تابعنا
اختار بعض الفنانين في إدلب الجدران لرسم لوحاتهم، وجعلوا منها منابر للتعبير عن رأيهم ورفضهم للظلم، وحبهم للحياة، واختار آخرون الرسم على الخيام، بينما اتجه البعض الآخر إلى الرسم بالرمال.

ظهر كثير من الفنون في إدلب خلال سنوات الحرب، ورافقت الثورة السورية بجميع مراحلها منذ انطلاقتها، منها فن الرسم الذي عمل البعض من خلاله على توثيق معاناة الشعب السوري، والظلم الذي وقع عليه، وسرد حكايات القهر والفقد، كما عبّروا به عن تطلعاتهم وآمالهم في الحرية والنصر.

الرسم على الجدران

اختار بعض الفنانين الجدران لرسم لوحاتهم، وجعلوا منها منابر للتعبير عن رأيهم ورفضهم للظلم، وحبهم للحياة، دون أن ننسى أن لغة الجدران كانت شرارة الثورة السورية منذ انطلاقتها عام 2011، حين كتب أطفال درعا عبارات تطالب بالحرية وإسقاط النظام، وجوبهوا بالعقاب الشديد، ونزع الأظافر.

الفنان عزيز الأسمر، 47 عاماً، من مدينة بنش بريف إدلب، فضّل أن يرسم لوحاته على الجدران المدمَّرة، للتعبير عن الواقع السوري، كما يواكب الأحداث العربية والعالمية، وعن ذلك تحدث لـTRT عربي بقوله: "الفن لغة عالمية يفهمها جميع الناس باختلاف جنسياتهم ولغاتهم، لذلك أتنقل بين الأبنية المدمَّرة لأرسم على جدرانها المتهالكة قصة شعب طالب بالحرية والكرامة، فقابله النظام السوري بأنواع الأسلحة كافة، دون أن يتمكن من كسر عزيمته وإصراره على تحقيق هدفه.

إحدى جداريات الفنان عزيز الأسمر (TRT Arabi)

ويبين الأسمر أنه تنقل بين أرياف إدلب وحلب، ورسم على جدران المدارس والمباني التي هدمها قصف النظام السوري.

ويلفت ﻋﺰﻳﺰ إلى أنه سافر ﺑﻌﺪ ﺇﻧﻬﺎء المرﺣﻠﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﺎﺻﻤﺔ ﺍﻟﻠﺒﻨﺎﻧﻴﺔ ﺑﻴﺮﻭﺕ، وﻋﻤﻞ هناك ﻓﻲ ﺩﺍﺭ ﻧﺸﺮ ﻟﻠﻜﺘﺐ لمدة تجاوزت ﻋﺸﺮﻳﻦ ﻋﺎماً، ﻭﻛﺎﻥ ﻳﻨﻤّﻲ خلالها ﻣﻮﻫﺒﺘﻪ ﺑﺎﻟﺮﺳﻢ، وﻋﻨﺪﻣﺎ ﺍﻧﻄﻠﻘﺖ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ﺍﻟﺴﻮﺭﻳﺔ، ترك عمله في لبنان بعد سماع الصيحة الأولى المنادية بكلمة "حرية" عام 2011، وعاد أدراجه إلى سوريا ليلتحق بركب الثورة.

يشير عزيز إلى أنه حين عاد ﺇﻟﻰ ﺳﻮﺭﻳﺎ، ﻭﺭﺃى ﺍﻟﺪﻣﺎﺭ ﻭﺟﻬﺎً ﻟﻮﺟﻪ، قرّر أن يوﺍﻛﺐ ﺍﻷﺣﺪﺍﺙ ﺍﻟﻤﻔﺼﻠﻴﺔ ﺳﻮﺍﺀ ﻓﻲ ﺳﻮﺭﻳﺎ ﺃﻭ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺮﺳﻮﻣﺎﺕ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺠﺪﺭﺍﻥ ﻭﺍﻷﺳﻘﻒ ﺍﻟﻤﻬﺪَّﻣﺔ، ﻭقد ﺃراد من خلال ذلك ﺇﺭﺳﺎﻝ ﺭﺳﺎﻟﺔ ﻭﺍﺿﺤﺔ إلى العالم ﺑﺄﻥ النظام السوري دمّر هذه المنازل وشرّد سكانها وحوّلهم إلى نازحين في المخيمات، وأن ﺗﺤﺖ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺮﻛﺎﻡ ﻋﺎﺋﻼﺕ قُتلت لمجرد المطالبة بأبسط حقوقها.

يلفت عزيز إلى أنه بدأ ﺮﺳﻢ لوحات كارﻳﻜﺎﺗﻴﺮﻳﺔ ﺗﻨﺎﻫﺾ ﺣﻜﻢ ﺍلاستبداد، وعن ذلك ﻳﻘﻮﻝ ﻋﺰﻳﺰ: "ﺣﻴﻦ ﺍﻧﺪﻟﻌﺖ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ بدأنا كسوريين نحلم ﺑﺎﻟﺤﺮﻳﺔ ﻭﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ، ﻭﺃﻥ ﺗﺘﺤﻮﻝ ﺳﻮﺭﻳا ﺍﻟﻌﺮﻳﻘﺔ إلى ﺪﻭﻟﺔ ﻳﻨﺎﻝ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻦ كامل ﺣﻘﻮﻗﻪ".

اختار عزيز الأسمر المنازل المهدمة لرسم لوحاته (TRT Arabi)

ﻣﻦ ﺃﻫﻢّ ﺭﺳﻮﻣﺎﺕ ﻋﺰﻳﺰ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﻄﻔﻞ ﻣﺒﺘﻮﺭ ﺍﻟﻘﺪﻣﻴﻦ ﺍﻟﺬﻱ يستنجد بوالده أن يحمله، ﻭﺍﻟﻄﻔﻞ ﻛﺮﻳﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻓﻘﺄ ﺍﻟﻘﺼﻒ عينه، ﻭﺟﺪﺍﺭﻳﺘﻪ ﺍﻟﺘﻲ ﻻﻗﺖ ﺭﻭﺍﺟﺎً ﻋﺎﻟﻤﻴﺎً، ﻭﻫﻲ ﻋﻦ ﺍﻟﺠﻨﻴﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﻗُﺘﻞ ﻓﻲ ﺭﺣﻢ ﺃﻣﻪ ﻓﻲ مدينة ﺧﺎﻥ ﺷﻴﺨﻮﻥ، وكذلك المصور الفلسطيني "معاذ عمارنة" الذي فُقئت عينه على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي في أثناء تغطيته الأحداث في الأراضي الفلسطينية، ﻳﻘﻮﻝ ﻋﺰﻳﺰ: "ﻟﻜﻞ ﻟﻮﺣﺔ ﻣﻦ ﺭﺳﻮﻣﺎﺗﻲ ﻗﺼﺔ، ﻭﻏﺎﻟﺒﺎً ﻣﺎ ﻳﺴﺎﻋﺪﻧﻲ ﺍﻷﻃﻔﺎﻝ ﺑﺘﻠﻮﻳﻦ ﺍﻟﺮﺳﻮﻣﺎﺕ ﺳﻌﻴﺎً ﻣﻨﺎ ﻟﻨﻴﻞ ﺍﺑﺘﺴﺎﻣﺘﻬﻢ".

وتبوح رسومات الأسمر بقصة حنين النازحين في الخيام إلى بيوتهم، والآلام التي عاشوها جراء استهداف القصف بيوتهم ومدارسهم، كما أفرد مساحة من رسوماته للتوعية والتحذير من وباء كورونا الذي يتفشى في المنطقة، مع غياب شبه كامل للإجراءات الاحترازية من الأهالي.

ﻋﺰﻳﺰ ﻟﻴﺲ ﺃﻛﺎﺩﻳﻤﻴﺎً، ﻭﻟﻜﻦ موهبته ساعدته على نقل الواقع وإيصال رسائل إلى العالم، ولاقت رسوماته اهتماماً واستحساناً، ويضيف: "ﻧﺤﻦ لسنا ﺇﺭﻫﺎﺑﻴﻴﻦ، بل طالبو حرية، وهو مطلب محقّ، ﻭﺣﻴﻦ ﺍﺧﺘﺮﻧﺎ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ﻛﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﻳﻘﻴﻦ ﺑﺄﻧﻪ صعب ﻭﺷﺎﻕ، لكن الوصول إلى هدفنا ليس مستحيلاً".

الرسم على الخيام

ومن قماش خيام النزوح التي لا تقي برد الشتاء وحر الصيف، وبإمكانيات بسيطة، استطاع فنانون تشكيليون سوريون تحويلها إلى ألواح فنية تحاكي وضع النازحين وتوثّق معاناتهم، إذ لم يكتفِ الفنانون بالرسم على جدران المباني لإيصال رسائلهم، بل اختار البعض الرسم على جدران الخيام بهدف تحويل شقاء النزوح في المخيمات إلى بارقة أمل، ومساحة للتفاؤل والجمال.

دينا حمدان تجسد أوجاع النازحين على خيامهم (TRT Arabi)

دينا حمدان، 23 عاماً، من مواليد دمشق وتقيم بريف إدلب، موهوبة بالرسم منذ صغرها، ركزت في رسوماتها على معاناة الأطفال والنساء في المخيّمات جراء ما يعانونه من فقد وحرمان، بالإضافة إلى رسم لوحات تناصر قضية النساء المعتقلات، مؤكدة أنها أقامت معرضين لرسوماتها في كل من مدينتي إدلب وأعزاز.

تدرس دينا في كلية الآداب قسم الأدب الإنجليزي في جامعة حلب الحرة بمدينة أعزاز، وقد شاركت منذ بداية الثورة في رسومات عدة في أثناء الاحتجاجات السلمية، وأطلقت مشروع "رسمة حلم" الذي أرادت من خلاله نقل معاناة النازحين ورسمها على جدران خيامهم نفسها، من أجل نقل الصورة التي يعيشونها، والمآسي والصعوبات التي تواجههم، وعن فكرة المشروع تقول: "أردت أن ألفت الأنظار إلى معاناتهم من خلال الرسم الذي ينقل الرسالة ويعبّر بشكل أفضل".

كذلك أميرة الداني، 19 عاماً، من بلدة كنصفرة بريف إدلب، تدرس الإرشاد النفسي في جامعة إدلب، وترسم على خيام النازحين شخصيات كارتونية بألوان زاهية، بهدف إسعاد الأطفال ونشر الأمل في قلوبهم البريئة، وعن ذلك تقول: "تعلمت الرسم منذ صغري، وأعمل على تطوير موهبتي باستمرار، وقد شجعتني أسرتي على صقل موهبتي وتطويرها، وأسعى من خلال الرسم لزرع الأمل في قلوب أطفال تلك الخيام".

دينا تعبر عن هموم وأوجاع النازحين بالرسم (TRT Arabi)

تتمنى الداني أن تفتتح معرضاً لرسوماتها، وتضيف: "رﻏﻢ ﻇﻼﻡ ﺍﻟﻤﻮﺕ ﺍﻟﻤﺤﻴﻂ ﺑﻨﺎ، ﻳﺠﺐ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ في حياتنا ﻓﺴﺤﺔ ﺣﻴﺎﺓ ﻭﺃﻣﻞ".

الرسم بالرمل

ومن الفنون التشكيلية التي عرفتها إدلب خلال سنوات الحرب فن الرسم بالرمال.

الفنان بركات أبو أحمد، 43 عاماً، هُجّر من مدينة تدمر إلى إدلب عام 2017، يرسم بالرمل لوحات فنية متكاملة، وهي الهواية التي ورثها عن أبيه وجده منذ سنوات طويلة، وعن ذلك يقول: "هذا الرسم لا يحتاج إلى استعمال الريشة أو الألوان، بقدر حاجته إلى كثيرٍ من الصبر والموهبة والإتقان، وحفنة رمال ملونة، ثم أترك لخيالي الحرية في تجسيد مشاهد من الواقع والبيئة الصحراوية التي أنتمي إليها".

الرسم بالرمل يتحدى الحرب في إدلب (TRT Arabi)

يبيّن أبو أحمد أنه يستخدم الرمل بعد تنظيفه من الشوائب ليصبح في غاية النعومة، ويعمد إلى تلوينه، إلى جانب حاجته إلى القوارير الزجاجية، وعند تشكيل اللوحة يسكب الرمل الأبيض في القارورة باتزان ودقة، ليمثل خلفية اللوحة، وذلك عبر أنبوب خاص، ثم يضيف الرمل الملوَّن ليرسم الطبيعة أو قوافل الجمال، أو يكتب الأسماء والعبارات الثورية".

ويؤكّد أبو أحمد أن الرسم بالرمال يُعتبر أكثر صعوبة من الرسم العادي على اللوحات الكرتونية، لأنه يحتاج إلى السيطرة على حبات الرمل، والحرص على اختيار ارتفاع مناسب بينه وبين لوح الزجاج، للتأكد من الوصول إلى الشكل المراد.

يلفت أبو أحمد إلى أن المارَّة يتجمعون حوله لرؤية ما يرسمه بخفة وإتقان، ويُبدون إعجابهم بهذا الفن العريق، كما يطلب منه كثيرون أن يخطّ أسماءهم أو أسماء أحبّتهم الذين خطفهم الموت ليبقوا ذكريات محفورة في قوارير، كما هي محفورة في القلوب.

عديد من الفنانين السوريين سخروا مواهبهم في ظلّ الحرب السورية للتعبير عن معاناة شعب ينشد الحرية، وما يقاسيه من مآسي الحرب والدمار والنزوح، فنطقوا بصوته وعبّروا عن قضاياه، وآخرون أفردوا فنّهم لنشر الأمل والفرح في قلوب أناس أتعبتهم الحرب ومشاهد الدمار.

TRT عربي
الأكثر تداولاً