يدخل العدوان الإسرائيلي في غزّة شهره الثالث، فيما تستمر مشاهد القتل والتجويع والترحيل التي يعاني منها أهالي القطاع، مخلفة حصيلة ثقيلة بلغت 16 ألفاً و250 شهيداً، بينهم 7112 طفلاً، وتجاوز عدد المصابين 43 ألف شخص، بالإضافة إلى الدمار الهائل الذي عمّ البنى التحتية، والمخاطر البيئية التي سيمتد أثرها الضار لعقود.
ومقابل هذه الفظاعات، بدأ عدد من الحكومات والمنظمات الحقوقية حول العالم بالتحرك من أجل مقاضاة قادة إسرائيل لارتكابهم جرائم حرب ضد الفلسطينيين في غزة. وهو ما لا يزال ممتنَعاً، إذ لم تُحاسَب إسرائيل نهائيّاً عن جرائمها السابقة، بالرغم من مرور ثماني سنوات على انضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية.
إسرائيل ترتكب جرائم حرب!
من الناحية القانونية، تُعد جريمة الحرب الخرْق المُثبت لأحد أو عدد من بنود اتفاقيات جنيف المحددة لقوانين وأعراف الحرب. وتحمي الاتفاقيات الثلاث الأولى من اتفاقيات جنيف المقاتلين وأسرى الحرب، بينما تحمي الاتفاقية الرابعة، التي جرى تبنيها بعد الحرب العالمية الثانية، المدنيين في مناطق الحرب.
وتُضاف إلى هذه الاتفاقيات، اتفاقية لاهاي الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية، التي تنص في مادتها الخامسة والعشرين على "حظر مهاجمة أو قصف المدن والقرى والأماكن السكنية أو المباني المجردة من وسائل الدفاع، أيَّا كانت الوسيلة المستعملة"، وفي مادتها الثالثة والعشرين تنص على "حظر استخدام الأسلحة والقذائف والموارد التي من شأنها إحداث إصابات وآلام لا مبرر لها".
وفي تقرير لها خلال الأسابيع الأولى للحرب، كشفت منظّمة العفو الدولية عن أدلة دامغة تفيد بارتكاب جيش الاحتلال الإسرائيلي لجرائم حرب خلال عدوانه على غزة، بما في ذلك استهداف المدنيين وإبادة عائلات بأكملها، والتجويع والتعطيش الممنهجين اللذين تمارسهما قوات الاحتلال ضد أهالي القطاع، بالإضافة إلى الدمار الشديد في البنى التحتية.
وشددت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أنياس كالامار، على أن ما يكشفه التقرير "لا يمثل إلا غيضاً من فيض الرعب الذي وثقته منظمة العفو الدولية، وتوضح الأثر المدمر الذي يحدثه القصف الجوي الإسرائيلي على الناس في غزة (...) إذ أظهرت القوات الإسرائيلية ازدراءً صادماً لأرواح المدنيين".
ولم تكن أمنستي وحدها التي أشارت إلى وقوع جرائم حرب في غزة، بل منظمات حقوقية دولية أخرى، كمنظمة "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان"، التي أشارت في تقريرها الأخير إلى أن "إسرائيل استخدمت مستويات متطرفة وغير مسبوقة من القوة غير المتناسبة وأظهرت استخفافاً شبه كامل بأرواح المدنيين".
وكانت هيومن رايتس ووتش قد كشفت في تقرير لها استخدام جيش الاحتلال قنابل الفوسفور الأبيض المحرمة دوليّاً في قصف كل من غزة ولبنان. وقالت لما فقيه، مديرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في هيومن رايتس ووتش: "كل مرة يُستخدم فيها في مناطق مدنية مكتظة يشكّل الفوسفور الأبيض خطراً كبيراً يتمثّل في إحداث حروق مؤلمة ومعاناة مدى الحياة".
وحسب الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية، مصطفى البرغوثي، فإن "ما تتعرض له غزة الآن عبارة عن ثلاث جرائم حرب ترتكبها إسرائيل، أولها هو الحصار والعقاب الجماعي، وهذه جريمة حرب بموجب القانون الدولي، والثانية هي الإبادة الجماعية عن طريق هذا القصف الجوي الرهيب دون توقف على السكان المدنيين، والثالثة التطهير العرقي، الذي بدأ في الشمال، وهم يخططون لمواصلة ذلك نحو مصر".
وأعلنت لجنة التحقيق المستقلة الدولية التابعة للأمم المتحدة، في بيان لها، وجود "أدلة واضحة" على احتمال ارتكاب "جرائم حرب" في أعمال العنف الأخيرة في إسرائيل وقطاع غزة. وشدد البيان على "عزم اللجنة ضمان المساءلة القانونية التي تشمل المسؤولية الجنائية الفردية ومسؤولية مَن هُم على مستوى القيادة".
تحركات دولية لمحاسبة إسرائيل
تحرّك عدد من الحكومات والمنظمات الدولية الحقوقية الدولية، من أجل محاسبة إسرائيل على هذه الجرائم، ومقاضاة قادة الدولة العبرية أمام المحكمة الجنائية الدولية.
وتصدَّرت تركيا المشهد أمام "الجنائية الدولية"، إلى جانب خمس دول، قدَّمت شكاوى أمام المحكمة الجنائية الدولية بخصوص جرائم الحرب في غزة. وباشرت أنقرة في وقت مبكر من العدوان الإسرائيلي جمع الأدلة لمحاسبة الحكومة الإسرائيلية، وتقديم ملف الإدانة إلى محكمة الجنايات الدولية، إلى جانب جيش من المحامين الدوليين.
وصرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قائلاً: إن تركيا ستبذل قصارى جهدها لمعاقبة إسرائيل على جرائمها بحق الفلسطينيين في المحافل الدولية. وأضاف أن بلاده تملك أدلة كثيرة لمتابعة الحكومة الإسرائيلية أمام المحكمة الجنائية الدولية، ولن تتخلّى عن هذا الأمر حتى لو توقف الجميع.
وذكر الرئيس أردوغان أن أكثر من ألف محامٍ تقدَّموا بطلبات إلى محكمة الجنايات الدولية للتحقيق في هذه الجرائم، وأن الطلبات ما زالت مستمرة.
وأشار بيان للجنائية الدولية إلى أن النيابة العامة تُجري حاليّاً تحقيقاً بشأن الأوضاع في دولة فلسطين، موضحاً أن التحقيق المذكور بدأ بتاريخ 3 مارس/آذار 2021 ويغطي الأعمال المرتكبة في غزة والقدس الشرقية والضفة الغربية منذ 13 يونيو/حزيران 2014، التي قد تدخل في نطاق الجرائم المنصوص عليها في نظام روما.
كما قدّم نحو 650 محامياً من مختلف أنحاء العالم، شكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية في 9 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، يؤكدون فيها جرائم الاحتلال، وحق الفلسطينيين في الحصول على حقوقهم أمام العدالة الجنائية الدولية.
وفي حديثه لـTRT عربي، صرّح المحامي الفرنسي، جيل ديفرز، المعروف بنصرته القضية الفلسطينية ورئيس تجمع المحامين قائلاً: "نحن لسنا أمام جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية، نحن أمام إبادة جماعية".
وأردف ديفرز، موضحاً الدفوع الشكلية للدعوى، بوجود "عمليّة تصفية عبر التفجيرات وتدمير الروابط الاجتماعية. أهل غزة يعانون الحرمان من الماء والكهرباء والغذاء وتدمير المنازل، وعدم الحصول على الرعاية، وقصف الخدمات الصحية، والترحيل الجماعي للسكان (...) من حيث النية، أعلن المسؤولون الإسرائيليون أن (الفلسطينيين حيوانات) وسيجري التعامل معهم على هذا النحو".
وفي 24 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، قدم اتحاد نقابات المحامين في تركيا شكوى ضد إسرائيل لدى المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائمها ضد الإنسانية في غزة. وصرّح رئيس الاتحاد أرينج صاغقان: "سنواصل رفع صوتنا بأقوى صورة ممكنة ضد الجرائم الكبرى ضد الإنسانية، وسنواصل أيضاً نضالنا القانوني لمحاسبة المسؤولين عنها أمام القضاء".
لماذا لا تحاسب المحكمة الدولية قادة إسرائيل؟
وفي الوقت الذي سارعت فيه المحكمة الجنائية الدولية إلى إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم، بشأن مزاعم جرائم حرب متعلقة بترحيل أطفال و"نقلهم بصورة غير قانونية" من أوكرانيا، يبقى القادة الإسرائيليون، المسؤولون عن سنوات من جرائم الحرب بحق الفلسطينيين، بعيدين عن أي تحرك مماثل من المحكمة.
وانضمت فلسطين رسميّاً إلى المحكمة الدولية في عام 2015. وحتى قبل هذا التاريخ، قُدمت مئات الدعاوى القضائية لدى الجنائية الدولية ضد إسرائيل لارتكابها عدة جرائم بحق الشعب الفلسطيني وأفراد وهيئات داعمة له، لكنها رُفضت جميعاً، لأسباب منها "عدم الاختصاص"، أو أن عدد الضحايا "لا يرقى إلى مستوى جرائم الإبادة".
وانتظر فتح تحقيق رسمي في جرائم إسرائيل حتى عام 2021، يقوده المدعي العام البريطاني كريم خان، وحسب الباحث الفلسطيني جوناثان كاتب، فإن فريق تحقيق خان "لم يفعل سوى الشيء القليل" من أجل إثبات جرائم الحرب الإسرائيلية ومحاسبة قادة الدولة العبرية.
وفي مارس/آذار الماضي، بعث عدد من المقررين الخاصين للأمم المتحدة رسالة مفصلة إلى خان، يحثونه فيها على اتخاذ إجراءات فورية بشأن التحقيق ضد إسرائيل. وهو ما رد عليه بأن مكتبه يسعى للحصول على موارد إضافية كبيرة لفريق التحقيق، وأن مكتبه يتلقى معلومات من الضحايا والمجتمع المدني الفلسطيني.
ويعد أحد أبرز العراقيل في وجه مقاضاة إسرائيل أمام المحكمة الدولية، هو رفض تل أبيب الانضمام إلى الجنائية الدولية، وعدم اعترافها بسُلطتها، وعدم اعترافها بالدولة الفلسطينية، ورفضها التعاون مع محققيها الجنائيين أو منحهم تأشيرات الدخول والسماح لهم بحرية التنقل والوصول إلى أماكن الجرائم، والحديث مع الضحايا والشهود.
وبررت المدعية العامة السابقة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودة، البطء في إصدار مذكرات اتهام بحق القادة الإسرائيليين، بأن "النظام القضائي الإسرائيلي ينص بالفعل على معاقبة المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وهذا يعني أن المحكمة الجنائية الدولية قد لا يكون لها اختصاص بالانتهاكات الإسرائيلية المزعومة"، فيما يفنّد مصداقية هذا التبرير كون أن الجنائية الدولية سبق وأصدرت مذكرات توقيف بحق قادة دول غير أعضاء فيها، مثل الرئيس السوداني السابق عمر البشير.
وحسب الباحث الفلسطيني جوناثان ثابت، فإنه حتى لو أصدرت المحكمة مذكرات توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين "فلا تزال لدى إسرائيل ورقة أخيرة تلعبها لتجنب جلسة الاستماع، وهي مبدأ التكامل".
ويوضح الباحث أنه "بموجب قواعد الجنائية الدولية، فإن اختصاص المحكمة مكمّل فقط للمحاكم الوطنية. وهذا يعني أنه محظور عليها النظر في القضايا التي يجري الفصل فيها حاليّاً أو التي جرى الفصل فيها في المحاكم الوطنية، ما لم يكن من الممكن إثبات أن المحاكم المحلية إما غير راغبة أو غير قادرة على توفير شروط مناسبة للتعامل مع الجرائم المزعومة".