تابعنا
عاد الرومي إلى قونية عالِماً كبيراً شهد له علماء عصره بالنبوغ والاطّلاع، ولقّبه تلاميذه بـ"إمام الدين" و"عماد الشريعة". هذه قصته.

"كُن في الحُبِّ كالشّمس، كن في الصداقة والأخوّة كالنّهرِ، كُن في ستر العيوبِ كالليل، كن في التواضعِ كالتراب، كن في الغضب كالميت.. وأيّاً كنت من الخلائق.. إما أن تبدو كما أنت، وإما أن تكون كما تبدو...".

من منا لم يقرأ هذه الكلمات الخالدة أو ترجمة لها بأي لغة من لغات العالم؟ كلمات قليلة يمكن أن تكون ملخصاً للنهج الذي يجب أن يعيش به الإنسان. إنها كلمات "سلطان العارفين" مولانا جلال الدين الرومي، من أبرز أعلام التصوف الفلسفي وأحد فحول شعراء الصوفية في الحضارة الإسلامية وأشهرهم على مستوى العالم وأكثرهم تأثيراً في أتباعه حتى يومنا الحاضر، والذي تحيي تركيا ذكرى وفاته يوم 17 ديسمبر/كانون الأول من كل عام.

مَن جلال الدين الرومي؟

جلال الدين محمد بن بهاء الدين محمد بن الحسين بن أحمد الخطيبي البلخي. يُعرف في إيران باسم جلال الدين محمد بلخي (نسبة إلى مكان ولادته)، وفي تركيا وكل العالم باسم مولانا جلال الدين الرومي (نسبة إلى بلاد الروم أو الأناضول حيث عاش وذاع صيته).

وُلد مولانا جلال الدين الرومي في مدينة بلخ (تقع حاليّاً في شمال أفغانستان) في السادس من ربيع الأول عام 604 هجريّاً الموافق 30 سبتمبر/أيلول عام 1207 ميلاديّاً.

والدته هي مؤمنة خاتون، ابنة أمير بلخ ركن الدين. ووالده هو بهاء الدين ولد، المتصوف الكبير وأحد أشهر فقهاء المذهب الحنفي في بلخ، فجمع بين علم القال وعلم الحال. لُقّب بسلطان العلماء لمكانته العلمية وإنكاره الظلم على الأمراء والسلاطين. يرجع بعض المصادر نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو من مريدي المتصوف الكبير نجم الدين الكبرى الملقب بـ"ولي تراش" أي صانع (نحات) الأولياء، وذلك لكثرة من نبغوا من مريديه وأصبحوا من كبار مشايخ الصوفية.

اضطُرّ بهاء الدين ولد إلى ترك موطنه بلخ لخلافات بينه وبين أميرها، وقيل بسبب خلافات بينه وبين العالم الشهير فخر الدين الرازي، وكان أمير بلخ في صفّ الرازي، كما كان منزعجاً من كثرة مريدي بهاء الدين ولد والتفاف الناس حوله. وذكرت مصادر تاريخية أنه هاجر من بلخ بسبب غزو المغول، فتوجه بصحبة أسرته عام 616/617هـ إلى نيسابور، وهناك التقى الشاعر الصوفي الكبير فريد الدين العطار الذي أعجب بنبوغ الفتى الصغير جلال الدين الرومي وأهداه كتابه "أسرار نامه"، وقد ظل الرومي متأثراً بالعطار طوال حياته.

ومن نيسابور هاجر بهاء الدين ولد مع عائلته إلى بغداد حيث التقى الفقيه الكبير والصوفي الشهير شهاب الدين السهروردي ومكثوا هناك فترة ومنها إلى مكة لأداء فريضة الحج ثم إلى الشام، ومنها إلى الأناضول حيث تنقلت الأسرة بين عدة مدن في الأناضول إلى أن ألقت عصا الترحال في مدينة قرمان بعد سنوات طوال من التنقل والترحال. وفي قرمان توُفّيت والدة جلال الدين الرومي مؤمنة خاتون، وتزوج هو بجوهر خاتون السمرقندية وأنجب ابنه سلطان ولد. وبناء على دعوة من السلطان السلجوقي علاء الدين كيقباد هاجرت أسرة جلال الدين الرومي مرة أخرى إلى قونية عاصمة دولة السلاجقة، ووصل إليها في الثالث من مايو/أيار 1228م لتبدأ مرحلة جديدة في حياة جلال الدين الرومي.

لم يمضِ وقت طويل حتى توُفّي بهاء الدين ولد. حينها فقد جلال الدين الرومي معلّمه ومرشده الأول، إلا أنه التقى حينها بشيخه ومرشده الذي لازمه لسنوات وساهم في تكوين شخصيته برهان الدين محقق ترمذي، أحد مريدي بهاء الدين ولد وأنبغ تلامذته. ويذكر بعض المصادر أن بهاء الدين ولد هو من أرسل إلى تلميذه برهان الدين ليحضر إلى قونية ويكون رفيقاً ومرشداً لولده من بعده. نهل الرومي من علم شيخه وأستاذه حتى أمره شيخه بالذهاب إلى الشام ليستزيد من العلم، فقضى الرومي سنوات أخرى من عمره بين مدارس حلب ودمشق يسمع من فقهائها وعلمائها ويصاحب كبار متصوفيها. ففي حلب التقى الرومي الشيخ كمال الدين بن العديم، وفي دمشق جلس إلى سعد الدين الحموي، كما أخذ عن محيي الدين بن عربي وصدر الدين القونوي.

عاد الرومي إلى قونية عالِماً كبيراً شهد له علماء عصره بالنبوغ والاطّلاع، ولقّبه تلاميذه "إمام الدين" و"عماد الشريعة". اشتغل بالفتوى والتدريس، إلا أنه ظل ملازماً لشيخه ومرشده برهان الدين محقق الترمذي، إلى أن رأى الأخير أن تلميذه وصل إلى مرحلة النضج والكمال وشعر أنه أدَّى رسالته وأوفى بعهده، فأراد أن يترك الرومي ويرحل إلى بلده قيصري ليقضى ما بقي من عمره في خلوة وانزواء، إلا أن الأمر لم يكن سهلاً على الإطلاق، ورفض الرومي أن يفارقه شيخه فقال له الترمذي: "يا ولدي، لا يمكن أن تكون شمسان في سماءٍ واحدة، فأنتَ أصبحت الآن مُرشداً كاملاً مُكمَّلاً، أنت تبقى هُنا، وأنا أعود إلى بلادي".

استمر الرومي في الانشغال بالفتوى والتدريس والإرشاد إلى أن حدث أمر كان هو نقطة التحول في حياته وشخصيته ورحلته المعنوية، إذ حدث اللقاء الذي يُطلق عليه الباحثون في حياة مولانا والطريقة المولوية اسم "مرج البحرين"، ألا وهو لقاؤه مع شمس الدين التبريزي.

ذات يوم خرج رجل يمتهن صنع السلال ولكنه أحد العارفين بالله ألا وهو شمس الدين التبريزي، من مدينته تبريز، وجاب أرجاء العالم الإسلامي لعله يجد رفيقاً ومصاحباً تواقاً إلى المعرفة فينقل إليه ما يفيض به من معارف وأسرار. واستمر في التنقل حتى وصل إلى قونية. وذات يوم اعترض التبريزي موكب جلال الدين الرومي وسأله قائلاً: "يا إمام المسلمين قل لي مَن أعظم وأكثر علماً، أبو يزيد البسطامي الذي قال (سبحاني ما أعظم سلطاني) أم النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي قال (سبحانك ما عرفناك حق معرفتك ولا قدرناك حق قدرك؟)"

اندهش الرومي من السؤال الذي سمعه ونظر إلى التبريزي بحيرة يريد أن يفهم مغزى السؤال قبل أن يعرف إجابته.

فقال التبريزي إن البسطامي شرب شربة واحدة من كأس المحبة الإلهية فسكر بها، أما النبي فقد شرح الله له صدره فأصبح يعب من كأس المحبة ويعرف قدر الله ولا يضطرب من رشفة شربها من كأس المحبة الإلهية.

وكان التبريزي يقصد من سؤاله هذا أن يسأل الرومي: "هل امتلأت أنت مثل أبو يزيد ولم تعُد تحتاج إلى درس آخر؟ أم أنت كرسول الله الذي يقول: زِدني علماً؟"

ويذكر بعض المصادر أن الرومي أُغشي عليه بعد سماع هذه الكلمات، وبعدها أفاق وأصبح التبريزي هو صاحبه ومصاحبه ومرشده. واعتزل الرومي مدرسته وتلاميذه وألقى كتبه التي كان يطالعها جانباً واعتزل العالم واكتفى بمجالسة التبريزي.

ومضت الأيام والشهور وتلاميذ الرومي وكل أهالي قونية لا يرون مولانا، فمنذ جاء ذلك الدرويش الغريب والرومي لا يرى ولا يكلم غيره وازدادت الشكاوى وكثر اللوم. ويذكر بعض المصادر أن بعض الأشخاص هددوا شمس الدين التبريزي بالقتل إن لم يغادر قونية، فغادر التبريزي ذات ليلة دون أن يخبر أحداً، وترك تلميذه ورفيقه يحترق بنار الشوق.

يقول المؤرخ الأفلاكي صاحب كتاب "مناقب العارفين" إن فراق التبريزي لجلال الدين الرومي هو تَجلٍّ من تجليات الجلال كما كان لقاؤهما تجلِّياً من تجليات الجمال.

حزن الرومي كثيراً لفراق مرشده وشعر كأن عالمه الروحي يتهاوى، حتى جاءه خبر يقول إن التبريزي موجود في الشام، فأرسل على الفور ابنه سلطان ولد كي يأتي به ثانية إلى قونية. وكانت رحلة عودتهما من الشام إلى قونية هي أيضاً الرحلة التي شكّلَت شخصية سلطان ولد، العالم الفقيه والمتصوف الكبير، إذ كان يستمع طوال الرحلة إلى أحاديث التبريزي ليفوز بحظّ من علمه الذي استأثر به والده في قونية.

الطريقة المولوية ورقصة السماع

تَأثَّر الرومي كثيراً لفراق مرشده، وذات يوم كان يمر من سوق قونية وهو مطأطئ رأسه إلى الأمام يعتريه الحزن الشديد، فإذا به يسمع أصوات المطارق التي تطرق صحائف الذهب، فحولت تلك المطارق هموم جلال الدين إلى شوقٍ ورغبة، فتوقَّف، واستمع مُدَّة إلى الأصوات، ثم رفع يده اليمنى، وعيناه مغمضتان، ورأسه ساقط على الكتف اليمنى، فدار دورتين معتمداً على رجله اليمنى، ثم شرع في الدوران، أصوات المطارق أصبحت تبدو له أكثر قوة، وحين شاهد صاحبُ المحل صلاح الدين زركوبي أن مولانا لما بدأ بسماع أصوات المطارق تَشوَّق أمر عُمَّاله بأن لا يتوقَّفوا عن الطرق وأن لا يقلقوا على صحائف الذهب، بل يطرقوا أكثر فأكثر. وكانت تلك اللحظة هي ميلاد "طقس السماع" عند المولوية، وقد وصفها الرومي بقوله:

"هل تعرف ما السماع؟ هو سماع النداء، ونِسيان النفس، والوصال إلى الله، هو الغفلة عن الوجود، وتذوُّق البقاء في الفناء المطلق".

في ذلك اليوم أيضاً ترك صلاح الدين زركوبي كل أمواله وتجارته وعاد مع مولانا جلال الدين إلى المدرسة ليصبح درويشاً من مريديه ثم خليفة ثم صاهره، وكان رفيقه طوال عشر سنوات حتى وافته المنيَّة.

بعد ذلك اتخذ الرومي أحد تلامذته، وهو حسام الدين جلبي، رفيقاً وخليفة له، وظَلّ ملازماً له حتى فارق مولانا الحياة، وهو الذي ألح عليه لكتابة المثنوي أو "مثنوي معنوي"، أهم مؤلفاته على الإطلاق، ومن أكثر المؤلفات مبيعاً حول العالم إلى يومنا هذا، وقد تَصدَّر قائمة الأعمال الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة عام 2014.

يبدأ الرومي مقدمة مؤلَّفه المثنوي بعبارة "هذا كتاب المثنوي، وهو أصولُ أصولِ أصولِ الدين في كشف أسرار الوصول واليقين وهو فقه الله الأكبر وشرع الله الأزهر وبرهان الله الأظهر مَثَلُ نوره كمشكاة فيها مصباح يشرق إشراقاً أنور من الإصباح وهو جنان الجنان ذو العيون والأغصان"،ليدلّل على أن المثنوي ليس فقط عبارة عن مجرد أشعار صوفية وحكم بل منهج كامل لفهم الدين. ويحظى المثنوي بتبجيلٍ كبيرٍ في كل أنحاء البلاد الناطقة بالفارسية خصوصاً، لدرجة أن بعضهم يضعه في مرتبة ثانية بعد القرآن أو يسمُّونه "القرآن الفارسي"، وهذا أعظم ثناء على محتواه الصوفي والغني روحيّاً.

ويتكون المثنوي من 26 ألف بيت نُظِمَت بأسلوب المزدوج ونوع من الشعر تتساوى فيه قافية شطرَي كل بيت، على عكس الشعر التقليدي الذي تتساوي فيه قوافي القصيدة بأكملها.

وفاة الرومي.. شبِ عروس (يوم الوصال)

في عام 1273م في فصل الخريف وقع زلزال كبير في قونية وما حولها، واقتُلعت الأرض من مكانها، وقال مولانا: "لا تخافوا، جاع بطن الأرض، ففي الأيام الأخيرة تريد لقمة أخيرة لعلّها تقضي حاجتها وتستريحون".

وبعد أيام مرض الرومي مرضاً شديداً ألزمه الفراش، وفي السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول عام 1273م، سُلِّمَت الأمانة إلى صاحبها، وانتقل الرومي إلى الرفيق الأعلى. ويطلق أتباعه على تلك الليلة اسم "شبِ عروس"، وتعني "ليلة العرس"، وترمز إلى الوصال الأبدي ولقاء الحبيب حبيبه.

وقد لخّص مولانا جلال الدين الرومي كل حياته ورحلته المعنوية ببضع كلمات قال فيها: "ليس أكثر من ثلاثة أقوال، كل حياتي عبارة عن ثلاثة أقوال: كنت فجّاً، فنضجت، فاحترقت".

TRT عربي