تابعنا
إذا كان شهر رمضان شهراً للعبادة والإكثار من الخير وفرصةً لتقرّب الفرد المسلم من ربّه، يُسجّل خلال السنوات الأخيرة، في عدد من المجتمعات الإسلامية ببلدان المنطقة العربية، بروزُ مجموعة من السلوكيات والعادات الاستهلاكية السلبية

هذه العادات من شأنها أن تبتعد عن المقاصد النبيلة للصيام، لتحوّل شهر الغفران من فريضة تعبّدية وروحية إلى ممارسة طقوسية محورها الرئيس الأكل والشراب.

وتبرزُ خلال "شهر الصدقات والإحسان" مظاهر عديدة للإسراف والتبذير مع ارتفاع إنفاق واستهلاك الأسر المسلمة للأطعمة والأغذية، سواءً المقتناة من الأسواق أو المعدّة داخل البيت، ما يُسائلُ مدى التزامها بالغايات الفضلى للشهر الفضيل ووعيها بسلوكياتها الاستهلاكية الزائدة عن الحاجة.

إنفاق واستهلاك زائد

زينب شابة مغربية تعيش برفقة عائلتها بمدينة أصيلة شمال المغرب، تعترف أن نفقات أسرتها خلال شهر رمضان "ترتفع بشكل مضاعف ومبالغ فيه"، مشيرةً إلى أنّ أغلب هذه المصاريف تذهب أساساً لاقتناء منتوجات غذائية، لإعداد وجبة الإفطار.

وتتابع زينب في حديثها لموقع TRT عربي، أنّها لاحظت أنّ نصف ما يتم إعداده من أطباق ومشروبات يبقى زائداً عن الحدّ الضروري لإشباع جوع وعطش النهار، فيما يتم رمي الباقي في القمامة إذا لم يكن صالحاً للاحتفاظ به لتناوله خلال وجبة السحور أو فطور اليوم الموالي. على الرغم من وعيها بهذا المعطى تؤكّد زينب أنه يبقى مهمّاً بالنسبة إليها أن ترى مائدة الإفطار ممتلئة بالأطباق والمأكولات.

في جوابها عن الأسباب الكامنة وراء هذه الرغبة، توضّح الشابة المغربية أنّ "الجوع يدفع الناس إلى الشراء بكثرة وتحضير الأكل بصفة غير منطقية، بالإضافة إلى أنّ هناك اعتقاداً سائداً أن العين هي التي تأكل وليس البطن، بالتالي فرؤية طاولة الطعام شهية يحقّق بالنسبة إلى الكثيرين سعادة داخلية"، غير أنها بالمقابل سجّلت أن هذه السعادة اللحظية تدفع عديد الأشخاص إلى تحمّل مصاريف لا طاقة لهم بها، بالإضافة إلى عذاب غسيل الأواني المنزلية الشاق بعد وجبة الإفطار، والذي يأخذ حيزاً واسعاً من الوقت يحول دون أداء الفرائض الدينية.

كما تكشف زينب في شهادتها عن جانب آخر حاسم في الموضوع يتمثّل في سعي عدد من السيدات كما الرجال، لمشاركة صور الإفطار على شبكات التواصل الاجتماعي، والتباهي بها لتجد البعض يدخلُ في منافسة "دونكيشوتية" حول من سيقدّم مائدة الإفطار الأشهى والأكثر امتلاءً بالأطباق.

تغييب القيم

الخبير في علم النفس الاجتماعي، محسن بنزاكور، تأسّف في تصريحه لـTRT عربي لهذا الواقع الملموس والجديد، والذي أفرغ ركناً من أركان الإسلام من روحانياته ومن أبعاده القيمية الدينية المتعدّدة ليتحوّل لدى الكثيرين إلى ممارسة مجتمعية مسلوبة الأهداف والفضائل، لافتاً إلى "بروز مظاهر الاستهلاك السلبية على حساب القيم الدينية الواجب استحضارها خلال ممارسة هذا الطقس".

وفي تحليله لارتفاع مؤشرات الاستهلاك وما يرافقه من إسراف وتبذير خلال شهر رمضان، قال بنزاكور إنّ مردّه الأساس تغييب الشق الديني ومقاصد رمضان ذلك أنّ الإمساك عن شهوتي الفرج والبطن ينبغي أن توازيه الشهوات النفسية، لكن بالمقابل نجد طغيان انفعالات الرغبة في مواجهة الإحساس بالجوع والعطش، بالتالي تحضر نزوات اللذة التي تحفّزها بالإغراءات المختلفة الحاضرة على وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية وبالشارع والأسواق، ممَّا يؤدّي إلى الإسراف والتبذير.

جانب آخر يساهم في ارتفاع الاستهلاك هو ما اعتبره الخبير النفسي "التنافس الحاصل حول طاولة الإفطار في الولائم ومآدب الإفطار بين العائلات والأصدقاء، حيث تسعى كل أسرة لإظهار كرمها لضيوفها، بالتالي تزيدُ من مشترياتها ومن أعداد الأطباق وأنواعها، والتي للأسف يكون مصير أغلبها مطرح النفايات، الأمر الذي يبقى مرفوضاً بشدة خصوصاً أنّ جزءاً كبيراً من سكان المنطقة يعيشون الفقر والهشاشة".

وفي ختام تصريحه ذكّر بنزاكور بالآية الكريمة "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفين"، مشيراً إلى أنّه "من غير المعقول الخروج من حب الله وأنت تصوم، هذا يبقى قمة التناقض، بالتالي ينبغي استحضار هذه الأمور، والعمل على استغلال الشهر الفضيل للتضامن والتآخي والتخلص من كل العادات السلبية".

سمنة ومشاكل صحية

إذا كانت سلوكيات التبذير والإسراف في الطعام والشراب خلال شهر رمضان مرفوضة دينياً، فهي كذلك أيضاً على المستوى الصحي. المتخصصة في التغذية والحمية أسماء زريول أكّدت أنّ هذا الشهر "يُفترض فيه أن يكون شهراً للعبادة والاستهلاك الغذائي الرشيد، وذلك بأن تكون الوجبات الغذائية، الإفطار ثم العشاء أو السحور، متوازنة صحياً تعوّض ساعات الصيام وما يحتاج إليه الجسم من فيتامينات ومكمّلات".

كما سجّلت المتخصصة في تصريحها لموقع TRT عربي، عادة سلبية ترتبط بالنمط الاستهلاكي المتزايد، وتتمثل في ارتفاع استهلاك المنتوجات المصنّعة على حساب المأكولات المحلية الغنية خصوصاً عند دول المنطقة التي تنتمي إلى البحر الأبيض المتوسط، التي تتوفّر على عادات غذائية صحية من بين الأغنى على المستوى الدولي، معبرة عن أسفها للتطورات المجتمعية التي دفعت إلى تقليل حيّز هذه الأطعمة، والتوجه نحو عادات جديدة مصنّعة مثل الوجبات السريعة والمشروبات الغازية والمصنعة التي نراها اليوم على طاولة الإفطار.

وربطت المتحدثة ذاتها بين ظهور أمراض مثل ارتفاع السكري وأمراض الضغط والسمنة بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، والشراهة في الاستهلاك الغذائي للأغذية المصنّعة، بالإضافة إلى تسجيلها ارتفاع حالات السمنة وازدياد الوزن الفارط خلال شهر رمضان لدى الكثيرين، بسبب سلوكيات الإسراف وتغير نمط التغذية طيلة الشهر الفضيل.

أرقام صادمة

يعتبر مشكل نقص التغذية من بين أكبر التحديات المطروحة على الساحة الدولية. ويكشف تقرير للبنك الدولي أن ثلثي الأطفال في الدول النامية يعانون من سوء التغذية الذي يؤدي إلى وفاتهم في سن مبكرة. بالمقابل تكشف إحصائيات لمعهد "الموارد العالمية" أن تكلفة التبذير الغذائي تبلغ نحو تريليون دولار سنوياً، ما يكفي لإطعام جميع فقراء العالم، وبدورها تكشف أرقام منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) التابعة للأمم المتحدة أن نحو 1.3 مليار طن من الإنتاج العالمي للموارد الغذائية يتم إهداره سنوياً.

دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بدورها تحتلّ مراتب متقدّمة في تصنيف البلدان الأكثر إهداراً للأغذية على المستوى العالمي، برقم يبلغ 9 ملايين طن سنوياً، أي نحو 91 كيلوغراماً للفرد الواحد سنوياً. هذا على الرغم من معاناة معظم دول المنطقة من محدودية إنتاجها الغذائي، واعتمادها شبه الكلي على استيراد حاجياتها من الحبوب والفواكه والخضراوات واللحوم من الخارج.

وتأتي جمهورية مصر العربية في مقدمة البلدان الأكثر إهداراً للأغذية على مستوى شمال إفريقيا يليها السودان بـ4.16 ملايين طن، والجزائر بـ3.91 ملايين طن، ثم المغرب بـ3.31 ملايين طن، وتونس بـ 1.06 مليون طن، وليبيا بأكثر من 513 ألف طن، وموريتانيا بـ450 ألف طن. فيما يحتلّ العراق صدارة الدول في منطقة الشرق الأوسط بـ4.73 ملايين طن، تليه السعودية بـ3.59 ملايين طن، واليمن بـ3.02 ملايين طن، وسوريا بـ1.77 مليون طن، والأردن بـ939 ألف طن، والإمارات العربية بـ923 ألف طن، ولبنان بـ717 ألف طن، وفلسطين بـ501 ألف طن، وعمان بـ470 ألف طن، والكويت بـ397 ألف طن، وقطر بـ267 ألف طن، والبحرين بـ216 ألف طن.

كما تشير نتائج تقرير حديث للبنك الدولي إلى أن ما بين 14 و19 في المئة من إنتاج الحبوب في المنطقة يتم هدره، كما تشهد المنطقة ذاتها هدر 16 في المئة من الخضراوات، و45 في المئة من الفواكه، و13 في المئة من اللحوم، و28 في المئة من الأسماك، و18 في المئة من الحليب.


TRT عربي