بعد مرور السنوات تكشفت العديد من الجوانب الخفية عن فنانين قامت المخابرات المصرية باضطهادهم أو استغلالهم أو القضاء عليهم (TRT Arabi)
تابعنا

ينطوي الملف الشائك للعلاقة بين المخابرات المصرية والفن على بعض الحقائق المختبئة داخل كثير من الأكاذيب والشائعات، وهي الحقائق التي تكشفت تدريجياً بمرور السنوات ووقوع الأحداث الكبرى التي غيرت موازين القوى السياسية وسمحت بانفلات بعض الحكايات التي أُريدَ لها أن تبقى في دائرة الظل إلى الأبد.

لم ينكشف الأمر حتى حدوث نزاع بين قادة نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عقب نكسة 1967 ومحاولات احتواء الغضب الشعبي الذي ترتب عليها، فسقطت عدة أسماء كبرى على رأسها مدير المخابرات المصرية آنذاك صلاح نصر الذي حُكم عليه بـ15 عاماً في القضية التي عرفت إعلاميّاً باسم انحراف المخابرات، قبل أن يقوم الرئيس الراحل محمد أنور السادات بإطلاق سراحه قبل انتهاء مدة الحكم.

ظهرت التسريبات التي اعتمدت على أوراق القضية وردود الفعل التي أثارتها والتي استمرت لسنوات طويلة، بعدما كشفت عن أساليب صادمة استخدمتها المخابرات لتجنيد بعض الفنانات أو للقضاء على المسيرة الفنية لآخرين بسبب موقفهم من النظام الحاكم على الرغم من اعتراف العالم بموهبتهم، وبمرور الوقت ارتبط هذا الملف في أذهان المصريين بشخصيات أحبوها وعرفوها مثل سعاد حسني وعبد الحليم حافظ ومحمد فوزي وتحية كاريوكا.

يمكن من خلال استعراض ثلاث تجارب شهيرة تنتمي إلى تلك الفترة، رصد المسار الفني لشخصياتها الرئيسية من خلال تأمل وعيها السياسي والثقافي وموقفها من السلطة بالإضافة إلى طبيعة تكوينها الإنساني، وأثر كل هذه التفاعلات على تحديد مصايرها في النهاية.

نهاية السندريلا الغامضة

فتحت النهاية التراجيدية لسندريلا الشاشة العربية سعاد حسني ملف العلاقة بين الفن والمخابرات مجدداً، بعد أن وُجدت جثتها ملقاة أمام برج ستيوارت تاور بلندن في يونيو/حزيران عام 2001.

تضاربت ردود الفعل عقب رحيلها بين احتمالات الانتحار والقتل، ثم جاء قرار المحكمة البريطانية وأُغلقَ ملف التحقيق بإعلانه حادثة انتحار.

آمنت صديقتها نادية يسري التي كانت تقيم سعاد في شقتها بلندن قبل رحيلها بساعات معدودة أنه حادثة انتحار بالفعل، بعد سنوات من المعاناة مع مرض الاكتئاب ومحاولات السندريلا العودة إلى الشاشة، بينما رفض بعض أصدقائها المقربين تصديق الأمر.

عقب ثورة 25 يناير في مصر، تقدمت جانجاه حسني شقيقة سعاد ببلاغ إلى النائب العام اتهمت فيه رئيس مجلس الشورى والأمين العام للحزب الوطني آنذاك صفوت الشريف بقتل شقيقتها وإخراج الأمر كأنه انتحار.

ظل لغز مقتل السندريلا غامضاً حتى اليوم، لكن بفضل شهادات الصحفيين والوثائق المسربة أُضيئت جوانب من تلك الفترة المعتمة أثناء الحقبة الناصرية، التي ارتبط فيها اسم صفوت الشريف بمدير المخابرات المصرية صلاح نصر وما يُدعَى بعمليات السيطرة، بعد التحقيق فيها عقب نكسة 1967 في قضية انحراف المخابرات، فما علاقة سعاد بذلك؟

تعتمد الأقاويل الخاصة بالعلاقة بين سعاد حسني والمخابرات المصرية على روايتين أساسيتين، الأولى هي التي يؤكدها الصحفي المصري أشرف غريب المتخصص في النقد السينمائي واستقصاء حياة الفنانين، والتي تقول إن صلاح نصر حاول استغلال العلاقة السرية بين سعاد وعبد الحليم حافظ في الضغط على الراحلة ومحاولة تجنيدها كعميلة، وذلك لتحقيق عدة مكاسب، أحدها "توجيه ضربات موجعة للمطرب الراحل بسبب قربه من الرئيس جمال عبد الناصر"، وهي الضغوط التي رفضت سعاد الرضوخ لها ولم تتعاون مع المخابرات.

أما الرواية الثانية، فتؤكد قبول سعاد حسني التعاون مع المخابرات وأنها أدت بالفعل مهام كبرى، وهي المقولة التي تتبناها الفنانة والمنتجة اعتماد خورشيد الزوجة السابقة لصلاح نصر، إذ أكدت في عدة لقاءات تليفزيونية أن "صفوت الشريف قتلها بعدما علم أنها سوف تنشر مذكراتها".

اعترف صلاح نصر في كتاب "صلاح نصر يتذكر.. الثورة، المخابرات، النكسة" بأن المخابرات المصرية استخدمت طريقة تجنيد النساء، من بينهن بعض الفنانات، بهدف الحصول على معلومات سرية من شخصيات سياسية هامة.

وحول استخدام وسائل ابتزاز بهدف إخضاعهن، أوضح نصر في كتابه أن تصويرهن كان جانباً روتينيّاً لأغراض أمنية "التصوير كان يتم نعم، لأن هناك في مهنة المخابرات ما يسمى بأعمال السيطرة، أي السيطرة على العميل أو العميلة"، وأضاف "السيطرة عن طريق التصوير نوع من هذه الأعمال، فالعلاقة بين رجل المخابرات والعميل معه هي علاقة سيد ومسود، الأول يدفع ويأمر والثاني يأخذ ويطيع".

كما أشار نصر إلى أن تجنيد الفنانات كان يتم تحت إشراف الدولة الناصرية ومباركتها ولم يكن تعبيراً عن موقف فردي كما تم اتهامه عقب النكسة، "الدولة كانت تعلم كل صغيرة وكبيرة حول استخدام هذا الأسلوب، لم تكن العمليات تتم بطريقة عشوائية أو ارتجالية، كل عميلة قبل تجنيدها لها سجل به تاريخ حياتها ومعارفها ونشاطها وعلاقاتها كأي موظف، وكل عملية تقوم بها مسجلة التفاصيل".

لا يستطيع أحد الجزم بحقيقة ما حدث حقّاً للسندريلا، سرّها قد دُفن معها إلى الأبد، لكن في ظلّ صراع قوى بهذه الضراوة هل يمكن أن يقف وعي الفنان السياسي وموقفه من السلطة حامياً له من بطشها؟

وقعت سعاد حسني أسيرة للحب الغامر الذي أحاطها به الجماهير، لكن قد يكون لحضورها اللطيف والاستثنائي جانب مظلم تمثّل في أن تراها السلطة بوصفها "فنانة يمكن تجنيدها"، ما قد يكون ساهم في تشكيل مصيرها في النهاية.

تحية كاريوكا.. "الجدعنة" التي تحمي من الانتهاك

شكّلَت الجسارة "الجدعنة" التي امتازت بها شخصية الفنانة تحية كاريوكا، ووعيها السياسي منذ بداياتها، حائطاً منيعاً لم تجرؤ السلطة على تجاوزه، بل فقط عمدت إلى محاولات تحجيمه أو مواجهته.

تكشف المواقف التي كانت تتردد حولها منذ بدايتها عن ذكاء وإقدام، كما وصفها الكاتب جلال أمين في كتابه "شخصيات لها تاريخ"، فقد ساهمت في الأعمال الفدائية ضد الاحتلال الإنجليزي "باستخدام سيارتها في نقل بعض ما يحتاج إليه الفدائيون من عتاد ومواد متفجرة".

وتسببت المقولة الشهيرة التي نُسبت إليها في انتقادها للضباط الأحرار بعد تحول مسار ثورة 1952 "ذهب فاروق وجاء الفواريق" في اعتقالها بعدما نقلها رجال المخابرات إلى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، حيث قضت نحو مئة يوم داخل السجن وظلت تحت المراقبة لسنوات طويلة.

كتب عنها المفكر الراحل إدوارد سعيد مقال "تحية لراقصة" ضمن كتابه "تأملات في المنفى"، وتطرق إلى مجموعة من المواقف النضالية منها ما روَته كاريوكا بنفسها في أثناء إحدى زياراته لمنزلها، بأن اعتقالها في عهد عبد الناصر كان أيضاً بسبب انتمائها إلى اليسار الوطني، إذ كانت تهمتها هي "انتسابها إلى عصبة السلام"، وحكى سعيد عن موقفها من القضية الفلسطينية فقال: "في عام 1988 علمت أنها كانت في أثينا مع مجموعة من الفنانين والمثقفين المصريين والعرب الذين عزموا على ركوب سفينة العودة الفلسطينية في رحلة إياب رمزية إلى الأراضي المقدسة. وبعد أسبوعين من الحظوظ العاثرة المتوالية فجّرت المخابرات الإسرائيلية السرية ذلك القارب".

تعددت أوجه نشاط كاريوكا السياسي، فقد كونت فرقة مسرحية في نهاية الستينيات عقب نكسة 1967 قدمت فيها مسرحيات سياسية تنتقد النظام الحاكم قبل أن يتم منع عرضها.

وحافظت كاريوكا على نضالها حتى أيامها الأخيرة حين تزعمت اعتصام الفنانين في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وكانت هي الفنانة الوحيدة التي أضربت عن الطعام حينها.

يكشف موقف تحية كاريوكا من السلطة أن حراك الفنان ونشاطه السياسي قد يعمل بوصفه حامياً له من الانتهاك وتغوُّل النظام أو استغلاله لجماهيريته، إذ لن يكون بوسع المخابرات إلا أن تقوم بنقل الأحاديث أو ممارسة الاضطهاد من اعتقال أو تعذيب.

الحكاية الثالثة: محمد فوزي.. الموهبة وحدها لا تكفي

تُعَدّ تجربة الفنان محمد فوزي أحد نماذج تَحَوُّل الفنان إلى ضحية بسبب صدقه إذا تزامن مع قلة خبرته السياسية، إذ لا تكفي الموهبة لحماية تجربته في ظلّ نظام استبدادي.

فقد كشف الناقد أشرف غريب في كتاب "محمد فوزي.. الوثائق الخاصة" اضطهاد النظام الناصري له وسعيه إلى الانتقام من مسيرته الفنية "لا لشيء سوى لصداقته مع اللواء محمد نجيب"، بعد انقلاب الضباط الأحرار عليه وعزله من منصبه ومن العمل السياسي ووضعه تحت الإقامة الجبرية.

أعاد غريب الاضطهاد الذي تعرض له فوزي إلى "عدم قراءته للمشهد السياسي جيداً، ولا إدراك موازين القوى في اللحظة التالية للثورة"، إذ ظلّ وفيّاً لإيمانه بمشروع محمد نجيب الذي تم إجهاضه في البداية، وحرص على "الدفع بنفسه إلى مقدمة الصورة في كل المشاريع القومية التي قادها محمد نجيب".

وأوضح الكتاب مدعوماً بالوثائق، كيف طارد رجال عبد الناصر أفلام محمد فوزي وعملوا على محاربة إنتاجه، وصولاً إلى "فرض الحراسة على موزع أفلامه الوحيد"، مما كبّده خسائر فادحة لم يتمكن من تعويضها.

وأشار غريب إلى وساطة عديد من الفنانين لعلاج محمد فوزي بعد تردّي حالته الصحية والمادية عقب ملاحقات النظام له لسنوات طويلة، وكان من بينهم تحية كاريوكا التي صرحت بأنها تلقت تهديدات مباشرة من وزير الداخلية حينها شعراوي جمعة، إذا لم تتوقف عن إثارة الحديث ومطالباتها بتدخُّل الدولة لتحمل نفقات علاجه، ولم يصدر القرار إلا بعد تدخل أم كلثوم ووساطتها لعبد الناصر، ولكن بعد أن تمكن المرض والحزن من فوزي، ثم توُفّي بعدها بنحو 11 شهراً.

صورة أرشيفية تجمع بين سعاد حسني وعبدالحليم حافظ (Reuters)
الفنانة الراحلة تحية كاريوكا صاحبة المواقف النضالية والتاريخ السياسي الطويل
الفنانة الراحلة سعاد حسني في لقطة من أحد أفلامها
TRT عربي