مع تزايد التحديات الاقتصادية في العالم وتوالي الأزمات، اتجهت الدول الكبرى إلى القارة الإفريقية للبحث عن أسواق جديدة واستغلال الثروات الطبيعية التي تزخر بها القارة، وتأمين مصادر جديدة للطاقة خاصة بعد الحرب الروسية-الأوكرانية.
وفي ظل هذا التوجه برز تنافس بين فرنسا وإيطاليا في مناطق عدة من القارة الإفريقية، إذ اتسم بتوتر سياسي في السنوات الأخيرة وتلاسن بين المسؤولين في البلدين وصراع على مناطق النفوذ ومصادر الطاقة، واتخذ هذا التنافس مستويات عدة، منها ما هو اقتصادي ومنها ما هو عسكري وأمني.
تصريحات أشعلت التوتر
في ظل التنافس على مستويات مختلفة، دخلت العلاقات الثنائية بين فرنسا وإيطاليا في توتر سياسي غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، وأثار ملف الهجرة غير الشرعية من إفريقيا نحو جنوب أوروبا أزمة مؤخراً بين البلدين، بعد تبادل الاتهامات بين الجانبين.
واعتبر وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان في مايو/أيار 2023 أن رئيسة الحكومة الإيطالية جورجا ميلوني "عاجزة" عن حل مشكلة الهجرة في بلادها، فيما ردت ميلوني بإلغاء زيارة وزير خارجيتها إلى باريس.
جاءت تلك التطورات في سلسلة من التصريحات المتشنجة من الطرفين بعد عقود عرفت خلالها العلاقات الفرنسية-الإيطالية استقراراً وهدوءاً، إلا أن اندلاع ثورات الربيع العربي، وأزمات الهجرة المتتالية، والتغيرات السياسية في القارة الإفريقية، حركت المياه الراكدة وحركت معها طموحات إيطالية قديمة في السيطرة على منابع الثروات في إفريقيا وفي مناطق النفوذ الاستعمارية القديمة لروما عبر استراتيجية جديدة.
ولعل أبرز ملامح المطامع الإيطالية في إفريقيا ظهر عبر دفاع ممثلين من الحكومة الإيطالية الحالية عن تاريخ إيطاليا الاستعماري في المنطقة الإفريقية، بوصفه أنه كان "حضارياً، من دون إراقة دماء أو قمع"، وفق ما قاله إدموندو سيريلي نائب وزير الخارجية الإيطالي في يونيو/حزيران 2023.
ومع صعود الأحزاب اليمينية في إيطاليا تبادلت روما وباريس تصريحات زادت التوتر بين البلدين، خصوصاً بعد أن وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في يونيو/حزيران 2018 صعود الحكومات الشعبوية في أوروبا بـ"الجذام"، في إشارة إلى الحكومة الإيطالية، وهو ما اعتبره لويجي دي مايو نائب رئيس الوزراء الإيطالي آنذاك تصريحات "عدائية وفي غير محلها"، فيما اعتبر وزير الداخلية ماتيو سالفيني أن فرنسا "تسلب خيرات إفريقيا ولا مصلحة لها في استقرار ليبيا".
رئيسة الوزراء الإيطالية الحالية جوريا ميلوني شنت تصريحات معادية لفرنسا ورئيسها إيمانويل ماكرون منذ أن كانت عضوة في البرلمان الإيطالي، واعتبرت في يناير/كانون الثاني 2019 أن باريس قصفت نظام معمر القذافي في ليبيا لأنه على علاقة مميزة مع إيطاليا في مجال الطاقة.
كما هاجمت ميلوني ماكرون وسياسة بلاده في إفريقيا قائلة: "لا تقدم لنا الدروس يا ماكرون، لأن الأفارقة يهجرون قارتهم بسببكم وسبب سياساتكم، والحل ليس تهجير الأفارقة نحو أوروبا، ولكن تحرير إفريقيا من بعض الأوروبيين".
وأضافت ميلوني أن فرنسا تواصل استغلال إفريقيا من خلال طباعة النقود لـ14 دولة إفريقية وتفرض عليها رسوم سك العملة، مشيرة إلى أن فرنسا تستخرج 30% من احتياجاتها من اليورانيوم من النيجر لتشغيل محطات الطاقة النووية لديها، فيما يعيش 90% من النيجيريين دون كهرباء.
في المقابل، رفض الرئيس ماكرون وحكومته الدخول في تلاسن مع إيطاليا واكتفى بمعالجة الخلاف على مستوى القنوات الدبلوماسية، واعتبرت الوزيرة الفرنسية المكلفة الشؤون الأوروبية ناتالي لوازو في يناير/كانون الثاني 2019 أن "فرنسا لن تشارك في المسابقة الأكثر غباء" رداً على التصريحات الإيطالية آنذاك.
ورغم اللقاءات المتكررة بين رئيسة الوزراء الإيطالية جورجا ميلوني والرئيس الفرنسي ماكرون لمحاولة تخفيض حدة التوتر وإيجاد تفاهمات بخصوص الملفات العالقة، فإن التباين في وجهات النظر بين البلدين ظل السمة المميزة للعلاقات بين البلدين، خصوصاً في ما يتعلق بالقضايا الإفريقية والهجرة غير الشرعية، وبرز ذلك جلياً خلال الانقلاب في النيجر حيث شجعت فرنسا حلفاءها في المنطقة على التدخل العسكري لإعادة الرئيس محمد بازوم إلى منصبه، فيما عبرت إيطاليا عن رفضها للتدخل العسكري.
وفي هذا السياق قال الدبلوماسي التونسي السابق عبد الله العبيدي في تصريح لـTRT عربي إن التوتر بين فرنسا وإيطاليا بلغ أشده عندما سحبت فرنسا سفيرها من إيطاليا احتجاجاً على تصريحات المسؤولين الإيطاليين، مشيراً إلى أن تلك التصريحات تخفي تنافساً بين الدولتين في إفريقيا.
وكانت فرنسا قد استدعت سفيرها في فبراير/شباط 2019 احتجاجاً على ما وصفته بـ"التهم غير المسبوقة والتدخلات الاستفزازية في شؤون فرنسا" من قِبل المسؤولين الإيطاليين، وذلك بعد استقبال وزير الداخلية آنذاك لمحتجين عن حركة السترات الصفراء الذين تظاهروا ضد الرئيس ماكرون.
ويستبعد العبيدي أن يتواصل الصدام بين البلدين أو أن تكون له آثار فعلية في العلاقة الاستراتيجية بينهما، مبيناً أن "لدى إيطاليا وفرنسا ضرورة للتعاون في إفريقيا باعتبارهما تجابهان قوى كبرى تهدد مصالحهما، مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة".
واعتبر العبيدي أن "فرنسا لها تقاليد كبيرة في القارة الإفريقية وعلاقات ممتدة"، مشيراً إلى أن "إيطاليا يمكنها تحقيق بعض الأهداف على حساب فرنسا، مستغلة سمعة الماضي الاستعماري الفرنسي وكذلك بالاعتماد على أساليب جديدة تختلف عن سياسات الهيمنة الفرنسية"، على حد قوله.
من جانبه يقول الأكاديمي الإريتري والمحلل المختص في الشأن الإفريقي حسن سلمان لـTRT عربي إن "الاهتمام الإيطالي بالقارة عاد مجدداً بعد عام 2011 إثر تصاعد ثورات الربيع العربي وتدخّل فرنسا في الشأن الليبي وتحريض الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو على التدخل لإسقاط النظام الليبي".
وتتمتع إيطاليا بنفوذ تاريخي باعتبارها المستعمر القديم، فيما ساهمت فرنسا بدور جوهري في التغيير السياسي في ليبيا عندما قادت قوات حلف الشمال الأطلسي لإزاحة نظام معمر القذافي في 2011.
ويلفت سلمان إلى أن "إيطاليا عادت إلى إفريقيا من بوابة ليبيا بعد سعي فرنسا إلى إزاحتها، مما حفز روما على وضع السياسات والخطط والبرامج بزيادة المساعدات والشراكة في مجالات التنمية، فكثفت حضورها الدبلوماسي، خصوصاً في غرب القارة، وتمددت في المناطق التي تشهد تراجعاً للنفوذ الفرنسي".
صراع على الثروات
بلغ التنافس الإيطالي-الفرنسي في إفريقيا أشده في الجانب الاقتصادي، إذ تمكنت روما من مزاحمة باريس في مناطق نفوذها التاريخية، فأصبحت في عام 2022 الشريك الاقتصادي الأول لتونس لأول مرة منذ القرن التاسع عشر، وذلك على حساب فرنسا، كما استطاعت إيطاليا الحفاظ على مكانتها باعتبارها الشريك الاقتصادي الأول لليبيا بعد تنافس شديد من فرنسا وألمانيا.
ورغم أن فرنسا ظلت المصدر الأول للجزائر فإن إيطاليا استغلّت فتور العلاقات بين الجزائر وباريس لتصبح الزبون الأول للجزائر، خصوصاً بعد تدعيم اتفاقيات الغاز الطبيعي في يناير/كانون الثاني 2023، الذي سيمكّن إيطاليا من أن تصبح مركزاً للطاقة في القارة الأوروبية.
وفي هذا السياق يقول الصحفي والباحث الموريتاني في الشؤون الإفريقية محفوظ ولد السالك لـTRT عربي إن "اشتعال الحرب الروسية-الأوكرانية حوّل اهتمام إيطاليا وفرنسا إلى إفريقيا لإيجاد بدائل عن الطاقة الروسية، وهو ما زاد التنافس بين البلدين في الاستحواذ على منابع الطاقة".
ويبيّن ولد السالك أن "إيطاليا تسعى لتوفير نحو 45% من احتياجاتها الطاقية التي كانت تؤمنها روسيا، لذلك وقّعت روما عدة اتفاقيات في هذا الإطار مع الجزائر ومصر وأنغولا والكونغو الديمقراطية وموزمبيق، في المقابل تعتبر احتياجات فرنسا مضاعفة بعد توتر العلاقات بينها والمجلس العسكري الحاكم في النيجر، الذي ألغى عديداً من الاتفاقيات معها، وهي التي كانت تعتمد بشكل كبير على اليورانيوم النيجيري".
من جانبه تحدّث الباحث المصري في الشؤون الإفريقية محمد فؤاد رشوان لـTRT عربي عن التسابق بين البلدين من أجل الوصول إلى الثروات الطبيعية في القارة الإفريقية، مشيراً إلى أن "إيطاليا تسعى لأن تصبح مركزاً لاستيراد موارد الطاقة من إفريقيا ثم توزيعها في أوروبا، فيما تحاول فرنسا تأمين الغاز والنفط من الجزائر وليبيا ومصر وإسرائيل لتكون مركزاً للطاقة في أوروبا".
واعتبر المحلل السياسي حسن سلمان أن إيطاليا تعتمد مقاربة جديدة تختلف عن فرنسا قوامها الاستفادة المشتركة في الاستثمار وعدم التدخل العسكري لفرض وجودها، مشيراً إلى أنها "تنافس فرنسا من أجل أن تكون مركزاً لاستيراد وتخزين الطاقة لعموم أوروبا باعتبارها البوابة الرئيسية نحو إفريقيا، ولهذا فإن أولوياتها حالياً هي شمال إفريقيا ودول البحر المتوسط، بالإضافة إلى وجودها في منطقة الشرق الإفريقي، إريتريا وإثيوبيا والصومال وجيبوتي".
حضور عسكري وأمني
لم تكتفِ إيطاليا بمنافسة فرنسا والدول الكبرى في القارة الإفريقية في الجوانب الاقتصادية والاستحواذ على أسواق جديدة وإمضاء اتفاقيات في الطاقة وغيرها، بل عقدت اتفاقيات أمنية وعسكرية مع دول إفريقية عدة من أجل تدعيم وجودها في ظل تراجع الدور العسكري الفرنسي، خصوصاً مع موجة الانقلابات الأخيرة.
وأصبحت باريس منبوذة في بعض الدول، إذ تراجع عدد قواعدها إلى 5 قواعد عسكرية فقط، فيما فتحت إيطاليا في 2014 أول قاعدة عسكرية لها في جيبوتي منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك من أجل دعم محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة في الساحل الشرقي الإفريقي مع النشاط المكثف للقرصنة البحرية.
وفي عام 2018 انطلقت إيطاليا في تنفيذ دورات تدريبية للقوات المسلحة بدولة النيجر لتدريبها على مكافحة الإرهاب ومنع الهجرة غير الشرعية وتحسين قدراتها في حماية الحدود، وتوسعت القوة الإيطالية المكونة من نحو 470 جندياً في المهمة التي شملت أيضاً بلدان موريتانيا ونيجيريا وبنين.
وفي هذا الإطار اعتبر الباحث في الشأن الإفريقي محفوظ ولد السالك أن "البعد الأمني يشكل مدخلاً رئيسياً للأطراف الدولية المتنافسة اليوم على إفريقيا، ذلك أن عديداً من مناطق القارة مضطرب أمنياً جراء تهديد الجماعات المسلحة"، مشيراً إلى أن "دخول إيطاليا عبر البوابة الأمنية يمثل استيعاباً لحقيقة الوضع القائم ومحاولة لمنافسة الدول ذات النفوذ في القارة مثل فرنسا وروسيا والصين".
ويلفت إلى أن استراتيجية إيطاليا في القارة "تمزج بين ما هو اقتصادي وتجاري، وبين ما هو عسكري وأمني"، مبيناً أن هذا المزج يظهر خصوصاً في منطقة القرن الإفريقي من خلال تدريب جيوش بعض البلدان هناك وتكوينها، وخصوصاً أن بلدان المنطقة جربت نشر القوات العسكرية الأجنبية الفرنسية على أراضيها، ولم يُجدِ ذلك نفعاً في القضاء على الجماعات المسلحة.
صدام تاريخي في إفريقيا
تصريحات رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني والسياسيين الإيطاليين تجاه فرنسا تكشف عن تنافس تاريخي بين البلدين حول إفريقيا يعود إلى القرن التاسع عشر، فبعد سنوات قليلة من توحيد إيطاليا رسمياً في عام 1871، برز الصراع الاستعماري بين البلدين في إفريقيا، خصوصاً في شمال القارة وفي منطقة الشرق الإفريقي، واحتدّ التنافس بداية حول تونس التي سقطت في ربيع عام 1881 تحت السيطرة الفرنسية بعد أشهُر من استيلاء إيطاليا على ميناء إريتريا في عام 1880 بدعم من ألمانيا ومساندة من بريطانيا التي كانت تسعى إلى تقويض الوجود الفرنسي في المنطقة.
تمكنت إيطاليا من فرض سيطرتها على إريتريا، ما مكنها من الوصول لاحقاً إلى الصومال وإثيوبيا وإغلاق الأبواب تماماً أمام فرنسا التي كانت تسعى للتمدد شرقاً من جهة تشاد، ومحاولة التوسع نحو الساحل الشرقي الإفريقي بعد سيطرتها على جزر القمر.
بعد مؤتمر برلين بين عامي 1884 و1885 وأمام التنافس الاستعماري الحاد بين البلدين، توصلت باريس وروما إلى عديدٍ من التفاهمات بشأن اقتسام مناطق في إفريقيا، وذكر الكاتب البريطاني باتريك وارد في كتابه "العلاقات بين فرنسا وإيطاليا" (Relations between France and Italy) أن البلدين وقّعا اتفاقيات في عام 1902، اعترفت إيطاليا بموجبها بأحقية فرنسا في السيطرة على المغرب، فيما تعهدت فرنسا بعدم منافسة إيطاليا على طرابلس وبرقة في ليبيا، وهو ما حدث فعلاً بعد استيلاء إيطاليا على ليبيا عام 1911، وسيطرة فرنسا على المغرب عام 1912.