تابعنا
تُعتبر "معاداة السامية" التهمة الأبرز التي تُقمَع بها المظاهرات المنتقدة للحرب، وأداة تكميم الأفواه المعارضة لسياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، رغم نسبة المشاركة اليهودية في المظاهرات الداعية إلى وقف إطلاق النار.

أشعلت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ أكثر من سبعة أشهر حركة الاحتجاجات في العالم من مظاهرات واعتصامات، خصوصاً المستمرة منذ منتصف أبريل/نيسان الماضي في الجامعات الأمريكية والتي امتدت إلى عديد من الجامعات حول العالم.

قوبلت احتجاجات الجامعات بحملة عنف من الشرطة الأمريكية واعتقالات واسعة شملت الطلاب وأعضاء من هيئة التدريس، كما اعتدت الشرطة على المتظاهرين باستخدام الرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع.

وفي الأسابيع الثلاثة الأخيرة، بلغت حصيلة اعتقالات الطلاب أكثر من 2000 طالب في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وسط ادعاءات من مصادر حكومية ومنظمات تروّج الصهيونية وإسرائيل، عن ازدياد حملات "معاداة السامية" في حرم الجامعات.

تُعتبر "معاداة السامية" التهمة الأبرز التي تُقمع بها المظاهرات المنتقدة للحرب في غزة، وأداة لتكميم الأفواه المعارضة لسياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، ومنذ بدء الحرب على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، زادت مساحة استخدام هذا الاتهام بشكل ملحوظ، رغم نسبة المشاركة اليهودية في حملات وقف إطلاق النار والمطالبة بحلّ الدولتين ووقف الانتهاكات الإسرائيلية.

وتعني "معاداة السامية" التحيّز ضدّ اليهود أو كراهيتهم، أو التحيّز ضدّهم استناداً إلى أحكام مسبقة، وكان الصحفي الألماني ولهلم مار أول من استخدم مصطلح معاداة السامية عام 1879 كي يحلّ محلّ مصطلح "كراهية اليهود"، في كُتيّب نشره في برلين بعنوان "انتصار الهوية اليهودية على الهوية الألمانية"، وفي العام نفسه أسّس "رابطة معاداة السامية"، ودعا إلى طرد جميع اليهود نحو فلسطين.

إدارة بايدن "تتصدى" لمعاداة السامية

أطلق الرئيس الأمريكي جو بايدن في 7 مايو/أيار دعوة لمحاربة "التصاعد الشرس" لمعاداة السامية، وقال إن "مثل هذه الكراهية ليس لها مكان في أمريكا"، حيث ربط فظائع المحرقة (الهولوكوست) بهجوم حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

وحذّر بايدن من تصاعد "معاداة السامية" في الولايات المتحدة، ولا سيّما في الجامعات، مدّعياً أن عديداً من الطلاب اليهود يتعرضون للمضايقة أو الهجوم في الحرم الجامعي.

وطالب بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي بنشر قوات الحرس الوطني في الجامعات "لحماية الطلاب وأعضاء هيئة التدريس من أصل يهودي"، مما زاد حدّة التوتر والقلق داخل الحرم الجامعي لبعض الجامعات المرموقة في الولايات المتحدة، مثل جامعة نيويورك ونيو سكول وستانفورد وجامعة ييل ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إلى جانب جامعة كولومبيا، وهو ما يرفضه المتظاهرون مؤكدين سلمية احتجاجاتهم وتضامنهم مع الشعب الفلسطيني.

كما أكد الطلاب الذين واصلوا إظهار الدعم للفلسطينيين في حرم جامعة كولومبيا أن الطلاب اليهود يحتجّون معهم أيضاً على جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة، وأن مسألة معاداة السامية غير واردة.

وعلى خلفية هذه الأحداث، صوّت نواب من الحزبين الديمقراطي والجمهوري في مجلس النواب الأمريكي في 3 مايو/أيار الحالي على مشروع قانون يوسّع تعريف معاداة السامية كما اقترحه التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA).

وكي يصبح هذا النصّ تشريعاً سارياً، يتعين على مجلس الشيوخ أن يعتمده، وهو أمر لا يزال غير مؤكَّد، قبل أن يُحال إلى الرئيس بايدن لتوقيعه ونشره.

ويفرض قانون التوعية بمعاداة السامية على مكاتب الحقوق المدنية الحكومية اعتماد تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست لمعاداة السامية، الذي أقرّته مئات الحكومات المحلية والشركات والجامعات.

وتعتبر الجهات الداعمة لهذا القانون أن تطبيع "معاداة السامية" أمر خطير، وأن بعض المصطلحات الداعمة للقضية الفلسطينية مُعادٍ للسامية مثل عبارة "فلسطين حرة من النهر إلى البحر".

وصرّحَت رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق خلال جلسة استماع أمام لجنة التعليم بمجلس النواب الأمريكي بأن "جامعة كولومبيا كانت في البداية غارقة في اندلاع الاحتجاجات في الحرم الجامعي، وقادتها متفقون الآن على أن البعض استخدم لغة معادية للسامية، وبعض العبارات المتنازَع عليها مثل (من النهر إلى البحر) قد يستدعي لزوم الانضباط".

بدورها وقّعَت مجموعة من نحو 700 عضو هيئة تدريس في الجامعات اليهودية رسالة إلى بايدن في 8 مايو/أيار تشجعه على عدم دعم قانون "التوعية بمعاداة السامية" المثير للجدل.

واعترض الأكاديميون على استخدام القانون لتعريف معاداة السامية الذي وضعه التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست، الأمر الذي أثار مخاوف من أن الانتقادات المشروعة لإسرائيل يمكن اعتبارها معادية للسامية بموجب مشروع القانون.

ويرى الباحث في الشأن الإسرائيلي عصمت منصور أن "مصطلح معاداة السامية أصبح مصطلح فضفاض جدّاً وواسع، وصار يطال كل من ينتقد، ليس اليهود والديانة اليهودية فقط أو دور اليهود في التاريخ أو صفات معينة يحاولون إلصاقها باليهود، بل حتى انتقل إلى الجوانب السياسية".

ويقول منصور لـTRT عربي إن المصطلح وسّعه التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA)، وهو تحالف بدأ بثلاث دول والآن يضمّ 35 دولة أوروبية "ديمقراطية"، وهذا الشرط للانضمام إلى هذا المنتدى.

ويضيف أن "التحالف وسّع التعريف وجعله فضفاضاً جدّاً ويطال كل شخص وأصبح تعريفه يُقَرّ من خلال برلمانات الدول الغربية ويصبح ملزماً لهذه الدول على شكل قوانين وقيود. لذلك نرى هذا الاستخدام ضد الطلاب مثل الذين يتظاهرون في ألمانيا ضدّ مَن يرفع علم فلسطين، وضدّ من يهتف (من النهر إلى البحر) كأنه يدعو إلى إبادة إسرائيل في الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة".

معاداة السامية في السياق الشعبي

يعتبر نطاق توجيه الاتهام بـ"معاداة السامية" من الداعمين لإسرائيل والصهيونية واسعاً في الولايات المتحدة، إذ لا معايير واضحة لوصم شخص بأنه "معادٍ للسامية"، كما استخدمته إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي مراراً في الدفاع عن نفسها أمام تقارير المنظمات الحقوقية الدولية التي تُدينها بارتكاب جرائم حرب.

ومن أبرز هذه المرات وصفت حكومة بنيامين نتنياهو منظمة هيومن رايتس ووتش بأنها "معادية للسامية"، عقب تقرير عن استخدام التجويع كسلاح حرب، فضلاً عن اتهام وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير محكمة العدل الدولية بأنها "معادية للسامية"، زاعماً أن قرارها يثبت أنها "لا تسعى إلى العدالة".

في سياق الثقافة الشعبية الأمريكية قدّم عديد من اليهود الصهيونيين الأمريكيين تهمة "معاداة السامية" ضمن إطارات السخرية، ففي إحدى حلقات مسلسل "ساينفلد" الأمريكي الأشهر على الإطلاق تَطرَّق فنان الستاند آب كوميدي الأمريكي اليهودي جيري ساينفلد (أحد المدافعين الشرسين عن إسرائيل) إلى موضوع معاداة السامية ضمن إطار كوميدي تهكمي في إحدى حلقاته التي يتهم عمُّه (الذي يعتقد أن الجميع معادون للسامية) فيها نادلة أحد المقاصف بأنها معادية للسامية، فقط لأنها جلبت له سندويتش برغر كانت قطعة اللحم فيها مستوية أكثر من اللازم.

ويمكن توجيه إسقاط حول هذه الفكاهة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إذ خُلط بين القضية العادلة للفلسطينيين وما يحدث من مجازر في غزة، ومحاولة التعتيم عليها خصوصاً لمنتقديها ضمن الفضاء الواسع لمعاداة السامية.

وفي تقرير لصحيفة نيويورك تايمز بعنوان "الهدف التالي للجمهوريين في مجلس النواب: تقارير عن معاداة السامية في مدارس الروضة حتى الصف الثاني عشر"، تَطرَّق إلى بدء نواب جمهوريين في الكونغرس استجواب قادة المناطق التعليمية الكبرى في نيويورك وبيركلي وكاليفورنيا بزعم "ارتفاع معدلات معاداة السامية"، في إشارة إلى الحراك الطلابي المناصر لفلسطين.

وذكر التقرير أنه "في مدينة نيويورك نشرت مدرسة ابتدائية خريطة للعالم العربي دون تسمية إسرائيل، وتعريف الدولة باسم فلسطين. وفي مقاطعة مونتغومري خارج واشنطن رُسم الصليب المعقوف على مكاتب المدارس، وفي بيركلي قدم عديد من المعلمين دروساً أشارت إلى (الفصل العنصري) الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين".

ويشير إدراج كلمات مثل "الصليب المعقوف" و"الفصل العنصري" في إطار واحد إلى حجم التضليل المستهدف من توسيع تعريف فكرة معاداة السامية، فلطالما انتقدت المنظمات الحقوقية الدولية، أبرزها منظمة العفو الدولية، نظام الفصل العنصري الذي تطبّقه إسرائيل، بكونه انتهاكاً للقانون الدولي العام، وانتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان التي تحظى بالحماية الدولية، وجريمةً ضد الإنسانية بموجب القانون الجنائي الدولي.

ويقول الباحث في الشأن الإسرائيلي عصمت منصور إن حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) والحركات المناهضة للاحتلال والداعية لمقاطعة إسرائيل والمستوطنات جميعها تُتَّهَم بمعاداة السامية.

ويردف: "نحن نشهد منذ عام 2016 منذ تبنّي هذا التعريف والتنامي وتصاعد قوة اليمين في إسرائيل وفي العالم والعداء للإسلام والعداء للأجانب والالتفاف حول إسرائيل أنه بدأ فعلاً هذا يشكّل قيداً على العالم وعلى حرية البحث والنقد والتظاهر ومواجهة إسرائيل وسياستها العنصرية واحتلالها".

ووصف جيوفاني فاسينا مدير مركز الدعم القانوني الأوروبي في مداخلة له عبر مؤسسة كارنيغي للسلام، معاداة السامية بأنها آفة يجب مكافحتها بالأدوات المناسبة، كما أن تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست لمعاداة السامية لا يوفّر مثل هذه الأداة.

ويتابع: "أكد ذلك مئات الأكاديميين، بمن في ذلك العلماء اليهود المتخصصون في دراسات المحرقة ومعاداة السامية والتاريخ اليهودي والمجالات ذات الصلة، بالإضافة إلى مئات منظمات المجتمع المدني، بما في ذلك منظمات حقوق الإنسان مثل منظمة العفو الدولية، ويُظهِر بحثنا أن التعريف يهدف في الغالب إلى قمع المدافعين عن حقوق الفلسطينيين من أجل إسكات الانتقادات الموجهة إلى السياسات والممارسات الإسرائيلية".

TRT عربي