ثائرٌ أم ناشر فتنة... من هو المغربي "أبو حمارة"؟ (Others)
تابعنا

ادعى أنه ولي صالح بعثه الله مؤيداً بكرامات، وقال إنه أمير قرشي من نسل علوي، ربط أحلاف وثيقة مع الاستعمارين الفرنسي والإسباني، وقدم نفسه على أنه مقاوم من أجل استقلال البلاد. هو الجيلالي بن عبد السلام، المكنى "بوحمارة"، الذي تمرد على السلطة المغربية بفاس أواخر القرن 19م وسعى إلى تأسيس دولة بدلاً من دولتها.

فيما ما زالت هذه الشخصية الفذة من تاريخ مغرب ما قبل الاستعمار تحاط بهالة واسعة من الغرائبية، حيث تختلط فيها الأسطورة بوقائع الحقيقة، وتثار حولها الأسئلة بالنظر إلى المتناقضات التي اكتنفتها. كما ينقسم الباحثون في تصنيفها؛ بين ثائر رافض للجبر، أو فتان مغامر طامع في السلطة.

من يكون بوحمارة؟

كما يبرز من اسمه الكامل، الجيلالي بن عبد السلام بن إدريس اليوسفي الزرهوني، يعود نسب بوحمارة إلى قبائل زرهون وسط المغرب، ذات النسب العربي القرشي، الذي يمتد إلى المولى إدريس الأول مؤسس الدولة الإدريسية.

وُلد بقرية زرهون في ستينيات القرن 19م، وفيها تلقى تعليمه الأول، قبل أن ينتقل إلى العاصمة فاس ليكمل طلبه العلم في جامعة القرويين العتيقة. وهناك درس العلوم الأصيلة، الفقه واللغة والفَلَك، مما أتاح له الالتحاق بالمدارس العسكرية التي أُنشئت في عهد السلطان الحسن الأول.

بعد إتمام تعليمه، تخرج بوحمارة في المدرسة العسكرية ضابطاً مهندساً، وإثرها شغل وظيفة كاتب في ديوان الخليفة السلطاني عمر بن الحسن، الإبن الثاني للسلطان الحسن الأول. وكانت للخليفة أيضاً مطامع في الحكم، وبعد وفاة أبيه قاد الخليفة تحركاً لإزاحة أخيه الأصغر عبد العزيز عن العرش، لكنه فشل في آخر الأمر.

وجد الجيلالي بوحمارة نفسه وقتها واقعاً وسط هذا التطاحن بين الإخوان الثلاثة على السلطان، ولما كسرت شوكة من كان رب عمله، سجن هو الآخر مع من سجنوا من حاشيته. قضى هناك في سجن السلطان ثلاثة أعوام، و بعد الإفراج عنه رحل شرقاً نحو الجزائر، حاملاً معه درايته بخبايا السلطة الداخلية للبلاد وخاتماً سلطانياً سرقه من سيده السابق. ووضع نصب أعينه حشد الناس حوله، وتعاظم طموحه في تأسيس دولة خاصة به.

مع وصوله للجزائر نهاية القرن 19م، أخذ يجول بين زواياها وأضرحتها، يتتلمذ على يد مشايخ الطرق ويتشرب أصول الطريقة الشاذلية. إلى أن اشتق لنفسه منها تصوفه الخاص، الذي أسماه "الطريقة النورانية". وتقوم هذه الطريق على ركائز أهمها: طاعة الشيخ لمريده طاعةً تامةً، وأن الولاية للإمام المتحلي بالخوارق والكرامات، كما ضرورة أن يكون الإمام قرشيّاً يقيم الحق بين أهل الإسلام وينجدهم من ضياعهم.

ثورة بوحمارة

بعد أن التف بعض الناس حوله، عاد بوحمارة إلى شرق المغرب لينجز خطته في بسط ملكه على البلاد. فقام أولاً بجمع قبائل المنطقة عليه، مستعيناً بما تعلمه من شعوذة وخدع ليوهمهم بأنه الولي الصالح المؤيد من الله بالخوارق والمعجزات. لدرجة وصفه العلامة المختار السوسي، في كتاب المعسول، قائلاً: "لِما له (بوحمارة) من سحر وعلم بالأسماء، خرج من الدار بين الناس ولم يظهر للعيون".

سياسياً أسس بوحمارة دعوته على ركيزتين أساسيتين؛ الأولى، أن يهاجم السلطان الصغير باعتباره غِرّاً ليست له مقدرة على حكم البلاد، وأن حاكمها الفعلي هو صدره الأعظم المتواطئ مع "الاحتلال النصراني". والثانية، أن يقيِّم موقف العداء للمستعمر العازم على سلب البلاد وإذلال العباد.

سنة 1901، قرر بوحمارة انطلاق تحركه العسكري للاستيلاء على عرش المغرب. وتحرك مع جيوشه غرباً نحو مدينة تازة، التي احتلها في السنة نفسها. هناك حول حركته إلى مملكة وسمى المدينة عاصمة لها، وشرع في تنظيم الجيش ومؤسسات الدولة، ومد حدوده من وجدة شرقاً إلى قصبة سلوان شمالاً إلى تخوم فاس في الغرب.

وفي الفترة ما بين 1902 و1907، شهدت هذه المرحلة انتصارات كاسحة لبوحمارة، ضمنها هجمتان قادهما السلطان عبد العزيز لدخول تازة انكسرتا على جدرانها. خلال ذلك قرر الجيلالي توجيه جيوشه نحو الشرق من أجل تأكيد سيطرته على تلك الأراضي، مخلفاً صدامات دموية بينه وبين القبائل الموالية لفاس.

وفي سنة 1904، وقع انشقاق في حكومة بوحمارة أحدث شرخاً كبيراً في مسيرته. إذ تخلى عنه وزير حربه ولحق بالسلطان في فاس. ما دفع هذا الأخير إلى تكرار محاولة اجتياح أراضي الجيلالي، وهناك سيرتكب جيشه أفظع الجرائم، من سلب ونهب وهتك للأعراض، ما سيثير امتعاض المغاربة على السلطان، وستتخلى قبائل المنطقة عن مساندته بصفة نهائية.

إثر هذا الواقع لم يجد السلطان عبد العزيز بداً من التحالف مع الفرنسيين لدحر بوحمارة. وبالتالي وجد هذا الأخير نفسه واقعاً في كماشة، بين الجيش الفرنسي المتقدم من الشرق، وجيش السلطان الضاغط من الغرب. فخسر وقتها مجموعة مواقع كانت تواليه، مثل الزاوية البودشيشية، التي تخلى عنه شيخها بعد أن وقع تحت تهديد الفرنسيين.

وانتهت هذه المرحلة بسقوط وجدة محتلةً في يد الفرنسيين، تمهيداً لاحتلال المغرب كله، في إطار معاهدة الجزيرة الخضراء بوساطة أمريكية. وبحضور 12 دولة أوروبية، قُسِّم المغرب إلى مناطق نفوذ استعماري.

نهاية بين فكي أسد

خرج المغاربة مطالبين بعزل السلطان عبد العزيز لتحالفه مع الفرنسيين، ووقع ذلك سنة 1908بفتوى من فقهاء القرويين. وحل محله السلطان عبد الحفيظ، الذي قاد حملة لاسترجاع الأراضي من قبضة أخيه، وركب على رأس جيش من قبائل مراكش والحوز متوجهاً شمالاً نحو فاس.

ظن بوحمارة أن ما يُحاك حوله يستهدفه، فعمد هو الآخر إلى التحالف مع الاستعمار، فمنح الفرنسيين حق استغلال مناجم منطقة الريف الأوسط، وعهد إلى الإسبان بمنجم الحديد في جبل ويكسان شمال البلاد. لكن هذا أشعل ضده انتفاضة الريف الأولى بقيادة الثائر محمد أمزيان، الذي طرد بوحمارة والإسبان من المنطقة.

قرر وقتها بوحمارة أن يطلق محاولة أخيرة للاستيلاء على فاس، فعاد إلى تازة ومنها تحرك مع جيشه نحو العاصمة. لكن لسوء حظه صادف جيوش السلطان عبد الحفيظ المنتصرة على أخيه تدخل المدينة، فانهالت على جيش بوحمارة مدافعهم ففككت خطوطه وكانت هزيمته على أيديهم.

واعتقل بوحمارة مع 400 من موظفيه، 400 من جنده وموظفيه واقتيدوا إلى فاس، لكن 160منهم فقط وصلوها أحياء، وهناك أُعدموا كلهم. وأعدم بوحمارة هو الآخر في 2 سبتمبر/أيلول 1909، وأطعمت جثته لأسود البلاط.

TRT عربي
الأكثر تداولاً