تابعنا
استُهدفت مدينة بيروت بانفجار مروع في مرفأها الرئيسي الذي يعد أحد أهم شرايين لبنان الحيوية، لتتغير بعدها معالم المنطقة ككل، ويعلنها أمس المجلس الأعلى للدفاع في لبنان "مدينة منكوبة" رسمياً، ويصفها بـ"هيروشيما" ثانية.

بيروت قبل الرابع من أغسطس/آب 2020 ليست كما بعده. تاريخ سيرسخ في ذاكرة اللبنانيين كأكثر الأيام مأساوية ودموية، إذ يعيشون حالة حداد وطني بفعل كارثة حقيقية بكل المقاييس حصدت خسائر بشرية هائلة سجلت في صفوف اللبنانيين وسكان المنطقة أجمع.

قدرت الخسائر البشرية للانفجار حسب تصريحات وزارة الصحة اللبنانية، بما يزيد على 135 قتيل و5000 مصاب وعشرات المفقودين حتى الساعة. كارثة لم تفرق بين كبير وصغير ولم تنأ بنفسها عن مهنة أو مستوى اجتماعي أكانوا عسكريين أم سياسيين أم صحافيين أم أطباء أم فنانين أم فرق إنقاذ.

أعلنت الأجهزة المعنية في الحكومة اللبنانية أن الحادث "ناجم عن انفجار العنبر رقم 12 في المرفأ، ‏ما أدى إلى احتراقه جراء انفجار المفرقعات النارية في داخله"، نافية بشكل قاطع الروايات التي تشير إلى وجود استهداف إسرائيلي مباشر للمكان.

تقاعس في الاتلاف أحدث دماراً

على صعيد آخر، وأثناء زيارته التفقدية لمكان الانفجار، شكك مدير عام الأمن العام ‏اللواء عباس إبراهيم في هذه الفرضية، كاشفاً "‏أن الانفجار قد وقع في مخزن لمواد شديدة الانفجار بلغت نحو 2700 طن مصادَرة من سنوات، والأجهزة الأمنية ‏تعمل لكشف طبيعة ما حصل".

مع هذا التصريح، توجهت الأنظار باللائمة على حالة الفساد المستشري داخل المرفأ كأحد أهم الروايات حول الأسباب التي أدت إلى الانفجار. وهو ما أكده تصريح صادر عن مدير عام الجمارك في لبنان بدري ضاهر بأن "الانفجار ناجم عن حاوية تحتوي على نترات الأمونيوم، وهذه مادة قابلة للانفجار احتجزت قضائياً بسبب خلاف قضائي بين المستورد والشركة الناقلة، لتفرَّغ بمستودع خاص بالكيماويات في مرفأ بيروت، الأمر الذي أحدث تلك الضخامة في الانفجار".

حول هذه الباخرة والمواد المتفجرة التي حملتها وأفرغت لاحقاً في العنبر رقم 12 في المرفأ، كان جهاز أمن الدولة قد طلب منذ 5 أشهر فتح تحقيق في الأمر. وقد تبين أن هذه المواد مصدرها شركة شحن تدعى "سفارو" كانت متجهة من جورجيا باتجاه موزمبيق عام 2014، وحين وصلت إلى قبالة مرفأ بيروت طلبت "تعويماً" فنالت إذناً من قاضي الأمور المستعجلة جاد معلوف لوضع المحتويات في المخازن، وبقيت السفينة معطّلة قرابة ثلاث سنوات من دون إصلاحها ومن دون نقل البضائع.

حادثة الفساد هذه وضعت الدولة ومؤسساتها في مأزق أخلاقي كبير وهي ترى عشرات اللبنانيين تزهق أرواحهم بسبب هذا التقصير وهذا الإهمال بعيداً عن الاخذ بعين الاعتبار معايير الرقابة والسلامة العامة. وقد شكل ت‏لجنة تحقيق في الحادثة لترفع تقريرها خلال 5 أيام بتوصية من مجلس الدفاع الأعلى في لبنان. فيما توعد رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب بأن "المسؤولين عن هذه الكارثة سيدفعون الثمن"، ليقول: "سنكشف الحقائق بخصوص هذا ‏المستودع الخطر الموجود هناك في المرفأ منذ عام 2014‏‎". 

وفي هذا الإطار، يقول الباحث العسكري الاستراتيجي إلياس فرحات في حديثه لـTRT عربي، إن "مرفأ بيروت هو عملياً في قلب المدينة ووسطها، لذلك التخزين به هو خطأ بحد ذاته خصوصاً عند حصول أحداث غير محسوبة، كما رأينا أمس. التخزين عادة يكون بالطريقة التي تعتمدها قيادة الجيش، إذ تخزن المواد في أودية بعيدة فإذا حصل حادث تكون الأضرار محدودة".

وحول هوية المسؤولين عن الحادثة، يرى فرحات أن "الجمارك هي الجهاز المسؤول عن تخزين هذه المواد في المرفأ، وتتقاسم المسؤولية مع شركة إدارة واستثمار مرفأ بيروت التي تدير الأعمال المرفئية ويتحملان المسؤولية مع الأجهزة الأمنية المختصة مع وجود مثل هذه المواد وبهذا الشكل في المرفأ".

لغم على مقربة من منازل اللبنانيين

والسؤال هنا ما طبيعة هذه المادة التي كانت تحيط بمنازل اللبنانيين؟ وكيف بإمكانها أن تخلف كل هذا الدمار؟ وما تداعياتها على الثروة البيئية؟

استفسارات يجيب عليها رئيس قسم العلوم في جامعة LAU الدكتور حسين حسن خلال حديثه مع TRT عربي بالقول: "هذه المادة تحتوي على (ammonium nitrate) الذي يستخدم للسماد في الزراعة، ولكن هي مادة قابلة للانفجار إذا تعرضت لأي حريق، وإذا انفجرت تعطي رواسب تبقى في الهواء والمياه لفترة زمنية معينة تسمى (nitrogen dioxide) وهو غاز سام يؤثر على الرئتين حين ينتشر في الهواء كمدينة بيروت التي تعد منطقة رطبة، حينها يتحول إلى (nitric acid) بالتالي فالخوف هنا من أن يبقى في الهواء لفترة زمنية معينة لا نستطيع تحديدها قبل تحديد الكمية التي انفجرت".

ويؤكد أن "هذه المادة استُخدمت من قبل للهجمات التخريبية مثل أوبلاهوما في أمريكا، وفي بالي في إندونيسيا، ولا يجب أن تُترَك في العنبر كما قيل حسب الأخبار المتداولة أنها موجودة منذ سبع سنوات".

وحول تصريحات قوى الأمن عن مسببات الانفجار، يرى الدكتور حسين أن "الرواية منطقية لأن مادة الأمونيوم قابلة للاشتعال بقوة، أي يمكنه أن يقوم بهذا الانفجار بسهولة، ونحن نتكلم بكمية 3000 طن أي علمياً بالطبع يمكن لهذا الأمر أن يحدث، بخاصة أنه جرى على البحر أي ليس بين جبلين أو في وادٍ، فبالتالي تداعياته ستذهب إلى كل الساحل حتى تصل إلى قبرص وغيرها. نحن نتكلم عن عشرة آلاف طن ونحن في المختبر إذا اشتعلت عشرة جرامات يصدر صوتاً تظن أنّه حدث انفجار في المبنى فكيف إذا كان ثلاثة آلاف طن".

وعن تداعياتها على الثروة البيئية، يكشف أن "مادة nitrogen dioxide التي صدرت من الانفجار تدخل إلى الرئتين وتدمر الخلايا وتتلفها، وإذا كان أشخاص يعانون من أمراض تنفسية فبالتأكيد هذا الغاز سيضرها أكثر، ككبار السن مثلاً والأطفال وضعهم مخيف أكثر. ومن هنا نناشد الناس بأن تخرج من بيروت إذا أمكن، بالذات الأشخاص الذين يعانون من مشاكل في الجهاز التنفسي وحتى المدخنين لأنّ هذا الغاز سيكون له أثر سلبي كبير جداً".

هل هناك انفجار اقتصادي محتمل يلوح في الأفق؟

لبنان المتهالك أصلاً جراء الأزمات الاقتصادية والأمنية والسياسية التي تعصف به، التي اشتدت منذ احتجاجات 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، واستفحلت حدتها في ظل جائحة كورونا وأزمة سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الليرة اللبنانية، خسر اليوم البوابة الرئيسية لاستيراد السلع والوقود وتصديرها.

فالمرفأ يعد واحداً من أهم الممرات لعبور السفن بين الشرق والغرب، ويتمتع بميزة تجارية عالية، إذ كان في السبعينيات يعد أهم محطة للتجارة الدولية مع الدول العربية المحيطة. ويتعامل المرفأ مع 300 ميناء عالمياً، ويعد نقطة ترانزيت للعديد من الشحنات.

أما عن صورة المرفأ أمس، فقد وصل صدى الانفجار إلى مناطق تبعد عشرات الكيلومترات عن المدينة، بلغ تأثيره حد إسقاط زجاج أبنية في جزيرة قبرص البعيدة مئة وثمانين كليومتراً عن ساحل بيروت، بعدما شعر سكانها بهزة ارتدادية تساوي زلالاً بقوة 4.5 درجة على مقياس ريختر، حسب مرصد الزلازل الأردني. ما أحدث حالة دمار وخراب داخل المرفأ والأبنية المجاورة، مخلفاً حريقاً كبيراً تمكنت فرق الدفاع المدني وطوافات ‏الجيش اللبناني من إخماده بعد ساعات طويلة وجهود حثيثة.

وفي المشهد العام، يكشف محافظ العاصمة اللبنانية بيروت مروان عبود أن "الانفجار الهائل الذي وقع في المرفأ، شرّد نحو 300 ألف من سكانها، مقدراً حجم الخسائر المادية بمبلغ يتراوح بين 3 و5 مليارات دولار".

ويضيف عبود: "أعتقد أن بين 250 و300 ألف شخص أصبحوا من دون منازل، منازلهم أصبحت غير صالحة للسكن"، مؤكداً: "نحو نصف بيروت تضرر أو تدمر، إنه وضع كارثي لم تشهده في تاريخها".

ويتابع بالقول "هي كارثة اقتصادية بكل ما للكلمة من معنى" هكذا يصف الصحافي اللبناني المتخصص بالشأن الاقتصادي خالد أبو شقرا حجم المصيبة التي حلت على بيروت أمس.

وحول حجم الخسائر الاقتصادية التي شهدها لبنان وستظهر تداعياتها في الأشهر المقبلة، يقول أبو شقرا في حديثه لـTRT عربي: "مرفأ بيروت يُعتبر الشريان الحيوي والممر الوحيد الذي يمتلكه لتنفيذ عمليات الاستيراد والتصدير. فنحو 80% من البضائع التي يستوردها لبنان والتي يصدّرها تمر عبر هذا المرفأ. وبكلفة شحن عادةً تكون منخفضة، على عكس الشحن الجوي المكلف جداً والشحن البري المتوقف بطبيعة الحال بسبب الأحداث في سوريا".

وبالتالي، حسب عبود، "فإنّ عدم وجود مرافئ أخرى قد تكون مكملة لمرفأ بيروت كمرفأ طرابلس الذي يستخدم بشكل أساسي لاستيراد الخشب أو مرفأ صور الذي يُستخدم لشحن السيارات. هذان المرفآن غير مؤهلين بشكل كبير للقيام بما كان يقوم به مرفأ بيروت من جهة استيراد الحاويات الكبيرة والبواخر الكبيرة وبواخر القمح وغيرها الكثير. بالتالي فإن الأضرار المباشرة في المرفأ على الاقتصاد كبيرة جداً وأيضاً على الدولة اللبنانية التي تجني من عائدات هذا المرفأ الضرائب الجمركية".

وفي ما يتعلق بتعرُّض صوامع ‏القمح لأضرار بالغة مع انهيار أجزاء منها وتداعيات ذلك على الأوضاع الاقتصادية، يوضح أن "هذه الصوامع تستخدم المخزون الاستراتيجي للدولة اللبنانية بالتالي يخزن القمح عبر طريقتين، الأولى في هذه الصوامع، والثانية عبر استلام مطاحن القمح بشكل مباشر من البواخر التي تفرغ في المرفأ. وبالتالي الأرصفة البحرية التي تركن فيها البواخر الكبيرة متضررة جداً، وبالطبع الشفاطات التي تستخدم في المرفأ من البواخر إلى الشاحنات أو إلى الصوامع أيضاً هي متضررة وبشكل كبير".

ويرى أن "صيانة هذه الشفاطات وإعادتها إلى الحياة قد يتطلب وقتاً كبيراً واستثمارات ضخمة يجب أن تدفع بالعملة الأجنبية وهي الدولار الأمريكي، لأن شركات خارجية ستنفذ هذه الأعمال لا شركات محلية، وبالتالي نعم يوجد تخوف جدي من أن يفقد لبنان القدرة على تأمين السلع الأساسية ومنها القمح".

وحول الحديث في مقررات جلسة مجلس الوزراء اللبناني عن تخصيص مئة مليار ليرة لبنانية سيستخدمونها لعمليات التعويضات والصيانة، يؤكد أبو شقرا أن "الدولة هي التي من المفروض أن تعوض إنما هل باستطاعتها أن تعوض أصحاب الممتلكات ما خسروه؟ وإن عوضت فهل ستعوض بالقيمة الحقيقية؟ نتحدث نحن هنا عن فرق هائل في سعر صرف العملة اللبنانية ما بين 1500 ليرة والسعر السائد في السوق الذي هو اليوم فوق 8000 ليرة لبنانية".

ويخلص إلى أن "الدولة لن تستطيع التعويض بالمبالغ الكبيرة أو بالقيمة الحقيقية لسعر الصرف، لأن هذا يكلفها طباعة المزيد من الأموال ما يعني المزيد من التضخم، الذي سينعكس بالمزيد من ارتفاع الأسعار ودخول أشخاص تحت خط الفقر وبالتالي ندخل في دائرة لا نخرج منها".

إقرارات المعنيين والمختصين بأن الانفجار الأليم سيفاقم الأزمة الاقتصادية التي هي أصلاً باتت قاب قوسين أو أدنى من الانفجار، ينذر بقدوم كارثة كبيرة ما لم يتحرك العالم أجمع لا سيما اللبنانيين بفئاتهم السياسية والشعبية أيضاً لمساندة المنكوبين من أبناء شعبهم، ضمن مبادرات التآخي والتضامن لبلسمة جراحهم. فالانفجار الدموي جعلهم على اختلافهم ضحايا ثكالى، جمعهم مصاب واحد وحزن واحد.

TRT عربي