وختمت طه حديثها عن "الكتابة الزخرفية" على واجهات الأسبلة العثمانية، موضحة أنها "تخلق نوعاً من التوازن بين السطوح وتُكسّر حدة امتداد الجدران / صورة: TRT Arabi (TRT Arabi)
تابعنا

ترتبط "الأسبلة" التي تعود بداية ظهورها إلى العصرين الأيوبي والمملوكي ارتباطاً تاريخياً وثيقاً بالعمارة الإسلامية، وقد شهدت تطوراً فنياً واضحاً في العهد العثماني.

و"الأسبلة" هي أبنية مختصة لإرواء عطش المارين في الطرقات، وقد جرت العادة بتشييدها إما كمبانٍ منفصلة أو ملحقة بالمدارس والمساجد وأحيانا بالمنازل.

ويقول أحمد الخنوس الباحث والمختص بعلم الآثار لـTRT عربي، إن "عادة سقاية المياه قد جرى توارثها عبر العصور عن العرب، كدليل على المروءة والكرم".

وأضاف أن "السلاطين العثمانيين خلال فترة حكمهم لشبه الجزيرة العربية قد حرصوا على إنشاء سبل مياه كبيرة من أجل تأمين سقاية المياه للحجاج، وكانوا يولونها اهتماماً كبيراً واضعين أشخاصاً للإشراف على أمور السبيل".

من جانبها قالت خولة طه المتخصصة في مجال أرشفة التراث لـTRT عربي "لربما تكون فكرة توفير المياه للعامة حاضرة قبل الإسلام، حيث كان أشراف قريش يتسابقون للفوز بسقاية الوافدين لزيارة الكعبة".

وأضافت "استمر على هذا المنوال الخلفاء، وفيما بعد الملوك والأمراء والسلاطين طوال فترة الدول الإسلامية وخصوصاً العثمانية، التي سعت إلى نشر الأسبلة في مختلف أراضي الدولة بجانب تطويرها من الناحية الفنية".

وأوضح الخنوس من جانبه أن "المماليك اهتموا كثيراً ببناء الأسبلة، وعندما جاء العثمانيون إلى مصر تأثروا بالفن المعماري المملوكي وعملوا على تطوير الأسبلة على الطراز المعماري المصري نفسه".

نموذج من الأسبلة العثمانية باسطنبول (TRT Arabi)

وتابع أن "الكتاتيب كانت تعلو معظم الأسبلة العثمانية ووصل عددها إلى 57 سبيلاً في تركيا، أما الأسبلة التي كان يعلوها قاعات سكانية (لسكن الطلاب أو المارة والقوافل) فكان عددها 9 ، في حين أن الأسبلة المفردة التي لا يعلوها أي شيء يبلغ عددها 4 فقط".

عمارة السبيل

ومن أشهر الطرز المستخدمة في بناء الأسبلة (الطراز المملوكي وبخاصة في مصر، والطراز العثماني المنتشر في الأناضول والشام وله ثلاثة أنماط: السبيل ذو الشباك الواحد، والسبيل ذو الشباكين، والسبيل ذو الثلاثة شبابيك.

وتحدثت خلود طه عن "عمارة السبيل" موضحة أن السبيل يتكون من طابقين، طابق يعرف بالصهريج، لتخزين المياه في باطن الأرض يعلوه بناء على مستوى سطح الأرض،" وتابعت "ويكون حجم الصهريج متناسباً مع موقعه، إذا كان في الميادين الكبرى فيكون الصهريج ضخماً عميقاً، وفي حال كان السبيل في منطقة تخدم عدداً أقل فيكون صغيراً"

وعن الخصائص الفنية للصهريج تقول طه "في الغالب يكون شكل الصهريج مربعاً قريباً من المستطيل تغطيه قباب محمولة على عقود ترتكز على أعمدة، إذ لكل صهريج خرزة من الرخام مثل خرزةَ البئر، وغالباً ما يبنى من الآجر والخافق لحفظ المياه الباردة".

وذكرت خلود أن "الطابق الأول، يكون إما مساوياً لسطح الأرض أو يعلوها بدرجات، وقد يكون مُسوّراً ليحصر الدخول إليه فقط من باب واحد، لتنظيم الدخول ومنعاً من وصول الحيوانات المتجولة. في حين يختلف الشكل الخارجي حسب التصميم الذي وضعه المعماري، فقد يكون دائرياً ويتوزع على محيطه الخارجي عدد من المسالك، أو ذا شكل رباعي أو سداسي أو ثماني، وعلى كل وجه من وجوه الأضلاع يوجد مسلك المياه".

سبيل الجشمة

وتزينت مدينة إسطنبول بالأسبلة ذات الواجهات العالية، وتسمى (الجشمة Çeşme)، وأشهر تلك الأسبلة سبيل السلطان أحمد الثالث الذي بناه عام 1142 هجرياً، أمام قصر توب قابي، إضافة إلى الأسبلة المنتشرة في الأزقة القديمة ومنها ما هو موجود في منطقة أق سراي، ومناطق أخرى مثل منطقة بلاط، وغيرها من الأحياء والأزقة القديمة مثل منطقة الفاتح.

عبقرية البناء

ويروي مؤرخون أن ثمة أسبلة، تتكون من أكثر من صهريج لكي لا ينقطع عنها الماء أبداً.

ووصف المتخصص بالحضارة العثمانية، أحمد الشرقاوي الأسبلة العثمانية بأنها "من عبقرية الحضارة الإسلامية"، وأنها "من الأمور العمرانية والخدمية والاجتماعية للعصر العثماني".

وما يميز الأسبلة العثمانية، حسب الشرقاوي، هو "التقدم الشديد في العمارة والتأنق فيها، حتى صارت نماذج مميزة من الفن الإسلامي".

وللأسبلة نوع مهم ظهر في العصر العثماني وانتشر في الأناضول والشام ومصر، وهو عبارة عن تجويف نصف دائري مغطى بقبو نصف كروي في واجهات المنازل والمساجد والتكايا والمدارس، ولا يوجد تحتها صهاريج لحفظ المياه وإنما تأتي مياهها مباشرة عبر قنوات فخارية تحت الأرض تسير مع الشوارع، حيث كانت بدايةً تجر المياه إليها على شكل "كباش" ثم ألغي هذا النظام واستُبدل بالصنبور.

وقال الشرقاوي "أعتقد أن أكبر الأسبلة العثمانية الموجودة إلى الآن في إسطنبول، هي في ميدان تقسيم"، مضيفاً أن "تقسيم كلمة عربية كانت تعني تقسيم المياه، وعندما أُدخلت المياه في حي بي أوغلو الذي كان من الأحياء الراقية في ذلك الوقت، استُخدمت روافد المياه التي تأتي، من أجل تقسيم المياه على الأحياء المجاورة".

الزخرفة العثمانية للأسبلة

وما يميز "الأسبلة العثمانية" زخرفتها بالاعتماد على الأشكال الهندسية المتعددة سواء على الواجهات الحجرية الخارجية والرخامية في شبابيك السبيل، أو على الأرضيات الرخامية ذات الألوان البديعة، وكذلك على جدران الحجرات.

وما يميز "الأسبلة العثمانية" زخرفتها بالاعتماد على الأشكال الهندسية المتعددة سواء على الواجهات الحجرية الخارجية والرخامية (TRT Arabi)

وتأتي الزخرفة على نوعين:

الزخارف الهندسية: والتي كان لها تطور عظيم في الفن الإسلامي من خطوط مستقيمة ومقوسة ومتداخلة ضمن مثلثات ومضلعات ودوائر، تقسم وتكرر وتتعاقب إلى ما لا نهاية، حتى يكاد الناظر أن لا يحدد بدايتها أو نهايتها.

الزخارف النباتية: عمد الأتراك العثمانيون إلى الاعتماد على هذا النوع من الزخرفة اعتماداً كبيراً فكانت أكثر مرونة وقرباً من الطبيعة، حيث مالت إلى الصدق بالتعبير، وقد كانت نباتات الأناضول وزهورها مصدراً غنياً يأخذون منه عناصر أسلوبهم الجديد الذي عرف فيما بعد بالأسلوب الواقعي.

وكان من أهم تلك الأزهار، زهرة القرنفل وعباد الشمس وشقائق النعمان والرمان والورد، إضافة إلى شجر السرو، ولاحقاً تطور لديهم الفروع النباتية والأوراق البسيطة لا سيما الثلاثية منها التي تكاد أن تكون الصفة المميزة للزخرفة العثمانية.

وتقول خلود طه، إن "أروع الأمثلة للزخارف ذات الأسلوب التقليدي هي الأرابيسك، والموجودة في الأسقف الخشبية لمعظم الأسبلة ذات النمط المحلي والمشيدة في القرنين السادس والسابع عشر الميلادي المرسومة بالألوان، وقد نُفذت الورقة النباتية الثلاثية على أغلب ألواح الأسبلة بالحفر البارز والغائر في الصفوف المتداخلة والمتوارية".

وختمت طه حديثها عن "الكتابة الزخرفية" على واجهات الأسبلة العثمانية، موضحة أنها "تخلق نوعاً من التوازن بين السطوح وتُكسّر حدة امتداد الجدران وتُسطّحها، إضافة إلى عمل الفواصل بين الكتابات بالزهور والإطارات، مما يجعل واجهات الأسبلة أشبه باللوحات الفنية فيزيد من ألق وتَجَمُّل المدينة بها".


TRT عربي
الأكثر تداولاً