تابعنا
على الرغم من أن مدوني التاريخ قد أغفل بعضهم، إما سهواً وإما قصداً، الحديث عن بطولاتهم، فإن الملاحم التي خاضها المقاومون المسلحون في تونس "الفلاقة" ضد الاستعمار الفرنسي لا تزال حاضرة في أذهان الكثير من التونسيين إلى اليوم.

حين قدمت قوات الاحتلال الفرنسي إلى تونس، تجندت كل مكونات المجتمع التونسي لمقاومة المستعمر ومحاولة دحره من البلاد بكل ما أمكنهم. ورغم أن القوى كانت في الغالب غير متكافئة بين الجانبين، فإن ذلك لم يثن التونسيين عن مواصلة الاستماتة لتخليص البلاد من أسوأ حقبة تاريخية مظلمة مرت بها.

فعلى مدار 75 عاماً ارتكب الاستعمار الفرنسي الكثير من الفظائع الإنسانية في البلاد التونسية، حيث ارتكب عديد المجازر والمذابح وخلف الكثير من الدمار وأنهك الاقتصاد ونهب الثروات.

وإن كانت المصادر التاريخية قد دونت مخلفات الاستعمار الفرنسي، وحاكت شتى أنواع المقاومة التي خاضها التونسيون لنيل استقلالهم، فإنها في الوقت ذاته قصرت في توثيق بطولات شريحة هامة، كانت لها مساهمة كبيرة في مقاومة المحتل وإلحاق الهزيمة به في الكثير من الميادين، وهي " الفلاقة" كما يشاء التونسيون تسميتها.

من "الفلاقة"؟

تعود جذور مصطلح "الفلاّقة" إلى ثمانينيات القرن التاسع عشر، ويشار بها إلى حملة السلاح الذين قاوموا قوات الاحتلال الفرنسي في تونس.

فبعد أن سقطت تونس فريسة للأطماع الفرنسية عام 1881، اشتعل فتيل المقاومة بين صفوف أبنائها وتضافرت حينها كل الجهود السياسية والنقابية والعسكرية لمقاومة المحتل. وكان أبناء جبال خمير الواقعة شمال غربي البلاد، أول من فجر الثورة المسلحة في ذلك الوقت، ضد قوات الاستعمار الفرنسي، والتي امتد لهيبها إلى أغلب قبائل ومغاور وصحاري جنوب البلاد.

ولكن قلة عدد المقاتلين مقابل الأعداد الكبيرة للجيش الفرنسي، إضافة إلى البنادق العتيقة التي كانت بحوزتهم مقابل مدافع ورشاشات الاحتلال، كانت سبباً رئيسياً في إخماد شرارة الثورة التونسية الأولى التي لم تجد الدعم المادي الكافي من المدينة، حين كثف الاحتلال الفرنسي غاراته وقصفه على معاقل "الفلاقة"، وأقام المقاصل في الساحات لإعدام قادتها ورموزها أمام الجماهير المحتشدة، كوعيد لأي شخص يعتزم رفع السلاح في وجهه.

ومنذ ذلك الوقت، أي بعد عام 1885، تراجع النضال العسكري في تونس الذي كان قد بلغ ذروته، واقتصر على بعض مدن الجنوب التونسي. فيما ارتأت فئة كبيرة من التونسيين ضرورة التوجه إلى الحل السياسي والسلمي، للتخلص من الاستعمار ونيل الاستقلال، وذلك عبر تفعيل دور الأحزاب السياسية والصحافة والنقابات.

ومع بداية عشرينيات القرن الماضي، أي بعد عقدين من الزمن، ضخت الدماء من جديد في صفوف المقاومة المسلحة في تونس، وبدأت "الفلاقة" من جديد في رص صفوفها. وشنت العديد من الهجمات على المقرات العسكرية الفرنسية وجردتها من الأسلحة والذخائر.

وتوالت الصولات والجولات بينهما عدة سنوات، سطرت بطولات مهدت الطريق بشكل كبير لنيل البلاد استقلالها بعد ذلك.

ويبدو أن ثوار "الفلاقة" قد تمكنوا في هذه المرة من أن يحظوا بدعم كبير وحاضنة شعبية وفرت لهم المخابئ والمؤن وهربت إليهم السلاح القادم من الدول الجارة الداعمة لثورتهم المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي، عبر الدواب والإبل.

وتشير شهادة أحد المقاومين المقاتلين سابقاً في صفوف الفلاقة الذي لا يزال إلى اليوم على قيد الحياة، إلى أنه خلال إحدى المعارك تمكنوا رغم عددهم القليل جداً حينها، من قتل 130 جندياً فرنسياً، ونجحوا في إسقاط طائرة تحمل 4 جنرالات.

وكشفت بعض المصادر التاريخية، والشهادات الحية، أن القوات العسكرية الفرنسية قد منيت بالعديد من الهزائم الموجعة في مناطق متفرقة من البلاد، باستخدام عدد صغير من الرصاص الذي كان بحوزة مقاتلي الفلاقة.

رموز وقيادات تاريخية

يتغنى التراث الشعبي التونسي إلى اليوم بأسماء العديد من رموز وقادة الفلاقة التي سطرت ملاحم تاريخية لا يمكن أن تمحى من ذاكرة التونسيين، رغم أن التاريخ ظلمهم إلى حد ما، بعدم إعطائهم حقهم من التوثيق والإشادة، كما يرى ذلك ناشطون ومؤرخون

ولعل من بين أهم هذه الأسماء:

محمد الدغباجي:

وهو أصيل مدينة الحامة الواقعة في الجنوب التونسي، قبل بالتجنيد في المعسكر الفرنسي بداية حياته بسبب الحاجة، إلا أنه سرعان ما فر بعد ذلك من المعسكر والتحق بصفوف المقاومة المسلحة "الفلاقة" وأشعل العديد من المعارك في جنوب البلاد، التي جعلت المستعمر يطارده في كل مكان ويطالب برأسه، حتى وقع إعدامه عام 1920 في الساحة العامة.

مصباح الجربوع:

تردد اسم الفلاق أو المقاوم مصباح الجربوع وهو ابن الجنوب الشرقي التونسي، كواحد من أشرس قادة المقاتلين، وذلك وفق الشهادات الحية لمن عايشوا فترته. وقد أكسبه انتماؤه النقابي إلى الاتحاد العام التونسي للشغل وانتماؤه السياسي إلى الحزب الدستوري الجديد الكثير من الحكمة والخبرة التي جعلته يقود الكثير من المعارك الناجحة ضد قوات الاحتلال، إلى أن توفي عام 1958برشاشات الطائرات الفرنسية.

الأزهر الشرايطي:

يلقبه الكثير من التونسيين بأسد مدينة قفصة الواقعة في جنوب غربي البلاد، وقد تأثر الشرايطي في حياته بمعاناة وآلام عمال مناجم الفوسفات التي تزخر بها مدينته، والظلم والعنصرية التي كانوا يتعرضون لها باستمرار. فقرر الالتحاق بالمقاومة لاسترداد حقوقهم من المستعمر الفرنسي، ونجح في تكوين أول خلية مسلحة في البلاد التونسية ذاع صيتها ولمع نجمه حينها كثائر وبطل عربي، امتدت مقاومته إلى المشاركة في حرب فلسطين وقدم له حينها الرئيس المصري جمال عبد الناصر وسام شرف.

وفي ذلك تطول القائمة وتقصر، للكثير من المقاومين في صفوف الفلاقة الذين يتناقل التونسيون قصصهم وبطولاتهم إلى اليوم.

TRT عربي