تابعنا
المتتبع للعلاقة الدبلوماسية هذه الأيام على خط الجزائر وباريس يُلاحظ فُتوراً وتوتراً ملحوظاً على مختلف الأصعدة، على الرغم من الاتصالات التي تجري بين الرئيس الجزائري ونظيره الفرنسي والخطوات "المهمة" التي اتخذها هذا الأخير لتسوية بعض الملفات.

ومن أبرز التطورات، إعلان جمعية جزائرية عزمها رفع دعوى قضائية ضد فرنسا أمام الهيئة الدولية بتهمة "ارتكاب جرائم ضد الإنسانية" راح ضحيتها آلاف الأشخاص في مُظاهرات 8 مايو/أيار 1945.

مُقاضاة فرنسا دولياً

كشف عبد الحميد سلاقجي مدير جمعية 8 مايو/أيار 1945 أن الجمعية بصدد تحضير ملف لمُقاضاة مرتكبي تلك المجازر أمام الهيئات الدُولية، وأوضح: "الجمعية سترفع دعوتين قضائيتين، الأولى أمام لجنة حقوق الإنسان ببروكسل، والثانية لدى محكمة العدل الدولية في لاهاي"، وأوضح: "من اقترفوا الجريمة معروفون لدينا، ونمتلك قائمة اسمية لهؤلاء على غرار الجنرالين ديفال وبورديلا وغيرهما".

وتأتي هذه الخطوة غير المسبوقة، إذ لم يسبق أن لجأت الجزائر إلى الهيئات القضائية الدولية لمُقاضا فرنسا على الجرائم التي ارتكبتها، تزامنًا مع الشد والجذب القائم بين البلدين حول تقرير المؤرخ بنيامين ستورا، إذ أبدت الجزائر عدم رضاها عن المشروع، الذي يضم قرابة 22 خطوة لتسوية الملفات التاريخية العالقة، وتعتبره "غير جدِّي" كونه يُحول الملفات التاريخية إلى خطوات رمزية، من دون أن يُسلط الضوء على المطالب الثلاثة للجزائر المتمثلة في الاعتراف والاعتذار والتعويضات للضحايا.

وكان تأجيل زيارة رئيس وزراء فرنسا جان كاستكس إلى البلاد قد صب الزيت على نار العلاقات المشتعلة بين البلدين، فلا يزال هذا الحدث يطغى على النقاشات في البرامج التلفزيونية والجرائد الورقية الجزائرية والفرنسية.

وكان من المُفترض أن تطأ أقدام رئيس وزراء باريس جان كاستكس أرض الجزائر بداية أبريل/نيسان الماضي، غير أن الزيارة التي حظيت باهتمام محلي وعربي وعالمي على نطاق واسع بالنظر إلى ثقل الملفات وأهميتها التي كان من المرتقب منُاقشتها، أُجلت بسبب جائحة كورونا، حسب ما أعلنت باريس، مُقابل صمت رسمي جزائري يعكسُ حسب مُحللين ومتتبعين للمشهد السياسي وحتى وسائل إعلامية جزائرية وفرنسية أزمة دبلوماسية جديدة تُضاف إلى قائمة الأزمات والتوترات التي عصفت بالعلاقات بين البلدين.

وفي الجزائر لم يصدر أي تعليق رسمي حول أسباب تأجيل الزيارة، فلم تؤكد المبرر الذي قدمته رئاسة الوزراء الفرنسية ولم تنفهِ في الوقت ذاته.

ارتكبت فرنسا خلال استعمارها للجزائر مئات الجرائم ضد معارضيها (AFP Archive)

فما يحصلُ اليوم من شد وجذب بين الجزائر وفرنسا بخصوص محاربة الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي وحتى لعب الجزائر دور "الدركي" لوقف أمواج المُهاجرين الأفارقة نحو أوروبا يعكسُ أبرز القضايا التي تُجسدُ الخلاف غير المُعلن بالأولويات بين الجانبين، فباريس تجنح نحو الحرب في الساحل وبالأخص في مالي ومُشاركةٍ أكثرَ للجزائر في هذه المنطقة بعد الخسائر المالية والعسكرية الثقيلة التي تكبدتها من دون حُصولها على أي دعم أجنبي، وهو الأمر الذي ترفضه الجزائر جملة وتفصيلاً، إذ سبق أن قالت وزارة الدفاع الجزائرية في بيان لها أصدرته بتاريخ 21 فبراير/شباط الماضي: "تداولت بعض الأطراف وأبواق الفتنة عبر صفحاتها الإلكترونية التحريضية أخباراً غير صحيحة، مفادها أن المؤسسة العسكرية تستند بنشاطاتها وعملياتها الداخلية والخارجية إلى أجندات وأوامر تصدر عن جهات أجنبية"، فالجزائر تتشبث باتفاق السلم والمصالحة التي لعبت دور الوسيط فيه.

وانطلاقًا من هذه المُعطيات يتضحُ أن فرنسا تضع الملفات الأمنية على رأس أولوياتها، بدليل الوفد المُصغر الذي كان سيرافق الوزير الأول الفرنسي جان كاستيكس إلى الجزائر والمُكون من وزير خارجية الجزائر جان إيف لودريان ووزيرَي الاقتصاد والتربية، وهو الأمر الذي لم تهضمه الجزائر حسبما نقلت وسائل إعلام جزائرية، إذ قالت إن الزيارة تأجلت بطلب من الجانب الجزائري بسبب تحفظاته على مستوى الوفد الذي لا يتوافق مع أهمية الحدث.

العلاقة عالقة في مستنقع

نقلت صحيفة "لوفيغارو" في مقال مطول عنونته بـ"علاقة الجزائر_ فرنسا عالقة في مستقنع"، عن مصدر جزائري وصفته بـ"المطلع" على الملف، قوله إن: "قصر ماتينيون قدّر بشكل سيئ أهمية هذا الاجتماع، لأن جميع الوزراء المعنيين بالملفات كانوا ضروريين للارتقاء بمستوى العلاقة بين الرئيسين الجزائري والفرنسي. فتردد بعض الوزراء مثل وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير الذي قيل إنه غيَّر رأيه عدة مرات وانتهى به الأمر إلى إثارة غضب الجزائر التي شهدت تقلُّص الوفد يوماً بعد يوم".

وحسبما نقلته "لوفيغارو" الفرنسية فإن مكتب رئيس وزراء فرنسا فُوجئ بإعلان التأجيل من الجانب الجزائري"، كما نقلت الصحيفة عن مصدر مقرب من جان كاستيكس فإنه حتى آخر لحظة ونظراً إلى إجراءات الغلق التي اتُّخذت في فرنسا لمكافحة التفشي المستمر لجائحة كوفيد-19، لم نكن نعرف ما إذا كان من الممكن أن تجري الزيارة. لقد فعلنا كل ما في وسعنا للذهاب إلى الجزائر من خلال تقليص الوفد قدر الإمكان، الأمر الذي لم يُرضِ الجزائريين".

ومن الجانب الجزائري نقلت "لوفيغارو" الفرنسية عن رجل أعمال من الباترونا الجزائرية قوله إن وفد حركة الشركات الفرنسية أو جمعية أرباب العمل الفرنسية لن يشارك في أعمال الدورة الخامسة للجنة الحكومية الفرنسية الجزائرية رفيعة المستوى، وهي بمثابة قمة مصغرة بين وزراء البلدين بدأت عام 2012 من قبل الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند لدعم التعاون الثنائي.

ويقول الباحث بالشؤون الأمنية والسياسية مبروك كاهي في تصريح خاص لـTRT عربي :"إن العديد من الخلفيات التي تقف وراء التأجيل منها ما هو ظاهر للسطح ومنها ما هو خفي"، وبالنسبة إلى الأسباب يذكر كاهي التوقيت غير المناسب والتنسيق المسبق لهذه الزيارة، وحسب الأنباء المتداولة فإن الوفد الفرنسي كان يضم ثلاثة وزراء وهو لا يرقى إلى قمة الحدث، حتى إنه كان يضم صحفيين كانوا ينوون إجراء لقاءات صحافية مع فاعلين مُحددين سلفًا فيما يُعرف بنشطاء الحراك، ومن منظور كاهي فإن الملفات التي كانت ستطرح لا تُعبرُ إطلاقاً عن تطلُّع الشعبين الجزائري والفرنسي.

ووفق كاهي فإن الملفات الأمنية تُعتبرُ حالياً حجر عثرة أمام تطور العلاقات بين البلدين، ويستدل بالأزمة المالية وقضية الصحراء الغربية وعزم الرئيس الحالي فتح فرع له بمدينة الداخلة، في استفزاز واضح للدولة الجزائرية.

ومن الأسباب الخفية مُعالجة ملف الذاكرة الوطنية ووجود لوبيات فرنسية وإقليمية تعملُ على تسميم العلاقات وتضغطُ على صانع القرار الفرنسي لمنع أي تقارب حقيقي يمس مصالحها.

وعن هوية هذا اللوبي يقول الباحث بالشؤون السياسية والأمنية إنه تشكل مُنذُ الاستقلال ويتمثل في الحركى والأقدام السوداء والمعمرين المتباكين على فقدان جنتهم ومن يسير على نهجهم.

ومُنذُ وُصول الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى سدة الحُكم بدا واضحاً وجود تحول بمستوى العلاقات مع فرنسا على الصعيد الاقتصادي ووضع حد للامتيازات التي كانت تتمتع بها باريس في حقبة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وهُو ما يُثير مخاوفها حالياً.

TRT عربي