قاسم أمين والرافعي (TRT Arabi)
تابعنا

شهدت مصر أواخر القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين موجة فكرية، تتمحور كتاباتها ونقاشاتها حول إمكانية المرأة المصرية في العيش ومكانتها داخل الحياة الأسرية والثقافية والسياسية. تلك الموجة كانت بداية نسويّة ناعمة غير صدامية بقدر كبير مع موروثات ثقافية أو دينية سائدة، رائداتها من النساء هنّ نبويّة موسى، وملك حفني ناصف، وهدى الشعراوي، ومن بعدهنّ درية شفيق ولطيفة الزيّات وغيرهنّ.

استلهم هؤلاء بعض كتاباتهنّ من كتاباتٍ سابقة للقانونيّ والأديب المصريّ قاسم أمين (1863-1908) والذي اشتُهر بأنّه أوّل من نادى بتحرير المرأة، في كتابيّه تحرير المرأة والمرأة الجديدة. تصاعد أيضًا في تلك الفترة وما تلاها أدبٌ وفكرٌ عذب من اللغة ومحافظ من حيث التقليد تبنّاه من أُطلق عليه معجزة الأدب العربي مصطفى صادق الرافعي (1880-1937). أُلّفت معظم كتابات الرافعي كالإسلام انطلاق لا جمود، وكتابي السّحاب الأحمر ووحي القلم، عن المرأة ودورها في طرحٍ يحاول استعادة مكانة المرأة من وجهة نظر إسلامية خالصة.

وبالرغم من النّظرة الإسلامية المحافظة للمرأة عند الرافعي، لكنّ تلك النظرة تقاربت واختلفت من زوايا عدّة لقاسم أمين الذي وُصِفَ ببعضٍ من المبالغة بالتغريب والدعوة إلى العُريّ وغير ذلك. في هذا المقال أحاول تشبيك ما اتفق واختلف عليه الاثنان في أُطروحاتهما حول فطرة المرأة وتحريرها وحريّتها ومكانتها في الحياة الخاصة والعامة عبر ذكر النصوص الكلاسيكية التي قدّما بها طرحهما.

فطرة المرأة عند أمين والرافعي

"أخطأ قاسم في إغفال عمل الزمن من حسابه، وهاجم الدّين بالعُرف، وكان من أفحش غلطه ظنّه العرف مقصوراً على زمنه، وكأنّه لم يدرِ أنّ الفرق بين الدّين وبين العُرف هو أنّ هذا الأخير دائم الاضطراب، فهو دائم التغيّر، فهو لا يصلح أبداً قاعدةً للفضيلة"، يقول الرافعي في مقالة بعنوان "فلسفة الطائشة" مجلة الرسالة العدد 106/1936.

لم يفرّق أمين بين الرجل والمرأة مِن حيث الفطرة إلّا في المهام البيولوجية لاختلافهما الفطري فقط. حيث يصف في كتابه "تحرير المرأة" وهو الكتاب الذي وصفه القرّاء بـ"المعتدل" في الفصل المُعنون بـ"تربية المرأة" قائلاً: "المرأة وما أدراك ما المرأة، إنسان مثل الرجل، لا تختلف عنه في الأعضاء ووظائفها، ولا في الإحساس، ولا في الفكر، ولا في كل ما تقتضيه حقيقة الإنسان من حيث هو إنسان، اللهم إلَّا بقدر ما يستدعيه اختلافهُما في الصنف".

أي بقصدِه أنّها لا تختلف عن الرجل إلا في الصّنف الفطري، غير ذلك برهن تفوّق الرجل في القوة الفكرية والبدنية عن المرأة لأنه اشتغل بالعمل والفكر أجيالاً طويلة كانت المرأة فيها محرومة من استعمال القوّتين، بل مقهورة على لزوم حالة من الانحطاط تختلف في الشدّة والضعف على حسب الأوقات والأماكن.

أما الرافعي عندما ذكر المرأةَ وفطرتها في كتابه "الإسلام انطلاق لا جمود"، اختلف مع القاسم في الوصف والمفهوم فبدأ الحديث كاتباً "لدى المرأة من الإمكانيات الطبيعية ما يندر توفره عند الرجل، فإذا اختص هو بخصلةِ العنف فقد اختصت هي بخصلةِ العطف، وإذا كان واجبه الكسب فَطبيعتها الإرضاع، وإذا اعتزّ وتباهى بأنّه والدٌ فإنها هي الوالدة وإذا صعّر خدّه وشمخ بأنفه بأنه أب، فيكفيها فخرا أنها أم، وإذا امتاز بالقوة العضلية فقد امتازت بالقوة النفسية".

يشدّدّ الرافعي هنا على أنّ المرأة لها فطرتها الخاصة التي وهبها الله اختلافها عن الرجل، فكلٌّ منهما له خصائصه الفطرية مثل الإرضاع والحمل والولادة وغيرها، ولكن في شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية.

تحرير أم حريّة المرأة

يختلف كلٌّ مِن قاسم أمين الدّاعي إلى تحرير المرأة عن الرافعي الذي نادى بحريّتها أيضاً، في المرجعيّة التي تؤسس للنموذج الإدراكي لكلٍّ منهما، والتي تنتمي إلى وجهتين تلتقيان أحياناً وتختلفان أحياناً أخرى.

فالأول عائد من فرنسا، ويحمل نموذجاً إدراكياً يُمازج فيه بين القِيم الإسلامية وقيم الحداثة الغربية، غير أنّ هذا التمازج لم يدم طويلاً، فما لبث أن اصطدم ببعض القِيم الإسلامية في تحيّزٍ واضح لما تُمليه القيّم الحداثية. أمّا الرافعي فقد كان يحمل رؤية إصلاحية إسلامية، مَهّد من خلالها لنسويّة إسلامية معتدلة تراعي الفطرة والواقع.

يظهر هذا الاختلاف جلياً في حديث كلٍّ منهما عن إشكاليات ذات صلة مباشرة بالمرأة كَالاختلاط والحجاب، فيرى أمين أنّ الحجاب يُفقد المرأة إنسانيتها ويحط من مكانتها إلى منزلة الرِقّ والعبيد، فيقول: "إنّ المرأة التي تُلزَم بستر أطرافها والأعضاء الظاهرة من بدنها، بحيث لا تتمكن من المشي ولا الركوب، بل لا تتنفس ولا تنظر ولا تتكلم إلا بمشقّة، تعد أَمَة، لأنّ تكليفها بالاندراج في قطعة من قماش إنما يُقصد منه أن تُمسخ هيئتُها وتفقد الشّكل الإنساني الطبيعي في نظر كل رجل ما عدا سيّدها ومولاها".

أمّا في مسألة تعدد الزوجات للزوج الواحد، فرأى ابن التركي "محمد قاسم" أنه من العادات القديمة المألوفة عند ظهور الإسلام يوم أن كانت المرأة والحيوان في مكانة متشابهة على حد قوله "وبديهي أنّ في تعدد الزوجات احتقاراً شديداً للمرأة، لأنك لا تجد امرأة ترضى أن تشاركها في زوجها امرأة أخرى، كما أنّك لا تجد رجلاً يقبل أن يشاركه غيره في محبَّة امرأته، وهذا النوع مِن حبّ الاختصاص طبيعي للمرأة كما أنه طبيعي للرجل".

فكان معارضاً لمسألة التعدُد، حيث كان ينفر من المشبهين الزوج بالديك في تعدُد عشرات الدجاجات حوله في معاشرته، في مقارنة لا تليق بالصفة الإنسانية والحيوانية أن يجتمعا معاً في تشبيه فاسد غير إنساني كما وصَف.

أما الإشكالية عند الرافعي، فقد تناولها من رؤية إسلامية خالصة، مُقارناً بين حال المرأة قبل الإسلام وبعده، معتبراً أنّ بعد الإسلام فيه إكراماً للمرأة، وحدّاً لتقاليد جاهلية جعلت منها سلعة تباع وتشترى، فكان يتزوّجها عدة رجال في آن واحد، بما كان يعرف بزواج "الرهط"، أو زواج "الاستبضاع" وهو أن يدفع الرجل بزوجته إلى أميرٍ أو عظيمٍ لتلد له ولداً بصفات هذا الأمير، أو يستبدل الرجل حليلته بحليلة الآخر، فضلاً عن نكاح السِّفاح والزّنا اللذين حرّمهما الإسلام. ليمنح المرأة حقّ الكرامة والاختيار لشريك حياتها، فإن سعدت في حياتها أكملت زواجها وإلا طلبت طلاقها من الرجل وهذا حقها الذي كفله لها الإسلام بشكل نصيٍّ صريح، فضلاً عن وجوب العدل عند الزوج وبين زوجاته في حال التعدد وإلّا قد ذاب النص الآمر بذلك وسط الموروثات العقيمة.

المرأة وتقدّم الأمم

إلى حدٍ كبير اتفق الاثنان على أنّ المرأة كانت وما زالت وستستمر عاملاً أساسياً وجزءاً رئيسياً في تقدّم أحوال الأمم، إلّا أنّ الاختلاف كَمُن أيضاً في "الباراديم" التأسيسي لكلٍ منهما، فكان أمين يعوّل على التقليد والالتحاق بالنموذج الغربي في التعامل مع المرأة، عكس الرافعي الذي طالما حاول تفنيد مكانة المرأة في التراث الإسلامي.

حيث ربط أمين بين المرأة وتقدّم الأمم وثاقاً واضحاً لا غشاوة عليه فقال إنّ الأمم المتقدمة في التجارة والصناعة والفنون والعلوم، وإن كانت كل واحدة منها على حدتها، لا يظهر أثرها للناظر في أحوال الأمة ولكن لجميعها مجموع واحد يظهر أثره في أحوالها تمام الظهور، وهي رأس مال عظيم نحن مقصّرون في العناية والانتفاع به، فكانت رؤيته تبرهن أنّ سبب انحطاط مكانة المرأة هو تسلط المجتمع عليها، وتأخّر الأمة العربية مقارنة بالأمة الغربية يرجع إلى تهميش حقّ المرأة.

أما الحلّ عند الرافعي هو استرجاع الحضارة الإسلامية وليس محاكاة الحضارة الغربية كما رأى دارس الحقوقِ، وأنّ المكانة الاجتماعية والسياسية للمرأة في الإسلام مرموقة، فيذكر المجادل امراة بغداد "شغب" التي عُرفت بأمّ المقتدر والتي وصفها قائلاً "بإشارة من بنانها المخضّب أو رنوة من طرفها الكحيل ينعزل والٍ مِن الولاة، ويُنصّب قاضٍ مِن القضاة ويقوم قائم بغداد ويقعد قاعدها إذا رغبت السيدة". وهي كانت رئيسة محكمة بغداد وكانت أمّ المقتدر الخليفة الرضيع حينذاك التي وصلت الدولة في أشد حالات ضعفها في ملكه. ولكنّ أمّه كانت امرأةً قوية تقود وتحكم.

وفي مجالس العلم والتعلّم حثّ الإسلام بقلم الرافعي المرأةَ على الوجود وتعلّم كافة العلوم الشرعية منها والعلمية، فطلب العلم في الإسلام فريضة على كل مسلم ومسلمة. وضرب الرافعي أمثالهُ في عائشة زوجة النبيّ وأمّ المؤمنين والمؤمنات وزبيدة زوجة الرشيد وسُكينة بنت الحسين وشَهدة فخر النساء وقطر الندى وغيرهن من النساء اللواتي برزن في الشعر والأدب ومجالس العالم والفقه واللغة والخطابة والقيادة.

فيدافع الرافعي عن الإسلام مبرهناً أنّه ما قيّد المرأة يوماً ما ولكن كان منقِذاً لها، فكتب عن علاقة المرأة بالوحي والرسالة قائلاً "فإذا بمحمدِ بن عبد الله تُرسله القدرة إلى هذا العالم المضطرب لِيَحُدَّ من طغيانه ويخفف من غليانهِ وهيجانه، فقرر للمرأة على الفور كامل إنسانيتها وحريتها وسَاواها بالرجل في النّفس والجاه والكرامة".

في مصر، أثناء تلك الفترة وإلى وقتنا هذا أخذت المرأة المصرية مكانة سجالية وسط مناقشات وفلسفات كثيرة، تغيّرت وانتقلت، بل وتوسّعت حقوق المرأة، تكاد تكون المطالب القديمة التي نادى بها قاسم أمين ودرية شفيق ونبوية موسى وهدى الشعراوي وملك حفنى ناصف وغيرهم تركّز أكثر على المطالب الجمعانيّة للمرأة كونها كياناً اجتماعياً يجب عليه المشاركة في مناحي الحياة كافة، بل ويتوجّب على الدولة والمجتمع إعطاؤها حقّها في التعليم والعمل وغير ذلك، أمّا الآن فقد نالت المطالب الأكثر فردانية قدراً أكبر من الاهتمام مثل الحقّ في الجسد وماهيّته وشكله وكيف يكون وغير ذلك.

TRT عربي