تابعنا
لا يزال الاقتصاد الأوروبي يتأرجح تحت وقع الأزمة منذ صدمة الطاقة التي تعرض لها منذ 2022 عقب الحرب في أوكرانيا، وهو ما قد يهدد السياسات البيئية، التي يسعى الاتحاد جاهداً لتنفيذها.

منذ صدمة الطاقة التي تعرض لها عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا عام 2022، يتأرجح الاقتصاد الأوروبي تحت ثقل أزمة اقتصادية واسعة، وبالرغم من أن أغلب اقتصادات الاتحاد تخطت المرحلة التي بلغ فيها التضخم مستوياته القصوى، بانخفاض أسعار الغاز والسياسات المالية التي فرضها "المركزي الأوروبي"، لكن الانكماش سيستمر في مرافقتها طوال العام الجاري على الأقل.

وتأتي هذه الأوضاع الاقتصادية في سياق دولي من المحتمل أن يكرّس وطأتها على دول المجموعة الأوروبية، كما في ظل سير الاتحاد الأوروبي نحو سَنّ إصلاحات مالية جديدة، قد تقطع أجزاءً كبيرة من التمويلات عن أعضائه، فما الظروف التي يرى فيها محللون أنها قد تهدد المشاريع الكبرى التي يعتزم الاتحاد تطبيقها، وعلى رأسها "اتفاقه الأخضر" وسياسات التحول الطاقي؟

اقتصاد على "شفا حفرة"

وتؤكد مؤشرات عدة استمرار حالة الانكماش التي يعيشها الاقتصاد الأوروبي، وحسب مؤشر إدارة المشتريات والصناعات (PMI) ظلّ مستوى المشتريات الأوروبية خلال شهر فبراير/شباط في حدود 49.2 نقطة، وهو تحسن ملحوظ عن شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي الذي كان 47.1 نقطة، لكنه يبقى أقل من قيمة الـ50 نقطة التي يحددها المؤشر عتبةً لتخطي الاقتصاد الأوروبي الانكماش.

ويُظهر المؤشر أيضاً أن نشاط التصنيع ظل أقل من عتبة الـ50 نقطة لمدة 8 أشهر متتالية، وبلغ المؤشر أقصى انخفاضاته حين سجل رقم 44.3 نقطة.

مؤشر آخر على هذا الركود هو انخفاض نسب الاقتراض في البنوك الأوروبية، وفي أكتوبر/تشرين الأول 2023 سجلت هذه النسب انخفاضاً بـ0.3%، مقارنة بالشهر نفسه من عام 2022، وبالتوازي مع ذلك ترتفع نسب التخلُّف عن سداد القروض، وتتوقع المؤشرات ارتفاع نسب التخلُّف عن السداد في أوروبا إلى 4% خلال عام 2024، مقارنة بـ2.5 و3% التي سجلتها في عام 2023.

وبشكل عام، خفض البنك المركزي الأوروبي توقعاته للنمو الاقتصادي العام خلال 2024 من 8% إلى 6%، وهو ما يؤشر إلى استمرار مأزق الاقتصادات الأوروبية.

ويعد الاقتصاد الألماني أكبر اقتصاد في أوروبا، وهو الذي يواجه الركود الأقسى بين اقتصادات الاتحاد، وأشارت إلى ذلك وزارة المالية الألمانية في شهر يناير/كانون الثاني الماضي، إذ إن المؤشرات المبكرة الحالية للاقتصاد لا تشير إلى انتعاش اقتصادي سريع في ألمانيا خلال عام 2024، بعد موجة الانكماش التي رافقت ذلك الاقتصاد على طول العام الماضي.

وفي الربع الأخير لعام 2023، أي من أكتوبر/تشرين الأول إلى ديسمبر/كانون الأول، انكمش الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا بنسبة 0.3%، حسب تقرير نشره مكتب الإحصاء الفيدرالي الألماني، مشيراً إلى أن ارتفاع التضخم وأسعار الفائدة الثابتة كانت العوامل المؤدية إلى التأثير في النمو.

في المقابل، وبالرغم من الانخفاض الملحوظ في مستويات التضخم في فرنسا، واصل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للبلاد (أي باستثناء التضخم) انخفاضه خلال الربعين الأخيرين من عام 2023، بـ0.03% في الربع الثالث و0.02% في الربع الرابع، وهو ما يعني استمرار ركود الاقتصاد الفرنسي.

ويُعزى النمو الطفيف الذي حققه الاقتصاد الأوروبي، حسب الاقتصادي الفرنسي مارك تواتي، إلى النمو الذي استطاعت تحقيقه ستَّة اقتصادات أوروبية فقط، وهي إيطاليا والنمسا بـ0.2%، وبلجيكا ولاتفيا بـ0.4%، وإسبانيا بـ0.6% والبرتغال بـ0.8%.

عوامل مقلقة أخرى

ولا تنتهي متاعب الاقتصاد الأوروبي عند هذا الحدّ، بل تحيطه التهديدات الخارجية، على رأسها مخاطر المنافسة الاقتصادية الشرسة مع المنتجات الصينية، بالإضافة إلى احتمال استئناف الولايات المتحدة تطبيق سياسة حمائية على وارداتها الأوروبية في حال صعود المرشح الجمهوري دونالد ترمب لرئاسة البلاد.

وكتبت مجلة "ذا إيكونوميست" البريطانية أن "توقيت المحنة (الاقتصادية) التي تعيشها أوروبا سيئ للغاية"، وبالرغم من أن "الصدمات التي تواجه أوروبا تنبع من الخارج، فإن الأخطاء التي يرتكبها صناع القرار السياسي هناك قد تؤدي إلى تفاقم الضرر إلى حدٍّ كبير".

وأضافت أنه مع عودة ترمب إلى السباق الرئاسي الأمريكي أصبحت تهديدات الحرب التجارية بين بروكسيل وواشنطن أكثر جدية، في حال فوز المرشح الجمهوري بالانتخابات، لأن "ترمب مهووس بالتوازنات التجارية الثنائية، ويشعر فريقه أيضاً بالانزعاج من الرسوم الرقمية التي تفرضها أوروبا، وضريبة الكربون على الحدود، وضرائب القيمة المضافة".

لكن من ناحية أخرى، يوجد خطراً يهدد الاقتصاد الأوروبي من الداخل، وهو اتجاه الاتحاد نحو تطبيق إصلاحات في سياساته المالية بحلول عام 2026، وذكر موقع "بوليتيكو" الأمريكي أن "الضربة المتمثلة في إدخال الاتحاد الأوروبي قواعد الإنفاق الجديدة، في وقف المفوضية الأوروبية لصنابير الأموال، أدت إلى إحداث ثقب أسود في ميزانيات البلدان المثقلة بالديون، خصوصاً فرنسا وإيطاليا".

وبحلول عام 2026، سيُنهي الاتحاد الأوروبي قواعد الإنفاق التي كان قد سَنَّها لتخطي أزمة فيروس كورونا عام 2020، بما ذلك وقف التمويلات الخاصة التي أُطلقت.

وأضاف الموقع الأمريكي أنه "من المرجَّح أن تتحمل البُلدان ذات الديون الكبيرة العبء الأكبر من الصدمة، ويحذر المحللون من أنها قد تضرب الاقتصادات بشدة"، ونقل عن نيلز ريديكر، الباحث في معهد أوروبي للدراسات الاقتصادية، قوله: "يوجد خطر يتمثل في أننا إذا لم نستثمر بما فيه الكفاية، فسنعود إلى العقد الضائع من عام 2010".

أزمة قد تعصف بأحلام أوروبا الخضراء

وتأتي هذه المتاعب الاقتصادية في وقت تسعى فيه أوروبا إلى إطلاق مشاريع كبرى، على رأسها مشروع "الاتفاق الأخضر"، الخاص بتحقيق التحول الطاقي التام، ويهدف الاتفاق الأوروبي إلى تقليل انبعاثات الكربون في قطاع النقل الطرقي بـ50% بحلول 2030، وبنسبة 100% بحلول 2035.

وأشار موقع "بوليتيكو" إلى أن متاعب الاقتصاد الأوروبي بشكل عام، وبشكل خاص المخاطر المرتبطة بإنهاء المفوضية تمويل ما بعد الوباء في عام 2026، ستؤثر في تنزيل "الاتفاق الأخضر" الأوروبي، إذ ستتعين على الحكومات مواصلة الاستثمار في المشاريع الخضراء والرقمية دون التدفق المالي القادم من بروكسل.

من ناحية أخرى، قد يزيد "الاتفاق الأخضر" هذه المتاعب الاقتصادية، خصوصاً في ما يتعلّق بالمنافسة الشرسة مع الصين في منتجات التحول الطاقي.

وأشارت مجلة "ذا إيكونوميست" إلى أن الصين أصبحت "تركز الآن على السلع الخضراء"، مثل السيارات الكهربائية، ومن المرتقب أن "تتضاعف حصتها في السوق العالمية إلى الثلث بحلول عام 2030"، وهو ما من شأنه أن "يُنهي هيمنة الشركات الوطنية الأوروبية الكبرى مثل فولكس فاجن وستيلانتس".

وتشهد السيارات الكهربائية الصينية نموّاً كبيراً في أوروبا، إذ بلغ رقم معاملاتها عام 2022 نحو 3.2 مليار دولار، أي بارتفاع قُدّر بنسبة 165% عن عام 2021. وبالتزامن مع ذلك تواصل الولايات المتحدة تنفيذ إجراءات خفض التضخم، التي تحفز المستهلك المحلي على شراء السيارات الأمريكية الصديقة للبيئة بتوفير دعم حكومي لمُصنّعي هذا النوع من السيارات.

وهو ما يؤكده مقال لمجلة "فوربس" الأمريكية، وذكر أن "المصنعين الأوروبيين في السوق المشتركة، مثل فولكس فاجن الألمانية وعلاماتها التجارية الرئيسية، سيكونون الضحايا الرئيسيين (للاتفاق الأوروبي)".

ونقل المقال على لسان نيك مولدن، من مؤسسة (Emissions Analytics): "نرى سيارات صينية بسعر 29 ألف دولار تتنافس مع سيارات أوروبية مماثلة يتراوح سعرها بين 48 ألفاً و60 ألف دولار، سيكون هذا تدميراً لصناعة السيارات في أوروبا".

TRT عربي