تابعنا
يقرّ فرانسيس فوكوياما في كتابه "الهوية.. الحاجة إلى الكرامة وسياسة الضغينة" أنّ خطاب العصر السياسي يتأرجح بين مفهوم الفردية ونفيها، بين حقوق الإنسان الفرد وحرياته واختياراته الخاصة، والهويات الجامعة المُدمجة.

قبل نحو عامين تراجع فرانسيس فوكوياما عن إعلان نهاية التاريخ وقرّر تأجيل نبوءته لأجل غير مسمّى. والواقع أن العالم كان أقرب ما يكون للنهاية ولكن ليس كما تصوّرها الكاتب الأمريكي في شكل انتصار نهائي لديمقراطية الغرب ولكن عبر ضغط كيم يونغ أون أو دونالد ترمب على أزرار الجحيم.

قليلة هي الكتب التي أثارت ما أثاره كتابه "نهاية التاريخ والرجل الأخير" من ضجيج وجدل كبيرين عند صدوره عام 1991، من جراء وقوع صاحبه تحت تأثير الأحداث التي واكبت هدم جدار برلين ورفع الستار الفولاذي وانتصار الغرب في الحرب الباردة انتصاراً بيّناً، تأثراً قاده للمغالاة في التفاؤل بأن الديمقراطية الليبرالية قد استتب لها الأمر نهائياً ما بقي الإنسان والتاريخ...

ثم أصدر كتاب "الهوية.. الحاجة إلى الكرامة وسياسة الضغينة" بعد أن سارت سفن الأحداث خلافاً لما يشتهيه، فعدّل فيه أحكامه السابقة وأقرّ بقصورها وبُعدها عن الواقع بعداً كبيراً؛ بل اقترب بنية أو بدونها من نظرية "صدام الحضارات" لصاحبها صموئيل هنتنغتون وانبعاث مارد الهوية الثقافية في ميدان الساسة العالمية.

ولو قُدّر لـ هنتنغتون العيش إلى أيامنا هذه لقرّت عينه بتداول مفاهيم طرحها في كتابه الشهير بعد أن كانت منبوذة في الأوساط الأكاديمية وما اقترحه من ضرورة التخلي عن النماذج الكلاسيكية لقراءة السياسة التي لم تعد تصبح ـ في رأيه ـ مجدية لفهم ما يحرّك العالم، ومن ثم الأخذ بنموذج للإدراك جديد (أو بارادايم) يعتمد الثقافة والدين بالأخص أساساً للتحليل.

ما يقترحه فوكوياما في كتابه الأخير لا يبتعد كثيرًا عن ذلك حين يُذكرنا أن غاية الديمقراطية وتطور القانون الدولي هي إرساء حدّ أدنى من المساواة وتكافؤ الحقوق، بينما تقود الإنسانَ نزعةُ إثبات الذات وتوقه الجارف ليس لنيل الندية مع الآخرين فحسب بل التفوق عليهم. ويقرّ أن خطاب العصر السياسي يتأرجح بين مفهوم الفردية ونفيها، بين حقوق الإنسان الفرد وحرياته واختياراته الخاصة، والهويات الجامعة المُدمجة، في تفاعل جدلي بين قطبين متنافرين ومتلازمين في الآن ذاته.

التفاعل المستمر بين مفهومي الحرية والمساواة هو، من وجهة نظر فوكوياما، بمثابة مولّد الطاقة الذي ظل يُحرك السياسة في الغرب ردحاً من الزمن، فاليسار كان يكافح لانتزاع ما استطاع من حلول منصفة للأكثرية واليمين ظل يقاوم للحفاظ على سمو روح المبادرة والاقتصاد الحرّ، وكانت الأمور تتجه بهدوء دوماً نحو توليفات وسطية، تماماً كدرس يُلقى على الطلاب من دروس منهج الجدل الهيغلي، قبل أن يُبتلى الغرب بالهجرة وتتسلل الهويات النائية لتخرب هذه الصورة الساحرة.

فأصبحنا وقد احتلت قضايا الهجرة والثقافة والهوية موقع الصدارة من السياسة منذ أواخر القرن الماضي. فانشغل اليسار عن الكفاح ضد الفوارق الاجتماعية ومن أجل كرامة عيش الأغلبية بالترافع النظري عن الهويات الجزئية وحقوق الأقليات، وهي مهمة نبيلة لكن نتائجها معلقة في ذمة التاريخ ونجاحها رهنٌ بزوال أسبابها ليس ضمن أبعاد وطنية بل على امتداد الأرض.

رويداً رويداً تحول مركز الصراع من لغة البرامج والبيانات والأرقام نحو بنية فوقية متكلسة تاريخيّاً ولا ينفع فيها جدل ولا نقاش عقلاني؛ وذلك ملعب اليمين الذي لا يجاريه فيه أحد، فنجح في استدراج عقلاء السياسة والمثقفين إلى أجندته ومضى يختلس من خطاب اليسار مقولات الفقر والتهميش والتفاوت، لا ليكشف أسبابها الحقيقية بل ليغذّي بها غول الوطنية الضيقة لدى جمهور الأرياف الأوروبية المحافظ وعمّال المدن الفقراء، ويوهم ضحايا الليبرالية المتطرفة أن ما باتوا فيه من السّخرة وشظف العيش سببه المهاجر الإفريقي واللاجئ العربي والعامل البولندي، أي "الآخر" الذي يتحدث لغتهم بلكنة ويجلب معه أسماء وأصواتاً تبعث فيهم رهبة غابرة وذاكرة مغايرة لا تملؤها الصورُ والمراجع ذاتها، ولا يشفع له تمثُّل مبادئ وطنه الجديد واعتناق مصالحه.

خطاب الهوية المهدَّدة بحفنة من اللاجئين البائسين عاد إلى أوروبا من الكهوف التي نفته فيها منذ الحرب الكبرى، وترويع الناس من خطر فئة صغيرة من مواطنيهم على اقتصادهم وأسلوب عيشهم لأنهم من عرق آخر والسّعي إلى ذوبانهم، هذا الخطاب لم يعد حكراً على صحف اليمين المتطرف ومنشورات النازيين الجدد، بل أصبح له دعاة في تيارات الوسط وإعلامه.

في حوار مع بي بي سي لم يخجل الكاتب الفرنسي ميشال ويلبيك من القول إنه مصاب بالإسلاموفوبيا لأن الكلمة من منظوره تحيل على الرّهبة والتوجّس الفطري لا الكراهية، ويعدّ أنه مهما كتب عن الموضوع لن يزيد المجتمع تطرفاً لأنه ـ حسب قوله ـ وصل لمرحلة التشبع من خشية غلبة الإسلام في بلاده وأوروبا عموماً. أحاديثه العلنية عن المسلمين ورموزهم أعراضٌ واضحة لا تخفي هذا الرّهاب وما روايته "خضوع" التي ينذر فيها من يعدّهم "فرنسيين أصلاء" من وقوع فرنسا فريسة لحكم إسلامي بعد انتخابات ٢٠٢٢ إلا نوبة من نوباته.

ما عاد المحافظون يخشون إبان الحملات الانتخابية أن يسحبوا من مخزون ما قبل سيادة العقل ويُدخلوا جمهورهم لما يشبه جلسات تحضير أشباح، يكون فيها المهاجرون والغرباء هم المردة والساحرات. أما عندما يصلون إلى الحكم فلا يتورّعون عن عقد الصفقات المجزية مع هذا الجنوب المتخلف وشفط مخازنه وتحويل منابع الحياة نحو بلدانهم مقابل حماية خادعة من مهالك هم دبّروها في بادئ الأمر.

إن انزياح محور السياسة من الوقائع الاجتماعية إلى المظاهر الثقافية بدأ يقسّم العالم إلى قبائل لا تريد التعارف؛ وإذا نجح غلاة القومية في حشد الناس لحروبهم الثقافية ودفع الناخبين للتصويت لا وفقًا لمحددات الهوية والعقيدة ومبادئ الحرية والعدل والقيم التي قام عليها التنوير، فقد نكون دخلنا بالفعل عصر أفول الديمقراطية كما نعرفها.

ما نراه اليوم من التهاب خطوط التماس القديمة واصطفاف البشرية على جبهات تتطابق مع حروب الماضي قد يبهج تلاميذ صاحب نظرية "صدام الحضارات"، لكن الحيّز الذي يشغله هذا النقاش في الإعلام والتأليف والنشر في حد ذاته مؤشرٌ لقلقٍ كامنٍ لدى شرائح واسعة من المثقفين من المعسكرين والمعنيين بالشأن العام ومصير البشرية المشترك. ولنا في التاريخ كذلك موردٌ من موارد التفاؤل، لأنه يعلّمنا أن مسيره لا يتوقف وأن تراكم الحضارات الذي أوصل البشرية للديمقراطية كآليات لتنظيم تدافع المجموعات والمصالح سيهديه لصيغةٍ منها منقحةٍ ومعدلة.

يذكرنا فوكوياما في كتابه الأخير أن غاية الديمقراطية وتطور القانون الدولي هي إرساء حدّ أدنى من المساواة (AP)
لو قُدّر لـ هنتنغتون العيش إلى أيامنا هذه لقرّت عينه بتداول مفاهيمطرحها في كتابه الشهير وما اقترحه من ضرورة التخلي عن النماذج الكلاسيكية لقراءة السياسة (Getty Images)
لم يخجل الكاتب الفرنسي ميشال ويلبيك من القول إنه مصاب بالإسلاموفوبيا لأن الكلمة من منظوره تحيل على الرّهبة والتوجّس الفطري لا الكراهية (Getty Images)
TRT عربي
الأكثر تداولاً