Mali (Others)
تابعنا

تمرّ العلاقات الجزائرية-المالية بأصعب ظروفها بعد أن وصل الأمر بالبلدين إلى استدعاء سفيرَيهما للتشاور، وتنصل المجلس العسكري الانتقالي الحاكم في باماكو من تنفيذ اتفاقية الجزائر 2015 للسلم والمصالحة في مالي.

وتضع المرحلة الحالية علاقات البلدين الجارين على المحك، وتطرح عديداً من التساؤلات بشأن مدى قدرة باماكو على الخروج من أزمتها متعددة الأبعاد إذا ألحّت على موقف عدم تنفيذ مسار الجزائر.

وترعى الجزائر الوساطة الدولية في مالي تنفيذاً لاتفاقية 2015، الناتجة عن مفاوضات أشرفت عليها حينها، ودارت بين حكومة باماكو والمعارضة التي من بينها الحركات الأزوادية في شمال البلاد. وتُعَدّ اتفاقية الجزائر الأرضية التي ارتكز عليها كل حوار في باماكو، وبدعم أممي يرفض حتى اليوم الخطوة التي اتخذها المجلس العسكري الحاكم.

تسارع الخلاف

في 20 ديسمبر/كانون الأول 2023 أعلنت وزارة خارجية مالي استدعاء سفير الجزائر لديها لإبلاغه احتجاج المجلس العسكري الانتقالي الحاكم حول ما سمّته "أفعالاً غير ودّية من السلطات الجزائرية، وتدخّلها في الشؤون الداخلية لمالي تحت غطاء عملية السلام في مالي".

وأشار بيان لخارجية مالي إلى أن هذا الإجراء جاء بسبب "الاجتماعات المتكرّرة التي تُعقد في الجزائر على أعلى المستويات ومن دون أدنى علم أو تدخّل من السلطات المالية مع أشخاص معروفين بعدائهم للحكومة المالية، ومع بعض الحركات الموقّعة على اتفاق 2015 التي اختارت المعسكر الإرهابي".

ولم يذكر بيان خارجية المجلس العسكري الانتقالي أي اسم من الأطراف التي يقصدها، لكن كل التقديرات ذهبتْ إلى استقبال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون للإمام محمود ديكو، وهو إمام الطريقة الكنتية في مالي، وهي طائفة صوفية منتشرة أيضاً في الجنوب الجزائري.

ويُعتبر محمود ديكو من كبار رجال الدين والسياسيين، وكان على توافق مع المجلس العسكري الحالي قبل أن يختلفا إثر سَنّ الرئيس الكولونيل عاصيمي غويتا دستوراً جديداً لا يلقى الإجماع في البلاد، مع تمديد المجلس لعهدته وعدم تسليمه السلطة للمدنيين كما وعد.

وبعد يوم من ذلك استدعت الخارجية الجزائرية في 21 ديسمبر/كانون الأول الماضي سفير مالي لديها بخصوص ما سمته "التطورات الأخيرة للأوضاع في هذا البلد".

وجاء في بيانٍ للخارجية الجزائرية أنه "جرى إبلاغ سفير باماكو أن الاجتماعات الأخيرة التي جرت مع قادة الحركات الموقعة على اتفاق السلم والمصالحة في مالي المنبثق عن مسار الجزائر تتوافق تماماً مع نص وروح هذا البيان".

وفي 23 ديسمبر/كانون الأول الماضي أعلنت مالي استدعاء سفيرها بالجزائر للتشاور "عملاً بمبدأ المعاملة بالمثل"، وذلك رغم عدم صدور بيان رسمي جزائري بشأن استدعاء سفيرها في باماكو للتشاور.

ويرى الكاتب الصحفي الموريتاني المهتم بالشأن الإفريقي سلطان البان أن "الذي حصل بين البلدين سببه سوء تقدير من الجانب المالي، فاستقبال الجزائر للإمام محمود ديكو كان يمكن أن تتعامل معه باماكو بالطرق الدبلوماسية المتاحة، بعيداً عن الإجراءات التي تأتي في المرحلة الأخيرة".

في 20 ديسمبر/كانون الأول 2023 أعلنت وزارة خارجية مالي استدعاء سفير الجزائر لديها لإبلاغه احتجاج المجلس العسكري الانتقالي الحاكم حول ما سمّته "أفعالاً غير ودّية من السلطات الجزائرية، وتدخّلها في الشؤون الداخلية لمالي تحت غطاء عملية السلام في مالي".

ويضيف البان لـTRT عربي أن "الهواجس الأمنية التي تلاحق وجدان المجلس العسكري الانتقالي جعلته يتسرّع في التعامل مع الإشكال السياسي مع الجزائر، خصوصاً أنّ المجلس يدرك أنه يواجه تحديات خارجية وداخلية".

وتوقع مراقبون أن الخلاف بين البلدين قد يركد بعودة سفيري البلدين إلى مزاولة نشاطهما في باماكو والجزائر، لكن في 25 يناير/كانون الأول الماضي أعلن الناطق الرسمي باسم الحكومة المالية عبد الله مايغا أن المجلس العسكري قد قرر إنهاء العمل باتفاق الجزائر الذي أصبح "غير قابل للتنفيذ" بسبب "تغير موقف بعض المجموعات الموقعة".

انسحاب مرتب

سارعت الجزائر إلى الردّ على موقف باماكو عبر بيان لوزارة الخارجية رأى في "تنصل" المجلس العسكري من اتفاق السلم والمصالحة "خطراً على مالي نفسها، وعلى المنطقة كلها".

واعتبرت الخارجية الجزائرية أن "القائمة الطويلة للأسباب المقدمة من المجلس العسكري لدعم التنديد بالاتفاق لا تتطابق إطلاقاً مع الحقيقة أو الواقع، لا من قريب ولا من بعيد".

وأشارت إلى أن باماكو "كانت تحضر لهذا القرار منذ مدة طويلة، فقد تجلت بوادر هذه الخطوة منذ عامين في تراجعها شبه الكلي عن تنفيذ الاتفاق ورفضها المستمر لكل محاولة تهدف إلى بعث تنفيذها، وتشكيكها في نزاهة الوساطة الدولية وتصنيفها للموقعين على الاتفاق على أنهم قادة إرهابيون، وطلبها انسحاب بعثة الأمم المتحدة (مينوسما)، وتكثيفها لبرامج التسلح، ولجوئها إلى الاستعانة بالمرتزقة الدوليين".

ويرى سلطان البان أن "رئيس المجلس العسكري عاصيمي غويتا عمل باستماتة على التخلص من اتفاقية 2015، وذلك بتخلصه من القوات الأممية التي غادرت البلاد قبل نهاية 2023، ليتمكن من الانفراد بالقرارات المصيرية في مالي، كونه يعتبر أي مشاركة إقليمية ودولية تعطيلاً لرغباته لأنه سيصبح مجرد طرف في الأزمة وليس خصماً مباشراً، وهو ما لا يرغب فيه".

فرص النجاح

ويوضح البان أن "مبادرة الحوار الوطني التي طرحها غويتا ما هي إلَّا وعود فضفاضة مشابهة لوعود الانتخابات الرئاسية ونقل السلطة إلى المدنيين التي أطلقها سابقاً وأخلفها".

ويرى أن مبادرة غويتا يمكن لها أن تنجح في رسم خريطة وطنية ممهدة لانتخابات ينتظرها الشارع المالي أو لبناء مسودة دستورية، لكنها لا تستطيع حل وإنهاء الأزمة الموجودة في الشمال المالي مع الحركات الأزوادية.

ولا يستبعد البان أن يتسبب تأجيل الانتخابات الرئاسية إلى أجل غير مسمى والتحديات الاقتصادية التي تعيشها مالي في إعاقة استمرار الدولة ومواجهة خطر انقلابات، خصوصاً أن التجارب السابقة تصب في هذا الاحتمال.

وأكد مجلس الأمن الدولي في 6 يناير/كانون الثاني الماضي الطابع المحوري لاتفاق سنة 2015 المنبثق عن مسار الجزائر، داعياً جميع الأطراف الموقعة عليه إلى استئناف الحوار والتزام تجسيد الاتفاق من أجل ضمان السلام والاستقرار في مالي.

أما الخبير في الشؤون الإفريقية إبراهيم زين كونجي، فيؤكد أنه "لولا الدور الذي لعبته الجزائر في مالي لساءت الأوضاع أكثر، فقد قدمت كثيراً عبر وساطتها ولا تزال تقدم لرأب الصدع".

وفي حديثه مع TRT عربي يعتقد كونجي أن "بعض بنود اتفاقية 2015 قد تحتاج إلى تطوير بالنظر إلى أن الحكومة المالية لم تكن موجودة وقتها، والبلاد شهدت تغيراً جذرياً على المستوى السياسي والاجتماعي عقب رحيل حكومة أبو بكر كايتا التي كانت هجينة وتابعة لفرنسا، لذلك قد تحتاج الاتفاقية إلى مراجعة مع الإبقاء على الديباجة الأساسية الخاصة بها".

ويوضح أنه على غويتا إدراك أن "الحل العسكري والأمني لن يكون مخرجاً في ظل وجود فجوة اجتماعية بين الشمال والجنوب لأن مطالب سكان الشمال مشروعة، وعلى باماكو تقديم ما يطلبه الشارع المالي هناك أو حتى في الجنوب".

ويعتقد أستاذ العلوم السياسية والدولية في جامعة الجزائر الدكتور إدريس عطية أنه لا يوجد حل للأزمة في مالي "خارج اتفاقية 2015، كونها التزاماً دولياً باركته الأمم المتحدة والدول الكبرى، مثل روسيا والصين والولايات المتحدة إضافةً إلى الاتحاد الإفريقي والأطراف الإقليمية، فهي مرجعية لتحقيق السلم في مالي وفق برنامج عمل واضح لتحقيق الاستقرار والاندماج الوطني".

عدم التصعيد

بعد أسبوع من إعلان المجلس العسكري عدم التزامه تنفيذ اتفاقية الجزائر 2015، خرج وزير خارجية مالي عبد الله ديوب في مقابلة تليفزيونية بتصريحات جديدة تبعث التفاؤل بشأن العلاقات بين البلدين.

وقال ديوب إن "الجزائر ومالي دولتان تربط بينهما علاقات الجوار والأخوة، وهما مرتبطتان بحكم الجغرافيا والتاريخ والروابط الاجتماعية، ولذلك محكوم علينا بالعمل معاً من أجل تحقيق السلام والاستقرار".

وأضاف أن المجلس العسكري "على استعداد كامل بكل روح إيجابية لتسوية كل الخلافات بالحوار عبر القنوات الدبلوماسية، وبعض هذه القنوات يجري توظيفه في هذا السياق، من أجل تقديم التوضيحات اللازمة لضمان أن تكون علاقاتنا على أرضية متينة تأخذ بعين الاعتبار المصالح المشتركة".

ويرى الكاتب الصحفي المهتم بقضايا الساحل أمين لونيسي أن "باماكو أدركت أن خطابها الصدامي مع الجزائر المرتبطة بها جغرافياً واجتماعياً وتجارياً لن ينتج عنه سوى تكبّد خسائر أخرى، فدفعت بوزيرها للخارجية ورئيس الوزراء لتبني نهج المهادنة عبر توجيه رسائل إلى الجزائر للدخول في مشاورات مباشرة لتجاوز الخلاف بعد تعطيل اتفاق 2015".

ويبيّن لونيسي في حديثه مع TRT عربي أن اعتراف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة بدور الاتفاق في منع التوترات يشكل "ضغطاً دبلوماسياً على المجلس العسكري لعدم إقصاء أي طرف من العملية السياسية".

ويردف: "في الجانب الآخر، الجزائر مدركة أن التصعيد المالي الذي تدفع إليه أطراف دولية معادية قد يتسبب في اندلاع حرب أهلية على حدودها تتسبب في تدفق اللاجئين إليها وزيادة مخاطر تسلّل الإرهابيين، لذلك تظهر حكومتها رغبة في تجنيب المنطقة حرباً إقليمية أخرى، وسوف تنتهز فرصة عضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن لحشد المواقف الدولية لجهة إحياء اتفاق السلام، بإبقاء قنوات الحوار مفتوحة مع المجلس العسكري بالسعي لإقناعه بضرورة استئناف المفاوضات السياسية".

ويشير لونيسي إلى أن تمسك الجزائر بضرورة حل الأزمة المالية، رغم تصرفات المجلس العسكري الحاكم، يعود إلى تخوفها من تصرفات هذا الأخير الذي يزداد عزلة بالانسحاب مؤخراً من مجموعة إيكواس، وهي العزلة التي تتخوف منها المعارضة بالنظر إلى أن الوضع الحالي للبلاد يظل في حاجة إلى دعم دولي، وبالدرجة الأولى من قِبل دول الجوار.

TRT عربي