غواصة ألمانية من الغواصات الست ضمن ما يسمى بـ "أسطول أدولف هتلر المفقود" في البحر الأسود (AP)
تابعنا

عقب اندلاع الحرب العالمية الثانية في الأول من سبتمبر/أيلول 1939، وعلى الرغم من اتباع الرئيس التركي آنذاك عصمت إينونو سياسة الحياد، متخذاً قرار عدم الدخول بالحرب خلال مساعيه لتجنيب الجمهورية التركية الفتية الدخول بحرب استنزاف، إلا أنه حشد الجيش التركي واشترى السلاح من كلا الطرفين، قوى المحور والحلفاء، تحسباً لتعرض تركيا لهجوم من أحد الأطراف نظراً لقربها من ساحات الصراع.

وفي شهر أبريل/نيسان من عام 1941، وبينما كانت ألمانيا تتحضر لغزو يوغسلافيا واليونان انطلاقاً من بلغاريا، جارة تركيا، وفي محاولة دبلوماسية لإبعاد تركيا عن بريطانيا، أرسل هتلر رسالة إلى إينونو أعلمه بها أنه لا ينوي مهاجمة تركيا، وأكد فيها كذلك أنه أمر جنوده بالبقاء بعيداً عن الحدود التركية منعاً لأي استفزاز، كما اقترح على تركيا توقيع معاهدة صداقة تضمن عدم الاعتداء. وقعت في العاصمة أنقرة يوم 18 يونيو/حزيران 1941، حيث نصت الاتفاقية على أن تستمر لمدة عشر سنوات، لكن تركيا انسحبت منها في أكتوبر/تشرين الثاني 1945، بعد سقوط الرايخ الثالث، وانضمام تركيا إلى الأمم المتحدة.

رفض طلب هتلر

بعد أربعة أيام من توقيع معاهدة الصداقة الألمانية التركية، وتحديداً في يوم 22 يونيو/حزيران 1941، بدأت القوات الألمانية بتنفيذ عملية بربروسا الهادفة إلى غزو الاتحاد السوفيتي، منتهكين بذلك ميثاق عدم الاعتداء الألماني السوفييتي، الأمر الذي أدى إلى إشعال الجبهة الشرقية التي اعتبرت أكبر حرب استنزاف في التاريخ، والتي كانت السبب بسقوط هتلر ورايخه الثالث لاحقاً.

خلال عملية بربروسا، حاول هتلر إقناع الأتراك بالسماح للبحرية الألمانية بالدخول إلى البحر الأسود، إلا أن اتفاقية مونترو التي وقعت في عام 1936 كانت بمثابة "القفل التركي" الذي حال دون دخول القطع البحرية الألمانية عبر مضيقي الدردنيل والبوسفور التركيين.

وعقب رفض إينونو طلب ألمانيا النازية باختراق اتفاقية مونترو، عاد هتلر مجدداً باقتراح جديد من أجل الالتفاف على مونترو، حيث طلب من تركيا شراء غواصاتها الثلاث (Atılay) و(Saldıray) و(Yıldıray) وإنزالها إلى البحر الأسود بقيادة طواقم ألمانية، إلا أن إينونو رفض طلب هتلر على الفور، وأصر على بقاء تركيا على الحياد.

نقل الغواصات براً

نتيجة للرفض التركي المتكرر، قرر هتلر نقل الغواصات الألمانية براً عبر أوروبا وإنزالها بالبحر الأسود، مستلهماً خطة محمد الفاتح عندما نقل السفن براً وأنزلها بالخليج الذهبي ليلة فتح إسطنبول منتصف القرن الخامس عشر.

ولأجل ذلك، عدل المهندسون الألمان تصميم غواصاتهم الأسطورية من طراز (U-Boats)، وأنتجوا ست غواصات خاصة أصغر حجماً وأخف وزناً، بطول 42 متراً وعرض 4 أمتار ووزن 270 طناً. وأطلقوا عليها أسماء: (U9) و(U18) و(U19) و(U20) و(U23) و(U24).

وعلى الرغم من تصغير حجم الغواصات وتخفيف وزنها، إلا أن عملية نقلها لم تكن سهلة مطلقاً، حيث اضطر الألمان إلى تقسيم الغواصات إلى إجزاء، ونقلها عبر نهر "إلبه" من هامبورغ إلى دريسدن في ألمانيا، ومن ثم نقلوها براً عبر أوروبا إلى مدينة كونستانتا الواقعة على البحر الأسود شرقي رومانيا، قاطعين ما لا يقل عن ألفين و300 كيلومتر.

وبعد 11 شهراً من بدء عملية التصنيع والنقل وإعادة التجميع، نجح الألمان بإنزال غواصاتهم الست في البحر الأسود، وبدؤوا مهمتهم اعتباراً من شهر أكتوبر/تشرين الثاني من عام 1942، ونفذوا 56 عملية ضد أهداف عسكرية وتجارية، أغرقوا خلالها قرابة 26 سفينة سوفيتية، فيما أغرقت البحرية السوفييتية 3 غواصات منهم.

إغراق الغواصات عمداً

مع حلول العام 1944، وبعد أن غيرت رومانيا تحالفاتها وسماحها للجيش السوفييتي بالدخول إلى كونستانتا، حيث كانت الغواصات الألمانية تتزود بالوقود وتخضع للصيانة، علقت الغواصات الثلاث المتبقية في البحر.

ولإنقاذ طواقم الغواصات، عرضت هيئة الأركان العامة الألمانية على الحكومة التركية أن تسلمها الغواصات الثلاث مقابل تسليم تركيا للطواقم الألمانية، إلا أن الطلب الألماني قوبل بالرفض مجدداً نتيجة لإصرار تركيا بالبقاء على الحياد.

وعلى إثر ذلك، لم يكن أمام ألمانيا سوى خيار واحد، وهو ما أرسلوه إلى بحارتهم عبر رسالة مشفرة نصت على التعليمات التالية: " اقتربوا من الشواطئ التركية، وأغرقوا الغواصات، وتوجهوا إلى السواحل التركية، وحاول العبور إلى اليونان براً، أو الوصول إلى ساحل بحر إيجه للتواصل مع السفن الألمانية".

لجوء البحارة الألمان إلى تركيا

في ليلة 9 سبتمبر/أيلول 1944، وصل البحارة الألمان إلى السواحل التركية على سطح قوارب مطاطية بعد إغراق الغواصات الثلاث المتبقية، وعلى الفور انقسموا إلى مجموعات صغيرة وساروا سراً نحو الغرب.

لم يمر وقت طويل، فبعد يومين تقريباً جرى القبض عليهم جميعاً، وكان عددهم 81 بحاراً. نقلوا في البداية إلى مخيم الهلال الأحمر التركي في "بي شهير" وسط ولاية قونيا، ومن ثم إلى مدينة إسبرطة حيث احتُجزوا لمدة سنة ونصف، لم يعاملوا خلاله كأسرى، بل كانوا ضيوفاً، ودفع لهم الهلال ليتمكنوا من عيش حياتهم بشكل إنساني، كما شاركوا في الحياة اليومية حيث عمل بعضهم كأطباء في مستشفى الهلال الأحمر، وعمل بعض منهم مع الأتراك في المصانع وورش العمل نظراً لخبرتهم في إصلاح الماكينات.

وما أن وضعت الحرب أوزارها، حتى جرى تسليمهم إلى الأمريكيين وفقاً لاتفاقية السلام، واحتجزوا في ألمانيا حتى سبتمبر/أيلول 1946، ليعودا بعدها إلى ديارهم بسلام.

يُذكر أن الضابط الألماني لودفيغ غاونير، قائد الغواصة (U19)، أعرب وقتها عن شكره وامتنانه للشعب التركي باسم طاقمه البحري الذي لجأ إلى تركيا وتمتع فيها بالأمن والأمان وحصل على مسكن دافئ، رغم سمعة بلادهم السيئة آنذاك على الصعيد العالمي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً