تابعنا
بأريحيةٍ تامّة، تستطيع النساء داخلَ صالونات الحلاقة والتجميل الخوضَ في أكثرِ أسرارهنّ حميمية، والإدلاء بآرائهنّ في الرجال وفي العلاقات وفي الزواج.

في الوقت الذي يعمّ الصمت والرتابةُ في صالونات الحلاقة الرجالية، بحيثُ ينهمك الحلّاقون في عملهم، والزبائن في شاشات هواتفهم على الأغلب، تعجّ صالونات الحلاقة النسائية، ومنذ الأزل، بالأسرار والقصص، في أجواء حميمية، بين الزبونات ومصفّفات الشعر وعاملات التجميل من جهة، وبين الزبونات والزبونات من جهة أخرى.

سواء كانت صالونات راقية تقدّم خدماتٍ غالية الأثمان، أو صالوناتٍ داخل أزقّة أحياء شعبية توفّر خدماتٍ تجميلية بأثمانٍ رخيصة، في القاهرة أو الدار البيضاء أو بيروت أو تونس، يبقى طابعُ الحكي والنميمة هو السائد في كلّ صالونِ حلاقةٍ للنساء. فهل يرجعُ ذلك إلى كونِ صالونات الحلاقة النسائية مجالاً تجدُ النساء فيه حرّيتهنّ في التعبير عمّا يجول في خواطرهنّ ويعتمل في دواخلهنّ، أم لأنّ طبيعة النساء المتّسمةِ بالرغبة الدائمةِ في الحكي هي التي تجعل هذه الأماكن مفعمةً بالحكايات والأسرار؟

مشهدٌ متخيّل.. لكنْ، حقيقي!

في أيّ صالون حلاقةٍ للنساء، يكون المشهدُ هكذا في الغالب:

تتخلّص خديجة من حذائِها، وتضعُ قدميها على كرسيّ صغير، في انتظار أن تأتي عاملةُ التجميل لتصبغ أظافرها. تسنِد رأسَها إلى الكرسيّ، وهي تغنّي بتأثّر مع شيرين التي يصدحُ صوتُها الحزين من التلفاز البلازما المعلّق على الجدار "ما تحاسبنيش". بينما تجلسُ أحلام على كرسيّ بعجلات أمامَ المرآة، وتنظرُ إلى نفسِها بإعجاب، بعد أن انتهت للتوّ من تصفيف شعرِها. أمّا أمل، فتُغمِض عينيها وهي تنتظرُ أن يظهَر اللون الأشقرُ على شعرِها الذي كان أسودَ في الأصل. في الوقت نفسِه، تكونُ عاملة التجميل المرتدية لوزرة بيضاء أنيقة، قد انتهت للتوّ من تلوين أظافر نجلاء بأحمرَ قانٍ أو أخضر فستقيّ... تلقي كلماتٍ مجاملة على أظافر زبونتِها، وهي تنتقلُ نحو أظافر قدمي خديجة، وتشرعُ في تجميلِها، بنشاط لا يُضاهى.

لا يتوقّف المشهدُ عند هذا الحدّ، فهؤلاء النسوة لا يكنّ صامتات، ولا يمكنُ أن يكنّ صامتاتٍ أبداً. ففي حين تحكي خديجة، ربّة البيت الأربعينية، لعاملة التجميل عن زوجِها الذي لم يعُد يهتمّ بها، تدخلُ أحلام، الطالبةُ العشرينية، إلى حلبةِ النقاش، لتدلي برأيِها في الرجال بعد تجارِبها العاطفية الفاشلة.

تنطِق أمل، التي لا تزالُ مغمضةً عينيها، لتنهي النقاش، قائلةً بنبرةٍ فيها شيءٌ من الحِقد وعدم الاكتراث: "الرجال كلّهم مخادعون، يبدون لكِ الاهتمام في البداية، وعندما يحصلون عليكِ ويضمنون وجودكِ، يبدؤون في التعامل معكِ كأنّكِ لستِ موجودة".

تتدخّل نجلاء، وهي تدفعُ حِسابَها، وتنصحُهنّ بأن يتوقّفن عن التعميم، ثمّ تقول بنبرةٍ فيها شيءٌ من الفخر: "أنا متزوّجة، وعلاقتي مع زوجي ناجحةٌ جدّاً".

لماذا صالونات التجميل؟

بأريحيةٍ تامّة، تستطيع النساء داخلَ صالونات الحلاقة والتجميل الخوضَ في أكثرِ أسرارهنّ حميمية، والإدلاء بآرائهنّ في الرجال وفي العلاقات وفي الزواج، كأنّهن يأتين إلى هذا المكان، من أجل تفريغ كلّ ما امتلأن به طيلة أيّام الأسبوع.

وبذلك، يصيرُ الذهاب إلى صالون حلاقة، بمثابة لجوء إلى مكانٍ آمن لقولِ كلّ ما لا يمكن قوله في أماكن أخرى ومع أشخاصٍ آخرين. إنه "نوع من اللجوء الاجتماعي" حسبَ تعبير المتخصص في علم الاجتماع عبد الرحيم العطري. يقول لـTRT عربي: "تسمحُ هذه الصالونات بالاستثمار في الجسد، وتجريبِ تملّكه، لكنّها تسمحُ أيضاً بالتخلّص من الرقابة التي تفرِضها البنيات المجتمعية على المرأة"، مضيفاً أنّ "الانتماء إلى الصالون هو انتماء إلى مجال لا مرئي، بمقدور النساء فيه أن يكشِفن عن أسرارهنّ، بل وحتى أن يخترن اللغة التي يعبّرن بها، بعيداً عن كلّ المتاريس والحواجز التي تحدّ من حركتِها في المجال العامّ".

مساحةٌ للبوح وتقاسم التجارب

وإذا كانت الحاجةُ إلى البوحِ والحكي وتقاسم التجارب، مسألةً مشتركةً بين جميع البشر، وبخاصّةً النساء، باعتبارهنّ "أحسنَ الحكّاءات للقصص"، فإنّ صالونات الحلاقة هي تلك المساحةُ التي يمارسن فيها الحكي والشكوى، ويخلقن عبرَها جسوراً للتواصل مع الآخرين، والتعبير عن آرائهنّ ومواقفهنّ من العالم والأشياء التي قد تكون مقموعةً داخل مساحاتٍ ومجالاتٍ أخرى.

يفسّر المتخصّص في علم الاجتماع عبد الرحيم العطري هذا الخوضَ في المواضيع الحميمية داخل صالونات الحلاقة الخاصّة بالنساء، بكونِ هذه الأخيرة، تدخلُ في نطاق "الحدائق السّرية" التي يمارس فيها الإنسان البوح من دون قيدٍ أو شرط.

إنّ صالونات الحلاقة، بالنسبة للمتخصّص في علم الاجتماع، هي أصلاً "مختصّةٌ بتدبير المجال الحميمي من تجميلٍ وتحوير للجسد. وفي المغرب، مثلاً، كان الحمّام يقوم بهذا الدور، إذ هو عبارةٌ عن مساحةِ بوحٍ حرّة، تجدُ فيها المرأة شبيهتها من أجل التقاسم والتبادل".

وفي هذا الإطار، "وعلى الرغم من أن صالونات الحلاقة في المغرب عرفت مقاوماتٍ ثقافية قبل الاعتراف بها، فإنّ خروج النساء إلى المجال العمومي، واتساع مساحة الحرّية وتملّك الجسد، جعل من هذه الصالونات جزءاً من المعيش اليوميّ لها"، يؤكد العطري.

صالون التجميل لرفع المعنويات

كان الاعتناء بالجسد دائماً مصدرَ راحةٍ كبيرة، بخاصّةً بالنسبة إلى النساء. فالتجمّل، عن طريقِ وضع الماكياج أو الاعتناء بالشعر أو البشرة، هو نوع من الاحتفاء بالجسد. الجسدُ حاملُ الروح. ولذلك، إذا كان الجسدُ جميلاً وبصحّةٍ جيدة، فإن الروح تكون جميلةً أيضاً.

بالنسبة إلى الشابّة المغربية ليلى، فإنّ صالون الحلاقة في حياةِ النساء ليس مجرّد مكانٍ للتجميل والاعتناء بالجسد، بل لرفعِ المعنويات أيضاً.

"عندما تنظرين إلى نفسِك في المرآة، بعدَ تصفيف شعرِك أو تغيير لونِه أو بعد حصّة تدليك، تشعرين أنّك شخصٌ آخر، ويراودك إحساسٌ عارم بالتجدّد"، تقول ليلى لـTRT عربي.

وتتفق معها في هذا الرأي الشابة الفلسطينية رهف، التي ترى في صالونات الحلاقة مكاناً للاسترخاء والخروج إلى العالم بنَفسٍ جديد. تقول: "بعدَ أسبوعٍ من العملِ والكدّ والتعب، يصيرُ ضرورياً جدّاً الالتفات إلى الجسدِ قليلاً، للاعتناء به وتزيينه، وهذا يعطينا نحن النساء سعادةً لا تماثلها سعادة".

بأريحيةٍ تامّة، تستطيع النساء داخلَ صالونات الحلاقة الخوضَ في أكثرِ أسرارهنّ حميمية (Getty Images)
كان الاعتناء بالجسد دائماً مصدرَ راحةٍ كبيرة، بخاصّةً بالنسبة إلى النساء. فالتجمّل، عن طريقِ وضع الماكياج أو الاعتناء بالشعر أو البشرة، هو نوع من الاحتفاء بالجسد (Getty Images)
TRT عربي