تتجدّد الحرائق وسط دمشق القديمة، حيث المناطق التاريخيّة المختلفة لذاكرة المدينة، ففي عام 2016 التهم حريق ضخم قسماً كبيراً من محلات سوق العصرونيّة، وهي إحدى أبرز الأسواق المهمّة، وتقع ضمن أماكن أثريّة، وفي عام 2022 نشب حريق في مقهى وسط سوق الحميديّة التاريخية.
ملابسات الحريق الجديد
أحدث تلك الحرائق المأساويّة في الأماكن الأثريّة في مدينة دمشق هو حريق حي ساروجة، 16 من يوليو/تموز الحالي، المعروف بـ"إسطنبول الصغرى"، ملتهماً معالم ووثائق تاريخية قيّمة، فضلاً عن بيوت كانت شاهدة على تاريخ المدينة منذ مئات الأعوام.
وقال المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا، نظير عوض، لإذاعة "شام إف إم" المحليّة السوريّة، إنّ "الورشات والصناعات في المناطق الأثريّة تؤدي إلى الحرائق، وضمن محيط منزل اليوسف (عبد الرحمن اليوسف، أمير محمل الحج الدمشقي) يوجد الكثير من الورشات التي تَستخدم وتُخزّن مواد قابلة للاشتعال، وقد تكون أحد أسباب اندلاع الحريق"، ثم انتقل الحريق بشكل سريع إلى أقسام واسعة من المنزل.
وبعد ذلك انتقل الحريق إلى قسم النساء في بيت خالد العظم، وهو أيضاً بيت دمشقيّ، كما طالت النيران منزلين عريقين من المنازل الدمشقيّة التي يشغل أحدها قسم الوثائق التاريخية في دمشق.

حي ساروجة.. "إسطنبول الصغرى"
بدأت دمشق تتطوّر خارج أسوارها في منتصف القرن السادس عشر في المنطقة قرب قلعة دمشق وباب السلام، كون النهضة العمرانية في عصر المماليك اكتظّت بالمباني، ولم يعد فيها مكان للتوسّع، ولم تستطع المدينة البقاء ضمن أسوارها العتيقة، فامتدّت الحياة العمرانية إلى كل الجهات.
"من أبرز الأحياء الأثريّة التي نمت خارج الأسوار، والتي أصبحت أحياء تاريخية هو حي ساروجة"، وفق الباحث المختص بتاريخ سوريا القديم، ماهر حميد.
ويقول حميد لـTRT عربي: "عاش هذا الحي تغيّرات وتحوّلات على مرّ الأعوام، شكّلتها أحداث تاريخية وتنمية عمرانية حضريّة، حيث كان ساروجة يُنسب إليه لقب (إسطنبول الصغرى) في فترة من الفترات الزمنيّة".
ويعود سبب هذا اللّقب إلى العائلات التركيّة التي عاشت في دمشق وكانت لها أعمال قياديّة فيها سكنت في هذا الحي، فـ"بعد خسارة المماليك معركة ديو، سقطت الدولة المملوكية، وتمكّن العثمانيون حينها من السيطرة على إرثها سواء في سوريا أو في مصر"، حسب الباحث، وبعد ذلك تحوّل حي ساروجة الذي نشأ في العصر المملوكي إلى حيّ ذي طابع عثماني بهويّته العمرانيّة ونسيجه المعماري.
معظم العائلات التي سكنت حي ساروجة، مثل عائلة العظم، هي عائلات عثمانيّة سوريّة، عملت في مراكز إداريّة وتجاريّة مهمّة، وضمن العهد المملوكي. وأقام في الحي تجّار المماليك في دمشق، وفيه أهمّ صناعاتهم ومستودعاتهم.
يمتدّ هذا الحي من حي جوبر شرقاً حتى شارع بورسعيد وساحة يوسف العظمة في حي الصالحية والمهاجرين غرباً، وحي القابون وبرزة وركن الدين شمالاً، ويُنسب اسم الحي إلى الأمير المملوكي "شاد الدواوين" (مصطلح مملوكي يعني مساعد الوزير والمشرف على استخلاص الأموال)، صارم الدين صاروج المظفّري، حسب مدونات تاريخية، ومع الوقت حوّل أهل دمشق اسم "صاروجة" إلى "ساروجة"، لكن في الكتابات التاريخية المحكّمة، لا يزال الباحثون يستخدمون اسم "صاروجا" للدلالة على المكان.
وكان سوق ساروجة المعبر الرسمي لكلٍّ من محمل الحج وقوافل الجردة وحرّاس طريق الحج من قطّاع الطرق، وتسمّى المحلّة هناك بـ"ساروجة سلطاني"، حسب العدد الثاني من مجلّة "تاريخ دمشق"، نصف السنوية المحكّمة.
ووفق المجلّة، فإنّ تسمية "السلطاني" هي من مصطلحات العصر العثماني، تُطلق في دمشق كثيراً على المواضع التي تُحاذي "الدرب السلطاني" (سُمّي بهذا الاسم لكثرة مرور السلاطين والولاة منه)، وهو الطريق الرئيسي الرسمي الذي يقطع الشام وضواحيها، ويمرّ إلى جوار السور الغربي للمدينة القديمة عند باب الجابية، بعد أن يكون قد مرّ بالقلعة وجامع السنجقدار، ثم يجتاز ضاحية الميدان جنوباً حتى يصل إلى بوابتها "بوابة الله"، لأنّها تؤدي إلى بلاد الله، وهي الأماكن المقدسة في الحجاز والقدس.
فضلاً عن الفهم التاريخي الذي توفّره منطقة ساروجة بوصفها منطقة أثريّة وثقافيّة وحضاريّة، يقدّم حي ساروجة أدلّة توثيقيّة على المجتمعات التي عاشت ضمن المنطقة منذ مئات الأعوام.
يقع في هذا الحيّ مديريّة الوثائق التاريخيّة في دمشق، التي تشغل قسماً من منزل عائلة العظم، وهي عائلة لعبت دوراً مهمّاً في الحياة السياسية في تاريخ سوريا.
وتحتوي المديرية على خمسة ملايين وثيقة متعددة المواضيع، وأرشيف الجريدة الرسمية السورية منذ عام 1918 حتى الآن، وضمن قسم الوثائق البصريّة، يملك مركز الوثائق التاريخيّة ستة آلاف صورة شخصيّة لشخصيات مهمّة في تاريخ سوريا، كما يقع في حي ساروجة مبنى المديرية العامة للمصالح العقاريّة، ويحتوي على كل ما يتعلق بالملْكيّة العقاريّة في سوريا.
تدمير ذاكرة مدينة
في معظم الحرائق التي تلتهم مناطق تراثيّة دمشقيّة، تُرجع الجهات المعنيّة في سوريا سبب الحرائق إلى وجود "تماس كهربائي"، فيما يتّهم ناشطون سوريّون وخبراء في الوقت نفسه جهات أجنبيّة فاعلة في سوريا بالوقوف وراء تلك الحرائق. إذ يشير المحامي والناشط الحقوقي السوري، عبد الناصر حوشان، إلى جهود مستمرّة منذ أعوام طويلة لسيطرة إيران على أملاك عقاريّة في محيط مدينة دمشق ووسطها، إضافةً إلى إهمال الجهات الإداريّة المعنيّة بحماية المواقع الأثريّة المتمثل في عدم إعداد خطط وقائية من الحرائق، أو ممارستها على أساس منتظم.
وحسبما يقول حوشان لـTRT عربي، فإنّ حريق حي ساروجة محاولة لـ"إنتاج أدوات جديدة للتغيير الديمغرافي، ضمن سلسلة عمليّات لم تتوقف مرتبطة بهذا الهدف".
ويرجّح حوشان أنّه "بعد فشل حكومة النظام السوري عبر وسائل الضغط على مالكي العقارات القريبة من مقامات دينيّة تهمّ جهات أجنبيّة في دمشق لبيع عقاراتهم، عن طريق الترهيب أو الاعتقال، يلجأ النظام السوري إلى خيار التدمير، وذلك ضمن عمليّة تدمير المنطقة الأثريّة، ومن ثمّ شطبها من قائمة المناطق الأثريّة الوطنيّة، لاستملاكها والتحكّم بملكيّتها العقاريّة"، على حدّ قوله.
وخلال عام 2021، بدأت مشاريع شكليّة لترميم الأحياء والمواقع التاريخيّة في سوريا، حيث جرى التركيز أكثر على مشاريع توسيع مقام "السيدة زينب"، ومقام "السيدة سكينة" في داريّا ريف دمشق، ومقام "السيدة رقية" في حي العمارة، وهو أحد الأحياء في ساروجة.
وفي عام 2013، قرّرت لجنة التراث العالمي إدراج ستة مواقع للتراث العالمي في سوريا على قائمة التراث المهدَّد بالخطر، هي: مدينة حلب القديمة، ومدينة دمشق القديمة، وبصرى القديمة، وقلعة صلاح الدين، وموقع مدينة تدمر التاريخية، ومجموعة القرى القديمة في شمال سوريا، بهدف تأمين حماية هذه المواقع المعترف بها دولياً، "كونها تمثّل قيمة كونيّة استثنائيّة للإنسانيّة جمعاء"، حسب قرار اللجنة.