"كان حُلماً فخاطراً فاحتمالا، ثم أضحى حقيقة لا خيالا"، هكذا كان مطلع قصيدة "قصة السد" التي غنتها سيدة الغناء العربي أم كلثوم وأُنتِجَت عام 1960 حين بدأ المصريون تشييد سدهم العالي.
ليست كوكب الشرق وحدها ولا عزيز أباظة مؤلف القصيدة من تغنوا بالسد. نستطيع القول إن "علاقة رومانسية" جمعت المصريين بسدهم العالي. فلم يكن مشوار تشييد السد في أي لحظة مفروشاً بالورود، بل تخللته تحديات وصعاب جسيمة أضفت نوعاً من "القدسية" للسد عند الشعب المصري.
وحمى سد "أسوان" العالي أو كما يطلق عليه "مشروع القرن" مصر من الكوارث والفيضانات والجفاف والمجاعات، ليصنف عالمياً أضخم مشروع بالقرن العشرين. وينسب إليه الفضل في تحويل نمط الزراعة في مصر من زراعة موسمية إلى زراعة على مدار العام.
وتزامناً مع انتهاء إثيوبيا من عملية الملء الثاني لسد "النهضة" تحل الذكرى الـ51 على انتهاء مصر من تشييد سدها العالي بأسوان. ففي ضوء مُضي أديس أبابا قُدماً في ملء سدها وتشغيله، أي مصير ينتظر السد العالي بعد ما يزيد على نصف قرن من تشييده؟
كيف بدأت قصة السد العالي؟
في أعقاب ثورة الضباط الأحرار عام 1952 التي تلاها تأسيس جمهورية مصر العربية وتحررها من الاستعمار الإنجليزي كانت لدى الإدارة المصرية الجديدة بقيادة عبد الناصر طموحات لمشاريع تنموية تمكّن مصر من تجاوز تبعات الاستعمار وتُعزز استقلالية البلاد.
وفي هذا المناخ السياسي الإيجابي قدّم المهندس الزراعي المصري يوناني الأصل أدريان دانينوس مقترحاً للإدارة المصرية لبناء سد ضخم بصعيد مصر وتحديداً بمدينة أسوان جنوب وادي النيل. إذ كانت مصر تتكبد خسائر لا حصر لها بسبب مواسم فيضانات تأكل الأخضر واليابس ومواسم جفاف تتقلص معها الرقعة الزراعية فتُحدِث عطشاً ومجاعات.
وجاء مقترح دانينوس منقذاً، إذ يحمل في طياته تجنيب البلاد تبعات الفيضانات وآثار الجفاف بتخزين مياه الفيضانات خلف السد والاستفادة منها لاحقاً خلال موسم الجفاف، إضافة إلى توليد الطاقة الكهرومائية عبر تدفق المياه العابرة من السد.
تكاتفت الجهود سريعاً وبدأت وزارة الأشغال العمومية المصرية التعاون مع نخبة من أساتذة الجامعات المصرية وسلاح المهندسين بالجيش المصري في إعداد دراسة جدوى للسد. وبالفعل أُقِر مشروع السد وبدأ "مشروع القرن" المصري يدخل حيز التنفيذ.

بعد سنوات من الجهود الدبلوماسية والجولات المكوكية حاول خلالها نظام عبد الناصر الحصول على قروض ومعونات دولية لتشييد السد، لكن المصريين عادوا بخفي حنين. فقد باءت محاولات ناصر بالفشل بسبب ضغوط دولية بقيادة بريطانيا التي بدا أنها لم تستفق بعد من نزعاتها الاستعمارية، فمنعت البنك الدولي تمويل مشروع السد.
ليلتفت النظام المصري سريعاً نحو الشرق ويوقّع اتفاقية مع الاتحاد السوفيتي عام 1958 حصلت القاهرة بموجبها على 400 مليون روبل ليتسنى لها بدء إعمار السد. واستمر الدعم المالي والتقني السوفيتي لمصر على مدار الأعوام التالية لتنتهي مصر من عملية تشييد السد العالي بشكل كامل في 21 يوليو/تموز 1970. وتُقدّر التكلفة الإجمالية لبناء السد بمليار دولار أمريكي.
وعلى مدار نصف قرن أتى السد بثماره على مصر فأسهم بزيادة الرقعة الزراعية من 5.5 إلى 7.9 مليون فدان، كما مكّن السد المزارع المصري من زرع محاصيل أكثر استهلاكاً للمياه كالأرز وقصب السكر، ووفر طاقة كهرومائية هائلة لتشغيل المصانع وإنارة القرى والمدن المصرية.

ومن الناحية الاستراتيجية جنب السد العالي مصر أهوال فترات الجفاف، كفترة الجفاف الأطول في تاريخ البلاد التي استمرت بين أعوام 1979 و1987، وجرى خلالها سحب قرابة 70 مليار متر مكعب من مخزون السد ببحيرة ناصر.
يأتي هذا إضافة إلى زيادة الثروة السمكية في بحيرة "ناصر" الموجودة خلف السد، وتحسين الملاحة النهرية طوال العام.
تداعيات ومخاوف: هل يَخرُج السد العالي من الخدمة؟
قبل خمس سنوات كاملة حذّر وزير الكهرباء المصري محمد شاكر المرقبي من بدء تداعيات إنشاء سد "النهضة" على السد العالي المصري، إذ تحدث على الهواء قائلاً: "السد العالي خرج من الخدمة تماماً كأحد أهم مصادر توليد الكهرباء في البلاد".
كان هذا في كلمة للمرقبي خلال مراسم افتتاح مشروعات تنموية بمحافظة أسيوط وبحضور الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل أن يعترضه السيسي طالباً منه ألا يتطرق إلى هذا الأمر، ليرتبك الوزير وينتقل إلى حديث آخر.
وفي هذا الصدد صرّح مراقبون بأن "خروج السد العالي من الخدمة" يعني حرمان مصر نحو 10% من إنتاجها للكهرباء، وأشار إلى أن كل مليار متر مكعب من المياه التي تنخفض من النيل بفعل سد النهضة يقابله فقدان 2% من إنتاج الطاقة الكهربائية بمصر.
يأتي هذا وسط قلق متزايد حول هبوط مستوى التخزين في بحيرة السد العالي أثناء ملء السد الإثيوبي إلى مستويات يتوقف معها عمل توربينات كهرباء السد تماماً.
ويقول خبراء إن إسهام السد العالي في حاجة مصر من الكهرباء بالفعل انخفض من نسبة 18% إلى 4% خلال الأعوام الماضية، وهو ما ينذر بتداعيات خطيرة للسد الإثيوبي على توليد الطاقة الكهرومائية بمصر، وإن عجز السد العالي عن توليد الكهرباء بات مسألة وقت.
وكان وزير الري المصري أعرب عن قلقه إزاء الملء الثاني للسد الإثيوبي محذراً من عدم كفاية مخزون المياه بالسد العالي بحالة حدوث جفاف: "حريصون على تعويض الكمية التي سنستخدمها من خزان السد العالي لأن هذا الاحتياطي مخصص لسنوات الجفاف لا لتعويض سد النهضة. فإذا اعتمدنا عليه في التغلب على آثار الملء الثاني يمكن أن تتعرض مصر لخطر إذا حدث جفاف".
هذا وقد احتفل الإثيوبيون الاثنين بعد أن أعلنت السلطات الإثيوبية الانتهاء من عملية الملء الثاني لسد "النهضة"، وذلك على الرغم من استمرار الخلافات مع مصر والسودان.
وتتمسك القاهرة والخرطوم بالتوصل أولاً إلى اتفاق ثلاثي بشأن ملء السد وإدارته للحفاظ على منشآتهما المائية وضمان استمرار تدفق حصتهما السنوية من مياه النيل وهي 55.5 مليار متر مكعب لمصر و18.5 مليار للسودان.