في كتابه "الإنسان الإله: موجز تاريخ الغد" أو Home Deus: A brief history of tomorrow"، يبحر المؤرخ يوفال نوح هراري بنا في رحلات مكوكية إلى الماضي لفهم تاريخ البشر منذ هجرته من أفريقيا وظهور الوعي قبل سبعين ألف عام مروراً بالثورة الزراعية واكتشاف الكتابة؛ فعصر النهضة والثورة الصناعية، قبل أن ينطلق بنا بسرعة في محاولة للتنبؤ بمستقبل البشرية وما يحمله من بشائر وتهديدات في ظل هيمنة متزايدة للتكنولوجيا وتفوقها على العقل الذي أبدعها وإمكانية تنحيته جانباً.
في المقدمة، يتحدث هراري عن تغيّر الأجندة الإنسانية بعد تحقيق الكثير ممّا كان يشغل بال البشر ويؤرقهم، ويتمثل ذلك في هزيمة ثالوث المجاعة والأمراض والحروب، لتتحوّل طموحات الإنسان المستقبلي إلى تحقيق ثالوث جديد من الألوهية والسعادة والخلود، في تعبير عن رغبة البشر في تحقيق المزيد.
يتحدث هراري عن تغيّر الأجندة الإنسانية بعد تحقيق الكثير ممّا كان يشغل بال البشر ويؤرقهم ويتمثل ذلك في هزيمة ثالوث المجاعة والأمراض والحروب، لتتحوّل طموحات الإنسان المستقبلي إلى تحقيق ثالوث جديد من الألوهية والسعادة والخلود.
يبحث الجزء الأول من الكتاب في أسباب تفوق الجنس البشري وهيمنته فيقودنا بتساؤلاته للتفكير في ظهور الأديان وتطورها وصولاً للأديان الإبراهيمية التي جعلت الإنسان في قمة الهرم لتبرّر بذلك تعامله الفوقي مع الكائنات الأخرى – بخلاف فكر الديانات البدائية – ويمضي الكاتب قُدُما ليستعرض تجارب علمية تحاول تفسير تفوّق الإنسان اعتماداً على الوعي، والوعي بالذات بعد أن ثبتت قدرة الحيوانات على الشعور والإحساس.
الخيال ليس سيئاً، انه أمر حيوي من دون قصص مقبولة بشكل مشترك حول أشياء مثل النقود والدول أو الشركات، لن يكون في إمكان مجتمع بشري معقد أن يكون فعّالا.
يبحث الجزء الثاني من الكتاب في جذور الثورة الإنسانية التي بدأت مع اختراع السومريين للكتابة وولادة النُظُم البيروقراطية وكيف أصبح للوثائق المكتوبة سلطة تفوق ما هو موجود على أرض الواقع، ويورد أمثلة تاريخية عن مجاعة الصين وإنقاذ الآلاف من يهود فرنسا من النازية بفضل قوة التأشيرة التي منحها القنصل البرتغالي في تولوز.
يعتبر هراري جميع الأيديولوجيات بما في ذلك الليبرالية والشيوعية أشكالا من العقائد الدينية، على الرغم من تحفظ هؤلاء على اعتبار هذه الأيديولوجيات أدياناً باعتبار الأديان مرادفاً للخرافات والقوى الخارقة، حيث يقول، "في الواقع، يعني الإيمان أن تعتقد بنوع من نظام القوانين الأخلاقية التي لم يخلقها البشر فحسب، بل يتوجب عليهم إطاعتها."
يتوسّع هراري في وصف انتصار الليبرالية والرأسمالية على كلٍ من الشيوعية والأديان وتوجهها بالعالم نحو ديانة "عبادة الإنسان" وتركيز القيم الليبرالية على تفرده وتفوقه المعرفي؛ لأنها قدمت للإنسان ما يجعله السلطة الأعلى. فوفق القيم الليبرالية في مختلف مجالات الحياة تكون:
السياسة: الناخب يعرف أفضل من غيره.
الاقتصاد: الزبون دائماً على حق.
الجمال: الجمال في عين الناظر.
التعليم: فكّر بنفسك.
الأخلاق: إذا شعرت بأن الأمر جيد، قُم بفعله.
بعد هذه الفصول المبشرة بإرتقائنا نحو "الإنسان الإله"، يهدم هراري كل ذلك في الجزء الثالث ليعلن تدميرنا لأنفسنا بأنفسنا ويوضّح التحديات التي تواجه قيم الليبرالية بعد أن فصلت تجارب علم النفس الحديث بين الذات الراوية والذات المجربة ويورد أمثلة تنفي وجود "الإرادة الحرة". يرى هراري أن الكائن الحي عبارة عن خوارزميات وأننا والخيول والأبقار مجرد تمثيل مختلف لمجموعة بيانات وأننا "لا نمتلك فردانية مميزة، وكل ما نقوم به مجرد نظام حيوي كيميائي".
بعد الفصول المبشرة بإرتقائنا نحو "الإنسان الإله" يهدم هراري كل ذلك في الجزء الثالث ليعلن تدميرنا لأنفسنا بأنفسنا ويوضّح التحديات التي تواجه قيم الليبرالية بعد أن فصلت تجارب علم النفس الحديث بين الذات الراوية والذات المجربة.
يتساءل الكاتب إن كنا سنجد قيمة جديدة للبشر أو أن الإنسان الإله سيجبر بقية البشر على أن يتنحوا جانباً ليكون مصيرهم كمصير الحيوانات إبان الثورة الصناعية. يوضح الكتاب كيف اخترقت التكنولوجيا خصوصياتنا وأنها تعرف عنّا الآن ما يفوق معرفتنا بأنفسنا وأن مشاركتنا لأدق تفاصيل الحياة على وسائل التواصل الاجتماعي بمثابة محاولة لاثبات وجودنا في عالم البيانات هذا من خلال المساهمة في خلقه "صوّر – ارفع – شارك". لقد تفوقت الخوارزميات على معرفة الإنسان ولم يعد أفضل من يعرف وهذا هدم لأساس الليبرالية.
على الرغم من واقعية الأمثلة التي يسوقها هراري، إلاّ أنني أختلف معه في تصوره أن تسود الآلة على الإنسان في المستقبل القريب لأنها لا تزال تُصنع وتُطوّر من علماء من البشر وتُسخّر لخدمة الإنسان، لكنني أتفق معه في أنها ومن خلال تطورها ستأخذ مكانه في الكثير من الوظائف، وبالتالي فإننا نتجه إلى عالم تزداد فيه الفوارق الطبقية وتنتشر البطالة وقد يتطلب ذلك تحديداً عالمياً للنسل ليصبح العالم مقتصراً على قلة ثرية تخدمها التكنولوجيا وتترأسها في الوقت نفسه. أعتقد أن ديانة المعلومات الجديدة ستبقى كالأيديولوجيات السياسية مُتبناة من قبل البشر من دون أن يعترفوا بها في وعيهم، ولا ننسى أن أي ديانة تقدم للبشر الكثير على الأرض، بدلاً من وعود ما ورائية، ديانة ناجحة بالتأكيد، ولكنها ستواجه بعقبة كبيرة إذا ما سلبت الإنسان معنى وجوده. لكن السؤال، اذا ما تفوقت فعلاً على البشر فما حاجتها لإيمانهم بها أصلاً؟
ختاماً، الكتاب مجرد احتمالات وليست نبوءات حتمية الوقوع، لكنه كتاب مذهل سيعيد طريقة نظرك للماضي والتفكير في احتمالات أخرى للمستقبل والنتائج التي ستترتب على المجتمع والسياسة والاقتصاد عندما تتفوق خوارزميات لا واعية خارقة الذكاء علينا، وهو شيء نراه يتحقق بشكل متسارع في يومنا هذا.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.