تابعنا
يقول الباحث الأنثروبولوجي المختص بالشأن الإفريقي خليل منون لـTRT عربي: "كان لدخول الاستعمار الواسع لكل أفريقيا، ربما باستثناء إثيوبيا وليبيريا، بالغ الأثر في العمارة داخل القارة. وهذا شيء جوهري في طبيعة الاستعمار.

في مراحل الاستعمار التي عصفت بقارة إفريقيا بين القرنين التاسع عشر والعشرين، حاول المستعمر الأوربي طمس هوية هذه الشعوب، ليس فقط من خلال اللغة أو الدين أو الفن، وإنما أيضاً بتحويل الشكل المعماري والتخطيطي للمدينة، اللذيْن هما امتداد للطبيعة الجغرافية والثقافية للبلد.

يقول الباحث الأنثروبولوجي المختص بالشأن الإفريقي خليل منون لـTRT عربي: "كان لدخول الاستعمار الواسع لكل أفريقيا، ربما باستثناء إثيوبيا وليبيريا، بالغ الأثر في العمارة داخل القارة. وهذا شيء جوهري في طبيعة الاستعمار، فهو يغير النمط العمراني والحضري بما يتناسب مع مشروعه ومصالحه، فكان لا بد من إنشاء عمارة تناسب المستوطنين الغربيين ونمطهم الثقافي".

ويضيف منون أنه في البداية "كانت عمارة الأبنية ممزوجة بالعمارة المحلية ليألفها الأفارقة وتحد من حجم المفارقة المعمارية والثقافية لدى المواطن، ثم بدأ التوسع تدريجياً. وتعد مباني المواني البحرية أو البرية والتي تخدم المشروع الاستعماري الغربي والاقتصادي واحدة من أهم مظاهر دخول العمارة الغربية للقارة الأفريقية".

اتسمت البيوت في الصحراء الكبرى ووسط القارة السمراء بشكلها المستدير المسقوف بجذوع الشجر. ولسعي الاستعمار لطمس الهوية المعمارية، تحولت تلك البيوت في العقود الأخيرة إلى صورة ترمز للفقر يتنصل منها الأفارقة وبالتالي أهملها الحرفيون المهرة متوجهين إلى أعمال أخرى. بجانب ذلك أدت فترات الاستعمار إلى إعاقة تطوير المعمار الأإريقي سواء في الشمال الصحراوي الجاف أو الجنوب الغني بالألوان والموارد البيئية.

عُززت العمارة الإفريقية مع دخول الإسلام، ولأكثر من ألف عام وبدءاً من القاهرة إلى الرباط هبوطاً إلى مالي وكينيا، اهتمت الحضارة الإسلامية ببناء المدارس والأسواق وسبل الماء بجانب المساجد وملحقاتها.

اتسمت البيوت في الصحراء الكبرى ووسط القارة السمراء بشكلها المستدير المسقوف بجذوع الشجر (Others)

ففي أعماق القارة بُنيت مساجد وبيوت بأسقف مستوية ذات طابقين أو أكثر مطعمة بالزجاج الملون، باستخدام الطوب اللبن المجفف بالشمس أو الحجر.

وبحلول القرن السادس عشر انتشر هذا النموذج حتى شمال نيجيريا، ولا يزال بالإمكان العثور على أمثلة لهذه البيوت في كانو وسوكوتو ومدن نيجيرية أخرى، وغرب السودان وكومبي عاصمة مملكة غانا التي تعرف الآن بمالي ومدن غرب أفريقيا.

أما في شرق إفريقيا، في دار السلام ومومباسا وعلى طول سواحل تنزانيا وكينيا كانت البيوت والمساجد مبنية من الحجر المرجاني ولها أسقف من أعمدة أشجار المنجروف. ولكن في أواخر القرن الرابع عشر، نُهب البرتغاليون هذه المدن وحرقوها، فقط ميناء جزيرة لامو في كينيا حافظ على طابع المدينة السواحيلية.

ويؤكّد منون لـTRT عربي أن "مبحث العمارة في أفريقيا أحد مباحث ما بعد الاستعمار شديدة التعقيد والتشابك، لتنوع التجربة المعمارية نفسها داخل إفريقيا، وفي القلب منها الحقبة الاستعمارية ونمطها المعماري والحضري ".

ويوضّح: " في غرب إفريقيا، دولة ليبيريا مثلاً لم تكن محتلة، ولكن دخلها فن العمارة الغربية مع هجرات العودة للمحررين الأفارقة بالولايات المتحدة الأمريكية، محملين بالثقافة الأمريكية والأوروبية، مما نقل معهم نمط العمارة الغربية إلى دولة ليبيريا".

الاستعمار الفرنسي وعمارة "الثورة المضادة"

مع الاستعمار الفرنسي اعتُبرت الجزائر أراضي فرنسية ومنطقة عسكرية تدار من العاصمة باريس، ولهذا جرى تفتيت الشعب الجزائري ليتمكن المستعمِر من بسط سيطرته وعرقلة النضال. في كتابها "عمارة الثورة المضادة..الجيش الفرنسي في الشمال الجزائري" تقول المعمارية سامية هني أن الاستعمار الفرنسي أعاد تنظيم الأراضي الجزائرية، فبالإضافة إلى الدمار الذي خلفته الحرب سن النظام الاستعماري عدداً من القوانين والأوامر لإخلاء مناطق معينة وبناء مستوطنات جديدة تسمح له بالسيطرة على الشعب الجزائري وحماية السكان الأوربيين الذين يعيشون في الجزائر.

ورُحل المدنيون قسرياً إلى المستوطنات في الريف والحضر بهدف عزل السكان عن مقاتلي جبهة التحرير، وكان مشروع قسنطينة ضمن خطة شارل ديجول لمواجهة جبهة التحرير إذ أعلن ديغول أن المشروع يهدف إلى تسكين مليون شخص في 200 ألف وحدة سكنية.

وكان من العوامل المهمة في تمكُّن المستعمِر من طمس الهوية المعمارية في إفريقيا، اعتماد الأفارقة على الخامات المحيطة بهم في عمارتهم، وهي تتكون غالباً من مواد سهلة الإزالة والهدم، مثل الأخشاب والخيزران والنخيل. فوفق المصدر، كان الفرنسيون على دراية بأن الثوار يعيشون داخل الأحياء القصديرية في الوسط الحضري، فأزالوها واستحدثوا أحياء مؤقتة وفئات جديدة من السكن شبه الحضري فلم يكن ريفياً ولا حضرياً.

نموذج من البيوت الإفريقية (Others)

عام 1907 أدى القصف الفرنسي للدار البيضاء إلى تدمير كثير من معالم المدينة، التي كان بُنيَ فيها ميناء جديد قبلها بعام واحد. كانت المدينة قبل القصف تتألف من المدينة القديمة، وحي الملاح اليهودي، ومنطقة "التناكر". ولكن الاستعمار الفرنسي حرص على تغيير هذه الهيئة، فأنشأ برج الساعة، وهو مثال مبكر لأسلوب فرنسي يسمى الموريسكي الجديد، حسبما توضح الباحثة المعمارية الجزائرية سهيلة مظهر، لم يلبث أن طغى على عمارة الدار البيضاء في الفترة الاستعمارية المبكرة، ولا سيّما المباني المدنية والإدارية.

وإمعاناً في طمس معالم المدينة، وبموجب الحماية الفرنسية على المغرب عام 1912، كلّف الجنرال المقيم هوبير ليوطي مهندسه هنري بروست تخطيطاً حضرياً جديد للمدينة، فجعل فيها مدينة قديمة يعيش فيها المغاربة، ومدينة جديدة للأوروبيين. صمّم المهندسون المعماريون مثل ماريوس بوير ‏في المدينة الجديدة خلال ثلاثينيات القرن الماضي عديداً من المباني على طرازي الفن الجديد وآرت ديكو، كما أعاد الجهاز الاستعماري الفرنسي التخطيط الحضري إلى عدة أحياء مثل الحبوس وبوسبير.

سواحل إفريقيا.. العمارة الاستعمارية تزحف

بالمثل ظهر تأثير العمارة الاستعمارية الأوروبية واضحاً على السواحل الإفريقية، إذ بنى البرتغاليون حصوناً وقلاعاً على الطراز الأوروبي على طول السواحل الغربية والجنوبية الغربية، كما جلب الفرنسيون شوارع واسعة على الطراز الباريسي إلى المدن الإفريقية مثل الدار البيضاء في المغرب وداكار في السنغال.

نموذج حديث من العمارة في إثيوبيا (Others)

وفي جنوب إفريقيا عام 1806، حين سيطرت الحكومة البريطانية على كيب تاون، بَنَت عديداً من المنازل بأسقف معدنية مزخرفة وأعمدة ضيقة، وجلب التجار والإداريون البريطانيون أيضاً بعض أنماط البناء من الهند التي كانت تحت الحكم البريطاني.

ومن قبل ذلك كان الهولنديون حرصوا على تغيير الشكل التخطيطي لكيب تاون بما يتناسب مع مصالحهم، فعملوا منذ القرن السابع عشر على إعادة تشكيل المدينة على هيئة مركز تجاري. كما بنى الهولنديون عام 1679 قلعة تسمى قلعة الرجاء الصالح، وهي قائمة إلى الآن. كذلك بنوا عديداً من المباني العامة الكبيرة والكنائس والمنازل الخاصة في المدينة.

يقول منون لـTRT عربي: "المستوطنون الهولنديون في جنوب أفريقيا أقاموا ما عُرف بنظام الأبارتاهيد لاحقاً، وهو نمط استيطاني وفر الفرصة لنقل نمط المعمار الغربي الألماني والهولندي منه على وجه التحديد في جنوب القارة، ليناسب حياة مجموعة بعينها من الأوروبيين المستوطنين، و مختلف عن تجربة سواحل غرب إفريقيا المطلة على الأطلنطي".

ويوضح منون أن "المدن الساحلية دخلتها عمارة الحصون العسكرية البرتغالية بمواني تجارة الاسترقاق، في حين حملت مناطق شرق إفريقيا المطلة على المحيط الهندي والبحر الأحمر مزيجاً متداخلاً من العمارة لتنوع المستوطنين بشرق إفريقيا، وصراع النفوذ بين الشرق والغرب".


TRT عربي