تابعنا
حسب حقوقيين وباحثين في المجال الإنساني فإنهم يعتقدون أن ملف المختطفين والمخفيين قسراً في العراق ليس مجرّد ملف حقوقي وقضائي وأمني، بل هو سياسي بامتياز تقف وراء استمراره قوى ضاغطة على السلطة بهدف حماية شخصيات وفصائل مسلّحة وعدم إخضاعها للمحاسبة والعقاب

أعادت الأمم المتحدة تسليط الضوء على ملف المخفيين في العراق في اليوم العالمي للاختفاء القسري، بدعوتها إلى إجراء تحقيقات مستقلة وفعالة لتحديد مصير الآلاف من المغيبين والمخفيين، الذين لا يعلم عنهم ذووهم شيئاً منذ سنوات، في حين تقف السلطات الحكومية مكتوفة الأيدي دون اتخاذ أي خطوة بالكشف عن مصيرهم أو الجهات التي تعتقلهم وأماكن احتجازهم.

واكتست الدعوة الأممية طابعاً ظرفياً إذ جاءت مرتبطة باليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري الذي صادف إحياؤه في يوم 30 أغسطس/آب، كما جاءت محدودة زمنياً وأيضاً جغرافياً، في حين أن الظاهرة الأوسع نطاقاً كانت في العراق وهي مرتبطة أصلاً بوجود سلاح خارج سيطرة الدولة، وبأيدي العشرات من المليشيات المتهمّة في المقام الأوّل بممارسة الاختطاف والاعتقال والإخفاء بدوافع سياسية وطائفية.

وبحسب حقوقيين وباحثين في المجال الإنساني فإنهم يعتقدون بأن ملف المختطفين والمخفيين قسراً في العراق ليس مجرّد ملف حقوقي وقضائي وأمني، بل هو أيضاً ملف سياسي بامتياز، إذ تقف وراء استمراره قوى ضاغطة على السلطة بهدف حماية شخصيات وفصائل مسلّحة متهمة بالتورط في جرائم على صلة بالملف ذاته، وعدم إخضاعها للمحاسبة والعقاب، كما أن إغلاق الملف وإنصاف الضحايا لا ينفصلان عن جهود تحقيق المصالحة المجتمعية وإعادة الاستقرار إلى البلد.

انتهاكات وأرقام صادمة

وبحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر فإن العراق يوجد فيه أحد أكبر أعداد الأشخاص المفقودين بالعالم، إذ تقدّر اللجنة الدولية للمفقودين، التي تعمل بالشراكة مع الحكومة العراقية للمساعدة في استرداد المفقودين وتحديدهم، أن العدد قد يتراوح منذ عام 2016 إلى 2020 بين 250 ألفاً ومليون شخص، أما هيومن رايتس ووتش فقد وثقت عمليات الإخفاء القسري المستمرة على أيدي قوات الأمن العراقية، إذ لم تفعّل السلطات في بغداد ما يكفي لمعاقبة الضباط والعناصر المتورطين في حالات الإخفاء.

وبهذا الصدد تحدث المستشار القانوني في المرصد الدولي لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان فيصل الجابري لـTRT عربي قائلاً: "في مدينة الموصل وحدها هناك أكثر من 8000 شخص مُخفَى منذ عام 2014، والقسم الأكبر منهم محتجز قسرياً لدى الحكومة والمليشيات، وبلغ عدد المغيبين في قضاء الدور بمحافظة صلاح الدين من قبل المليشيات أكثر من 15.000 مغيب، معظمهم في سجون سرية تابعة للمليشيات، وفي الأنبار هناك أكثر من 3000 مغيب، وفي ديالى أكثر من 2000 مغيب".

كما تابع الجابري: "هذه العمليات الإجرامية لم تتوقف بانتهاء النزاع المسلح الداخلي، فمع انطلاق التظاهرات في بغداد ومحافظات الجنوب حدثت عمليات تغييب للناشطين، حيث وثق المرصد أكثر من 75 حالة إخفاء قسري لناشطين ومدنيين من ساحات التظاهر ولم يطلق سراحهم إلى الآن، فضلاً عن عدم معرفة مصيرهم وسط عجز الحكومة في بغداد عن العمل على إطلاق سراحهم، ممَّا يؤكد أن قوة المليشيات ونفوذها أكبر من الحكومة والقانون".

من جانبه، صرّح الناشط السياسي غيث التميمي "أن‏ آلاف النساء العراقيات يتساءلن عن مصير ذويهن بمناسبة ‎اليوم العالمي لضحايا الإخفاء القسري، ويجب أن تكشف الحكومة عن مصير آلاف العراقيين المغيبين قسراً سواء في المناطق المحررة من تنظيم الدولة داعش أو بقية مدن العراق، لذلك نطالب بالتحقيق الجدي في مصير الناشطين الذين اختفوا قسراً في العراق".

أما الحقوقي سمير الخالدي فقد تحدث لـTRT عربي قائلاً: "إن الضغط القانوني والإعلامي هو جزء من الضغط الجماهيري، ولكن نحتاج أيضاً إلى رجال ينطقون بالحقيقة، والجميع يعلم بقصة المغيبين مهما اختلفت مدنهم وعشائرهم، ولكن نطمح إلى تنفيذ حملة موسعة من قبل نواب البرلمان الذين تقع عليهم مسؤولية وطنية في تقصي الحقيقة، والكشف عن هذا الملف الذي تعاني منه جميع المحافظات العراقية"، مضيفاً: أن "المغيبين هم بحكم القانون مختطفون، وهذا يعني أنها جريمة يعاقب عليها القانون، ونحتاج فقط كشف الأدلة التي تثبت هذه القضية لأنها اليوم تمس مجتمعاً بكامله".

الحكومة العراقية متورطة

يعرّف القانون الدولي الاختفاء القسري على أنه "توقيف شخص ما على يد مسؤولين في الدولة أو وكلاء للدولة، أو على يد أشخاص أو مجموعات تعمل بإذن من السلطات أو دعمها أو قبولها غير المعلن، وعدم الاعتراف بالتوقيف أو الإفصاح عن مكان الشخص أو حالته". ويستتبع هذا الحظر واجب التحقيق في قضايا الإخفاء القسري المزعومة ومحاسبة المسؤولين.

بهذا السياق تحدث مدير المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب عمر الفرحان لـTRT عربي بالقول: "تعمدت الحكومة العراقية منذ عام 2003 إلى اليوم إحداث إخلال في منظومة المجتمع من خلال بث الطائفية وخطاب الكراهية، وهذا لمسناه بشكل صريح في أثناء التظاهرات من كبار المسؤولين الذين يحرضون علناً على قتل أصحاب حرية التعبير".

وأضاف الفرحان: "عثرنا على مقابر جماعية تضم عدداً كبيراً من الجثث المتفسخة تعود لمدنيين في مشروع الطاقة الروسية بمنطقة صدر اليوسفي بمنطقة القصر الأسود جنوبي بغداد. وبحسب المصدر فإن الجثث متفسخة بالكامل والضحايا يرتدون ملابس مدنية، والأهالي يشيرون إلى عدم وجود داعش في هذه المنطقة، وهذا بحد ذاته يشير إلى تورط الحكومة لكونها تعرف المليشيات ولكنها لا تلاحقهم".

وتابع: "الأرقام قد تكون متفاوتة بحسب ما ترصده المنظمات الدولية والمحلية، ومع ذلك يعد العراق الأول عالمياً من حيث عدد المغيبين قسراً على يد القوات الحكومية والمليشيات المرافقة لها، وزادت الأعداد بعد الفتنة الطائفية عام 2006، حيث قامت المليشيات بتكوين مجاميع مسلحة مهمتها الخطف والقتل على الهوية بدواعٍ طائفية، ومنذ عام 2003 إلى اليوم وثقنا بالتعاون مع اللجنة الدولية للمفقودين ما بين 250000 إلى مليون مغيب".

من جهتها اعترفت مقررة لجنة حقوق الإنسان في البرلمان العراقي، النائبة وحدة الجميلي، متحدثةً لـTRT عربي حيث قالت: "هناك الآلاف من المغيبين قسرياً من قبل جهات سياسية وأخرى مسلحة تجد في مثل هذا السلوك العدواني وسيلة لإزاحة كل من يعترض مصالحها، وتحاول هذه الكتل السياسية تصفية منتقديها وإخفاءهم من الساحة العراقية".

وأشارت الجميلي إلى أنه "ينبغي للحكومة الاتحادية العراقية الجديدة أن تجعل من أولوياتها مكافحة الإخفاء القسري والتحقيق في القضايا السابقة، لتأكيد التزامها باحترام حقوق الإنسان وحمايتها في العراق. كما على السلطات أن تشكل لجنة تفتيش مستقلة للتحقيق في الإخفاء القسري وحالات الموت خلال الاحتجاز على المستوى الوطني في مراكز الاحتجاز الرسمية وغير الرسمية، وهذا الملف الساخن يضع الدولة في موقع المسؤولية، لذلك من الضروري أن تتدخل الدولة وتتابع القضية بطريقة شفافة وجريئة وتلاحق المتورطين من الجماعات المسلحة".

حملة "وينهم" تشعل مواقع التواصل الاجتماعي

طالب عدد كبير من العراقيين عبر مواقع التواصل الاجتماعي حكومة بلادهم بالكشف عن مصير الذين اختفوا خلال العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش الإرهابي بين عامي 2014 و2020، وأطلق ناشطون وحقوقيون وكتاب وصحفيون عراقيون وسم "وينهم" على تويتر، الذي تصدر منصات مواقع التواصل الاجتماعي في العراق، حيث ناشدوا من خلاله حكومة الرئيس مصطفى الكاظمي الكشف عن مصير المغيبين والمخفيين قسرياً.

بهذا الصدد تحدث الخبير الأمني صبري الدليمي لـTRT عربي مصرحاً: "حملة "وينهم" جاءت نتيجةً للتسويف الحكومي فيما يتعلق بملف المخفيين، وتعامل أصحاب القرار بحذر كبير نتيجة اختراق الدولة من قبل المليشيات وسيطرتها على القضاء العراقي، ولا بُد أن تعترف الدولة بأن أعداد المخفيين من المناطق التي استعادها الجيش من تنظيم الدولة تقدر بـ28 ألفاً، من ضمنهم الذين فُقدوا خلال فترة سيطرة التنظيم على مناطق واسعة في العراق عام 2014".

كما تابع: "إن التغييب يترتب عليه العديد من القضايا لذوي المفقودين بين محاكمة من كان على قيد الحياة أو حسم ملفاتهم، وتعويض ذوي المتوفين منهم ومحاسبة الجناة، إذ إن حال المخفيين لا يزال معلقاً بين الحياة والموت، وسيواجه رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي صعوبات كبيرة في هذا الملف على الصعيدين السياسي والأمني".

الصحفي حازم المعموري كشف بدوره في تغريدة على تويتر، أن أربعة من إخوته معتقلون ومغيبون قسراً منذ عام 2014، داعياً الجهات المسؤولة إلى إنهاء معاناتهم، وإعادتهم إلى أولادهم وزوجاتهم.

في حين اتهم الصحفي عثمان المختار مليشيات حزب الله والنجباء والعصائب وبدر والخراساني وعاشوراء، والمليشيات الأخرى التابعة لطهران، بتغييب قرابة 20 ألف عراقي. وتساءل المختار عن سبب رفض الإفصاح عن مصيرهم؟

أما الكاتب والمحلل السياسي لقاء مكي، فقد كتب على تويتر أن ميزان العراق وموازينه لن تعتدل قبل رفع الظلم ورد المظالم. ورأى أن كل ذلك بعيد ما دام آلاف العراقيين مغيبين منذ سنوات على أيدي المليشيات.

منظمات إنسانية تستنكر

لقد أصبح الإخفاء القسري مشكلة عالمية ولم يعد حكراً على منطقة بعينها من العالم. فبعد أن كانت هذه الظاهرة في وقت مضى نتاج دكتاتوريات عسكرية أساساً، يمكن اليوم أن يحدث الإخفاء القسري في ظروف معقدة لنزاع داخلي، أو يُستخدم خاصة وسيلة للضغط السياسي على الخصوم.

في حديث مع مراسل موقع TRT عربي صرّح رئيس مركز بغداد لحقوق الإنسان، مهند العيساوي، قائلاً: "إن غالبية المدنيين المخفيين قسراً هم من سكنة محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين، وإن دوافع عمليات الإخفاء طائفية للانتقام من سكنة هذه المناطق والتنكيل بهم، وإن المسؤول الأول عن ذلك هي مليشيات موالية لإيران، وكذلك بعض الجهات الحزبية التي لديها ضباط في الاستخبارات داخل القوات الأمنية العراقية ".

كما يتابع العيساوي: "وثق مركز بغداد جرائم الاختطاف منذ عام 2014، وقد أُفرج عنهم بفدية مالية خلال فترات سابقة، وأبرز السجون السرية التي يقبع فيها هؤلاء المختطفون تقع في ناحية جرف الصخر شمالي محافظة بابل. وهذه السجون عبارة عن مدارس ومنازل احتلتها المليشيات، وحولتها إلى مراكز للاعتقال، حيث يتعرض المُخفَون فيها لأبشع صور التعذيب وسوء المعاملة".

وأشار إلى أن "ما يعيق العمل الحقوقي هو بطش نفوذ المليشيات وعدم إفصاح الحكومة عن مواقع السجون السرية وكشف الحقائق أمام المجتمع المحلي والدولي، وللأسف فإن المجتمع الدولي غير قادر أو غير مهتم بحل هذه القضية التي تعد من القضايا المهمة والخطيرة في نظر القانون الدولي العام وحقوق الإنسان، لذلك نحتاج إلى تدويل القضية وتشكيل لجان دولية تعمل على كشف مصير المغيبين والمعتقلين" بحسب تعبيره.

من جانبها صرّحت لما فقيه نائبة مديرة قسم الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش وقالت لـTRT عربي: "لا يخفى على المنظمات الإنسانية أنه في مختلف أنحاء العراق تعاني الأسر التي أُخفي آباؤها وأزواجها بعد أن احتجزتهم القوات العراقية والمليشيات الخارجة عن القانون. وبالرغم من البحث والطلبات المقدمة إلى السلطات العراقية لسنوات، لم تقدّم الحكومة أي جواب حول مكانهم أو إن كانوا لا يزالون أحياء".

كما تابعت فقيه: "جددت هيومن رايتس ووتش في اليوم الدولي لضحايا الإخفاء القسري دعوتها السلطات الحكومية للكشف عن مصير آلاف المغيبين في العراق، مؤكدةً أن فقدان العائلات ذويهم منذ سنوات وعدم وجود إجابات حاسمة عن مصير المخفيين قسرياً أمور من شأنها أن تترك آثاراً مأساوية لدى آلاف الأسر، وهذا ما ينذر باحتجاجات واسعة في البلاد في الفترة القادمة".

موقف الحكومة العراقية

من جانبه، مبادرة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بفتح ملف المغيّبين والمخفيين قسرياً بعد فترة وجيزة من تسلّمه مهامّ منصبه، رأى مراقبون أنها سياسة تكشف عن أسلوبه الجريء في معالجة مختلف القضايا والملفات المركونة على الرفوف منذ أكثر من 17 عاماً، والتي تحاشى سلفاه حيدر العبادي وعادل عبد المهدي فتحها لتجنّب ما وراءها من مشاكل وتعقيدات سياسية.

وبخصوص ذلك تحدث الناطق الرسمي بوزارة الداخلية سعد معن وصرّح لـTRT عربي بالقول: "ملف المغيبين شائك ومعلق منذ سنوات، لكن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي شدد منذ بداية تكليفه على ضرورة إيجاد حل لمشكلة المخفيين والمعتقلين، فضلاً عن أمره بتشكيل لجنة عليا برئاسة وزير الداخلية لتقصي الحقائق حول وجود سجون حكومية سرية يحتجز فيها معتقلو الرأي وغيرهم من المتظاهرين والمعارضين السياسيين".

وأضاف معن: "خوّلت رئاسة الوزراء هذه اللجنة بالدخول إلى أي مؤسسة يشتبه بوجود سجن سري داخلها، وذلك بهدف معرفة أوضاع المخفيين والمضي بإجراءات قانونية للإفراج عنهم، لكن هذه القضايا تواجه عراقيل من كتل سياسية، وعليه يجب على الأحزاب التعاون من أجل البحث عن حلول واقعية لمعالجة أزمة المخفيين".

هذا ولا تعتبر ظاهرة الاعتقال خارج نطاق القانون والإخفاء القسري جديدة على العراق، إذ توسعت حملات الإخفاء القسري خلال حقبة ما بعد سنة 2003 مع انتشار المليشيات في البلاد، لكنّ تفاقم الظاهرة ارتبط بشكل استثنائي بالحرب التي دارت ضدّ تنظيم داعش الإرهابي بمشاركة العشرات من المليشيات التي لم يقتصر دورها على القتال، بل تعدّته إلى اعتقال المشتبه بهم وإخفائها كل المعارضين دون وجود أي إثبات قانوني. ويحذّر ساسة وقادة رأي عراقيون من أنّ ترك ملف المغيّبين دون معالجة جادة يبقي على التوتّر الطائفي داخل المجتمع، ويمنع تجاوز قضايا انتهاك حقوق الإنسان.

TRT عربي