تابعنا
تستمر المتاعب الاقتصادية الأوروبية الناتجة عن أزمة الطاقة التي واجهتها القارة العجوز منذ اندلاع حرب أوكرانيا عام 2022، فيما يستغلّ اليمين المتطرف هذه الظروف الصعبة سياسياً لحصد شعبية أكبر تخوله لتحقيق نتائج جيدة في الانتخابات الأوروبية القادمة.

في مقالها حول السباق الانتخابي الأوروبي المرتقب بعنوان "تهديد اليمين المتطرف حقيقي هذه المرة"، تحدثت مجلة بوليتيكو الأمريكية حول مجادلة صعود شعبية هذا الجناح الراديكالي من اليمين الأوروبي، وقدرته على تحقيق اكتساح خلال برلمانيات الاتحاد المزمع إجراؤها في 6 يونيو/حزيران المقبل.

ولم يكن مقال بوليتيكو الوحيد الذي وقف على هذا الواقع، بل اجتمعت غالبية المؤشرات السياسية المستقاة من الانتخابات التي جرت وستجري في عدد من الدول الأوروبية خلال عام 2023 ومنتصف 2024 على نجاح الشعبويين اليمينيين في تحقيق اختراقات في برلمانات وحكومات تلك البلدان، وفازوا بمعظمها.

وفي المقابل يعزو محللون هذه الظاهرة السياسية إلى ما شهدته القارة العجوز خلال السنتين الأخيرتين من ظروف اقتصادية عسيرة، راجعة جلّها إلى أزمة الطاقة التي واجهتها تلك الدول عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا.

صعود اليمين المتطرف

ربما الحديث عن صعود اليمين المتطرف ليس بموضوعٍ جديد، فهو يتردد كلما اقترب السباق الانتخابي الأوروبي، لكن في هذه المرة يصبح تهديد حدوث هذا الصعود أكثر جدية، وهو ما يظهره عدد من استطلاعات الرأي في هذا الشأن.

وحسب استطلاعات أجرتها مؤسسة إبسوس الفرنسية مطلع أبريل/نيسان الماضي في نحو 18 دولة من الاتحاد الأوروبي، قد يحصل اليمين المتطرف على خمسة من المقاعد البرلمانية خلال الانتخابات القادمة، أي ما يعادل 22% من المقاعد مقارنة بـ10% حققها قبل ثلاث ولايات برلمانية.

وتتوقع استطلاعات رأي أخرى أكثر تحييناً بتاريخ 10 مايو/أيار الجاري تحقيق تحالف الهوية والديمقراطية اليميني المتطرف نحو 84 مقعداً، إضافة إلى 74 مقعداً آخر لتحالف المحافظين الأوروبيين والإصلاحيين المحسوب أيضاً على الجناح المتطرف لليمين الأوروبي.

ويضمّ تحالف الهوية والديمقراطية أهم القوى اليمينية المتطرفة في أوروبا، كحزب التجمع الوطني الذي يعدّ ثالث قوة سياسية في فرنسا، وحزب الرابطة الحليف في الحكومة الإيطالية، وحزب من أجل الحرية الفائز في الانتخابات الهولندية الأخيرة، فضلاً عن حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف.

ويعزز هذا الصعود الكبير لشعبية اليمين المتطرف الأوروبي ما استطاع تحقيقه خلال انتخابات البلدان الأوروبية خلال السنتين الأخيرتين، ناهيك بفوز حزب إخوة إيطاليا والرابطة بقيادة إيطاليا في عام 2022، وكذلك فوز حزب من أجل الحرية ببرلمانيات هولندا، كما حقق حزب فوكس اختراقاً كبيراً في إسبانيا بحلوله ثالثاً خلال انتخابات يوليو/تموز 2023.

وحسب مجلة بوليتيكو فإنّ تحالفات الوسط واليسار الديمقراطي قد تفشل هذه المرة في كبح صعود اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي.

ونقلت المجلة الأمريكية عن مسؤول في تحالف الشعب الأوروبي اليميني الوسطي قوله: "حتى لو فاز أحد الأطراف الأخرى (في اليمين المتطرف) بالأغلبية في البرلمان المقبل، فأعتقد أن الديناميات قد تغيرت بشكل كبير في ما يتعلق بكل العمل البرلماني الذي يجب إعادة تنظيمه".

وأضاف أن ارتفاع تمثيل الجناح اليميني المتطرف قد يؤدي إلى جعل عملية الموافقة البرلمانية على أشخاص مثل رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ذات الميول اليمينية الوسطية صعبة جداً، فضلاً عن منح هذا الجناح فرصاً في تولي مناصب حيوية داخل البرلمان الأوروبي.

استغلال أزمة الطاقة سياسياً

في المقابل، يتّبع اليمين المتطرف الأوروبي تكتيكاً سياسياً خلال حملاته الانتخابية الجارية، يهدف إلى سحب اليمين الوسط إلى جانبه، وبالتالي تعزيز مركزه في البرلمان، وفي هذا الصدد أكد ماركو زاني زعيم مجموعة الهوية والديموقراطية أن هذا تكتيك نجح بالفعل في الأشهر الأخيرة.

واستغلّ اليمين المتطرف أزمة الطاقة التي تشهدها أوروبا منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، وما ترتب على ذلك من ظروف اقتصادية صعبة نتيجة ارتفاع مستويات التضخم، واستفاد منها سياسياً من أجل رفع شعبيته.

ومثالاً على ذلك، منذ خريف عام 2022 استفاد حزب الحرية والديمقراطية المباشرة (SPD) اليميني المتطرف من أزمة التضخم الكبيرة التي شهدتها تشيكيا وتعدّت مستوياتها 17%. ويتوقع مراقبون أن يحقق الحزب التشيكي اختراقاً خلال الانتخابات الأوروبية التي تمثل أول محك انتخابي يخوضه منذ ذلك الوقت.

ويقول أستاذ العلوم السياسية في معهد أبحاث فرنسي تييري شوبان إن "بين صعود القوى الشعبوية والأزمات الاقتصادية والمالية علاقة"، لافتاً إلى أن "اليمين المتطرف اليوم يستغلّ بشكل كبير الشعور بالفقر" و"التشاؤم الشديد" بين الناخبين الأوروبيين.

اقتصادات متراجعة

وتستمر متاعب أوروبا الاقتصادية، إذ تؤكد مؤشرات عدّة استمرار حالة الانكماش التي يعيشها الاقتصاد الأوروبي، وحسب مؤشر إدارة المشتريات والصناعات (PMI) ظلّ مستوى المشتريات الأوروبية خلال شهر فبراير/شباط في حدود 49.2 نقطة، وهو تحسن ملحوظ عن شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي الذي كان 47.1 نقطة، لكنه يبقى أقل من قيمة النقاط الـ50 التي يحددها المؤشر عتبةً لتخطي الاقتصاد الأوروبي الانكماش.

ويُظهِر المؤشر أيضاً أن نشاط التصنيع ظل أقل من عتبة النقاط الـ50 لمدة 8 أشهُر متتالية، وبلغ المؤشر أقصى انخفاضاته حين سجل رقم 44.3 نقطة.

مؤشر آخر على هذا الركود هو انخفاض نسب الاقتراض في البنوك الأوروبية، وفي أكتوبر/تشرين الأول 2023 سجلت هذه النسب انخفاضاً بـ0.3%، مقارنة بالشهر نفسه من عام 2022، وبالتوازي مع ذلك ترتفع نِسَب التخلُّف عن سداد القروض، وتتوقع المؤشرات ارتفاع نسب التخلُّف عن السداد في أوروبا إلى 4% خلال عام 2024، مقارنة بالـ2.5 والـ3% التي سجلتها في عام 2023.

وبشكل عام، خفض البنك المركزي الأوروبي توقعاته للنمو الاقتصادي العام خلال 2024 من 8% إلى 6%، وهو ما يشير إلى استمرار مأزق الاقتصادات الأوروبية.

ويُعَدّ الاقتصاد الألماني أكبر اقتصاد في أوروبا، وهو الذي يواجه الركود الأقسى بين اقتصادات الاتحاد، وأشارت إلى ذلك وزارة المالية الألمانية في شهر يناير/كانون الثاني الماضي، إذ إنّ المؤشرات المبكرة الحالية للاقتصاد لا تشير إلى انتعاش اقتصادي سريع في ألمانيا خلال عام 2024، بعد موجة الانكماش التي رافقت ذلك الاقتصاد على طول العام الماضي.

وفي الربع الأخير لعام 2023، أي من أكتوبر/تشرين الأول إلى ديسمبر/كانون الأول، انكمش الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا بنسبة 0.3%، حسب تقرير نشره مكتب الإحصاء الفيدرالي الألماني، مشيراً إلى أن ارتفاع التضخم وأسعار الفائدة الثابتة كانت العوامل المؤدية إلى التأثير في النمو.

في المقابل، وعلى الرغم من الانخفاض الملحوظ في مستويات التضخم في فرنسا، واصل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للبلاد (أي باستثناء التضخم) انخفاضه خلال الربعين الأخيرين من عام 2023 بـ0.03% في الربع الثالث و0.02% في الربع الرابع، وهو ما يعني استمرار ركود الاقتصاد الفرنسي.

ويُعزى النمو الطفيف الذي حققه الاقتصاد الأوروبي، حسب الاقتصادي الفرنسي مارك تواتي، إلى النمو الذي استطاعت تحقيقه ستَّة اقتصادات أوروبية فقط، وهي إيطاليا والنمسا بـ0.2%، وبلجيكا ولاتفيا بـ0.4%، وإسبانيا بـ0.6% والبرتغال بـ0.8%.

TRT عربي
الأكثر تداولاً