يلقي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطابًا لكشف النقاب عن استراتيجيته للترويج للفرنسية كجزء من اليوم الدولي للفرنكوفونية أمام أعضاء الأكاديمية الفرنسية (Academie Francaise) وضيوف آخرين في المعهد الفرنسي في 20 مارس 2018 في باريس. (Others)
تابعنا

يعكس مفهوم الفرنكوفونية مواصلة فرنسا بسط يدها على دول مستعمراتها السابقة في مختلف المجالات الثقافية واللغوية والسياسية والاقتصادية والتربوية، رغم استقلال هذه الدول منذ عقود، ومن هذا المنطلق نفهم خلفيات تأكيد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته الأخيرة لتونس أن "الفرنكوفونية أمام تحدِّي تبنِّي مشروع استعادة مكانة اللغة الفرنسية وصمودها، وتعزيز استخدام هذه اللغة ولو بشكل غير أكاديمي، خصوصاً في القارة الإفريقية التي تظلّ اللغة الفرنسية هي الأكثر شيوعاً فيها".

يأتي تأكيد الرئيس الفرنسي ضرورة حمل الفرنكوفونية مشروعاً "لاستعادة مكانة اللغة الفرنسية" في ظلّ تراجع استخدام اللغة الفرنسية، رغم النمو الديموغرافي في إفريقيا، وفي ظلّ تقهقر استخدام الشعوب المغاربية للغة الفرنسية مقارنة بالعقود الماضية، وهو ما يمثّل تهديداً مباشراً لفرنسا ومصالحها في مستعمراتها السابقة.

ما الفرنكوفونية؟

يشير الموقع الرسمي للمنظمة الفرنكوفونية إلى أن هذا المصطلح قد برز في أواخر القرن التاسع عشر في فرنسا، لوصف الفضاء الجغرافي الجامع بين الناطقين باللغة الفرنسية في العالم. في حين أن المنظمة الفرنكوفونية هي منظمة دولية للدول والحكومات الناطقة باللغة الفرنسية (لغةً رسمية أو لغةً منتشرة) تأسست سنة 1970 وتضمّ اليوم 88 دولة وحكومة (54 عضواً، و7 أعضاء منتسبين، و27 ملاحظاً). وبُعثَت على يد الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة، ورئيس السنغال السابق ليوبولد سيدار سنغور، ورئيس النيجر السابق حماني ديوري، إضافة إلى أمير كمبوديا السابق نورودوم سيهانوك. ويشترك هؤلاء في أنهم أول رؤساء لبلدانهم بعد الاستقلال عن فرنسا.

تقول المنظمة الفرنكوفونية إن أهدافها تتمثل أساساً في تعزيز اللغة الفرنسية والتنوع الثقافي واللغوي، وتعزيز السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان ودعم التعليم والتدريب والتعليم العالي والبحث، وتعزيز التعاون الاقتصادي لدعم التنمية المستدامة.

يقع المقرّ الرئيسي للمنظمة في باريس، وتخضع المنظمة الدولية للفرنكوفونية لهيئات سياسية ثلاث: القمة، وهي الهيئة العليا للفرنكوفونية، وتنعقد مرة كل عامين. والمؤتمر الوزاري للفرنكوفونية، والمجلس الدائم للفرنكوفونية.

بالإضافة إلى هيئاتها الرئيسية، للمنظمة الفرنكوفونية شبكة عنكبوتية من الإدارات والمكاتب تمتدّ على 11 ممثلية خارجية، منها تمثيليات لدى الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمم المتحدة ومكاتب تغطّي دول شمال ووسط وغرب إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا الشمالية وبلدان الكاريبي وأمريكا اللاتينية وأوروبا الوسطى والشرقية ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ وغيرها من المناطق، وتعمل هذه التمثيليات والمكاتب على تنظيم أنشطة وبرامج ثقافية وسياسية متنوعة ذات توجُّه ومضمون فرنكوفوني.

منظمة تعاون أم جهاز سيطرة على المستعمرات السابقة؟

وفق المنظمة، ينصّ ميثاق الفرنكوفونية على أن رسالة المنظمة الأساسية هي تجسيد التضامن الفعَّال بين الدول والحكومات الممثلة بهذا الفضاء الجيو-سياسي وهي واعية بالروابط والقدرات التي يتيحها الاشتراك في استعمال اللغة الفرنسية والانخراط في القيم الكونية.

الكاتب والمفكّر والبرلماني السابق الصافي سعيد، يقول لموقع TRT عربي، إن "الاعتقاد السائد بأن المنظمة الفرنكوفونية هي منظمة غنية وبها أسواق كبيرة غير صحيح، فكل الدول الأعضاء هي دول فقيرة عدا دولتين لهما دور تمويل المنظمة التي تحولت إلى جهازات استخبارات خارجية لدى فرنسا، وهي منظمة أساساً ضد العروبة وضد الزنوجة".

وأوضح سعيد: "اللغة عموماً هي سوق قبل كل شيء، ومن يتحدث الفرنسية مثلا فسيستهلك (مُنتَجات) فرنسية. اليوم اللغة الإنجليزية هي سوق للبنوك وهي لغة السياحة والتجارة الدولية والعلوم والبحوث، إلخ، وفي المقابل تشهد اللغة الفرنسية تراجعاً أمام الإسبانية والألمانية والإنجليزية بعد أن كانت في القرن التاسع عشر اللغة المسيطرة في العالم وكانت لغة الدبلوماسيين والعسكريين، وهو ما يثير نعرة فرنسا التي تريد استرجاع تلك السيطرة".

واعتبر سعيد، وهو أحد أبرز الكتاب والمفكرين العرب الذين كتبوا عن إفريقيا، أن "المنظمة الفرنكوفونية هي ضد الأفارقة وضد اللغات وضد الثقافات المحلية، والدول الإفريقية هي التي تساعد في فرنسا على لغتها وليس العكس، وتفتح لها الأسواق، إلى أن أصبح المُنتَج الثقافي باللغة الفرنسية الذي تنتجه هذه الشعوب أكثر من إنتاجات فرنسا ذاتها (في الموسيقى والأغاني والكتب والروايات والبحوث، إلخ)".

يرى المتحدث أنّ عدة لغات أخرى كالبرتغالية والباكستانية والفارسية والتركية أقوى من اللغة الفرنسية بكثير، وخلص إلى القول: "من يُرِد العلوم فلا يذهبْ إلى الفرنسية".

الفرنكوفونية.. الطَّور الناعم للاستعمار الفرنسي

أستاذ الأنثروبولوجيا بالجامعة التونسية والمحلل السياسي الأمين البوعزيزي، اعتبر في حديث لموقع TRT عربي أن "المنظمة الفرنكوفونية هي الطور الناعم للاستعمار الفرنسي"، ومضى موضحاً: "بعد الضربات الموجعة التي تعرضت لها الأنظمة الاستعمارية بعد الحرب العالمية الثانية ومع صعود حركات الاستقلال جاءت المنظمة الفرنكوفونية للالتفاف على الموجة التحررية وإبقاء الاستعمار لكن بشكل ناعم".

وأضاف البوعزيزي: "خصوصية الاستعمار الفرنسي عبر منظمة الفرنكوفونية تتجلى ليس في النهب الاقتصادي فقط، بل في الهيمنة الثقافية على اعتبار إدراك فرنسا بعلمائها وبكل مَن نظّر للاستعمار أن مسألة الهوية هي أكبر محفز للمقاومة، ومن هذا المنطلق عملت على ضرب هويات الشعوب المحتلة، والأخطر من ذلك اصطناع عملاء ثقافيين لها".

ويشير البوعزيزي إلى أن "الحفاظ على المصالح الفرنسية في المستعمرات لا يمكن إلا عبر تواصل هذا المشروع واصطناع نخب محلية كومبرادورية، وبالتالي جاءت المنظمة الفرنكوفونية".

وتابع الأمين البوعزيزي حديثه لـTRT عربي: "تعتبر فرنسا من وجهة نظرها أنّ الفهم الجيد للحداثة والتقدمية يكون بالإدراك والفهم الجيد للفرنسية، أي إنه لا يمكنك أن تكون حداثياً إلا بإتقان الفرنسية، وبالتالي فإن تمسُّك فرنسا بنشر قيم الحداثة الكولونيالية (الاستعمارية) وتشبُّثها بهذه المنظمة الفرنكوفونية هو آخر قلاعها للهيمنة على مستعمراتها القديمة".

وقال: "هم يعتاشون على نهب قارة إفريقيا. المنظمة الفرنكوفونية هي القبح الذي يحاولون تزيينه بالمسألة الثقافية، وهو أقبح أنواع الاستعمار".

وبشأن توظيف اللغة كمدخل للاستعمار، نوّه البوعزيزي بأن المختصين والمفكرين يدركون أن التفكير يتم من داخل اللغة، وعندما تُضرب لغتك وتحلّ محلّها لغة أخرى تصبح تفكّر من داخل تلك اللغة"، مضيفاً: "اللغة لها متخيلاتها، وإذا ضُربت فإن هذه المتخيلات المرتبطة بها ستُضرَب بالضرورة، وبالتالي سيصبح التفكير من منطلق متخيلات فرنسية، بما يعني أن التفكير في الدول الأعضاء بالمنظمة الفرنكوفونية سيصبح من داخل مصالح فرنسا لا من منطلق أُمّتك وشعبك وتاريخك وماضيك وحاضرك وقارَّتك".

وخلص الأمين البوعزيزي إلى القول إن "أخطر أمر في الاستعمار هو ضرب اللغة، لأننا نفكر من داخل اللغة التي هي متخيَّل كامل، بما يعني أنه عندما تُضرَب اللغة يُضرَب كل ذلك المتخيَّل ولا يبقى سوى متخيَّل اللغة الوافدة، وبالتالي الاعتداء على الخصوصية المحلية ضرورة".

يشار إلى أن المنظمة الفرنكوفونية تعدّ الناطقين باللغة الفرنسية بأكثر من 300 مليون شخص في خمس قارات، أغلبهم في قارة إفريقيا. كما تعد الفرنسية اللغة الرسمية في 11 دولة إفريقية، وثاني لغة في 10 دول أخرى، وهي أيضاً اللغة الرئيسية أو لغة التعليم الوحيدة في مدارس بنين وبوركينا فاسو وجمهورية إفريقيا الوسطى وجزر القمر وجمهورية الكونغو والكونغو الديمقراطية وساحل العاج والغابون وغينيا ومالي والنيجر والسنغال وتوغو، وأغلبها مستعمرات فرنسية سابقة.

الكاتب الصحفي والمحلل السياسي بولبابة سالم، تساءل في تصريح لـTRT عربي عن استفادة تونس، باعتبارها عضواً مؤسساً، من المنظمة الفرنكوفونية منذ تأسيسها، وقال: "لم تتقدم مستعمرة فرنسية واحدة"، معتبراً أن "فرنسا لا يمكن أن تسمح لمستعمراتها السابقة بالتقدم أو التحرر، بالتالي فإن المنظمة الفرنكوفونية هي منظمة للسيطرة لا غير".

ولفت بولبابة سالم إلى مفارقة عدم تحرير تأشيرة السفر والتنقل بين فرنسا والدول الأعضاء في المنظمة الفرنكوفونية قائلاً: "من الغريب أن فرنسا تريد التوغل في مستعمراتها السابقة، لكنها ترفض منح مواطني هذه الدول تأشيرة الدخول إلى أراضيها".

كما اعتبر المتحدث أن "فرنسا التي تريد فرض أجندتها في مستعمراتها السابقة تزرع وتنشئ جمعيات ومنظمات تحت عناوين الدفاع عن الحقوق والحريات والأقليات وحقوق الإنسان، وتنتهج عبر هذه المنظمات سياسة (فرّقْ تسُدْ) وتفجير النسيج الاجتماعي بهذه البلدان وتعتني هي في المقابل بالسيطرة الاقتصادية والسياسية في تلك الدول".

على الرغم من إقرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أكثر من مناسبة بأن الاستعمار كان "خطأً جسيماً" يجب تجاوزه والبدء في صفحة جديدة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة، فإن السياسة الفرنسية تُظهِر عكس ذلك، إذ يتواصل اعتماد عملة الفرنك الإفريقي في 14 دولة إفريقية بما يربط اقتصاداتها مباشرة بفرنسا. وقد قسمت فرنسا دول "منطقة الفرنك" إلى منطقتين، هما منطقة الاتحاد النقدي لغرب إفريقيا وتضمّ بنين وبوركينا فاسو وكوت ديفوار وغينيا-بيساو ومالي والنيجر والسنغال وتوغو، وتستخدم هذه الدول فرنك غرب إفريقيا. ومنطقة الاتحاد النقدي لوسط إفريقيا التي تضمّ 6 دول أعضاء هي الكاميرون والكونغو والغابون وغينيا الاستوائية وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد. وتستخدم فرنك الجماعة المالية الإفريقية لوسط إفريقيا، فيما يستخدم اتحاد جزر القمر الفرنك القمري. ولكل منطقة مصرفها المركزي الخاص.

وعلى الرغم من أن فرنسا لم تعُد تعتمد عملة الفرنك منذ اعتماد العملة الأوروبية الموحدة "اليورو"، فإن الفرنك الإفريقي لا يزال سارياً حتى اليوم، وقد ثبّتت باريس قيمته بسعر اليورو، وتزعم أن لذلك مزايا عدة، منها "تعزيز قدرة الاقتصادات على الصمود في مواجهة الصدمات الاقتصادية الكلية، ويتيح كبح التضخُّم من خلال ضمان استقرار العملة، وهو ما يسهم في تعزيز التبادل والاستثمار"، والواقع أن هذه الدول مُلزَمةٌ وضْعَ 50 بالمئة من احتياطي النقد الأجنبي الخاص بها في وزارة المالية الفرنسية.

في شهر ديسمبر/كانون الأول 2019، أعلن رئيس ساحل العاج حسن وتارا، بحضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، برنامجاً "تحررياً" يتمثل في إصلاح الفرنك الإفريقي وتغيير اسمه ليصبح "الأيكو" (في دول غرب إفريقيا) والتوقف عن إيداع 50 بالمئة من الاحتياطي النقدي لدى الخزانة الفرنسية"، بداية من يناير/كانون الثاني 2020. لكن إلى اليوم وبعد مرور ثلاث سنوات لم يُنجَز شيء، وما زالت التبعية المالية لفرنسا على حالها، ويبدو أن المشروع التحرُّري قد أُجهض في المهد.



TRT عربي