التعرية، وصولاً إلى إنشاء غطاء نباتي جديد من خلال إعادة البذر أو إعادة الزراعة.
وتزامناً مع حرائق الغابات التركية، سأل موقع (خبر ترك) نائب رئيس جمعية الغابات التركية، هسريف أوزكار، متى تعتقد أن تستعيد الغابات التركية خضارها مجدداً؟ أجاب هسريف قائلاً: "حياة الإنسان لا تكفي. متوسط عمر الإنسان 75 سنة، وهي مدة لا تكفي لاستعادة غاباتنا المحترقة". وبعثاً للتفاؤل، تداول نشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لأشجار بدأت في استعادة خضرتها في غابات أستراليا التي عانت من حرائق هائلة ومدمرة العام الماضي.