تابعنا
تقبع هايتي على شفا حرب أهلية بعد تحرك العصابات الإجرامية للسيطرة على العاصمة "بورت أو برنس"، ما أطلق موجة عنف دامية، بينما يعود هذا الوضع الأمني المتفكك إلى عقود ماضية، وتمتد جذوره إلى الأزمة السياسية والإفقار الذي عاشته البلاد بسبب الاستعمار.

تعيش هايتي سلسلة جديدة من العنف الدموي، انطلق أواخر شهر فبراير/شباط الماضي، بعد أن تحركت العصابات الإجرامية للإطاحة بالحكومة، والسيطرة على العاصمة "بورت أو برنس"، ما أدى إلى سقوط العشرات من الضحايا جراء المواجهات المسلحة بين العصابات والشرطة، فضلاً عن نزوح نحو 15 ألف مدني منها.

وتشهد هايتي منذ عقود انتشاراً للعصابات الإجرامية المسلحة وتعاظم سطوتها، ما جعل البلاد تعرف أحد أعلى معدلات الجريمة المنظمة، ويعيد محللون هذا الوضع إلى تحلل النخبة السياسية والفقر المتفشي في البلاد، التي ورثته عن سنوات النهب الاستعماري والتي تعرضت لها.

العصابات تسيطر على هايتي!

وانطلقت أحداث العنف في هايتي ليلة السبت-الأحد 2-3 مارس/آذار الجاري، بعد أن شنّ أفراد من العصابات المسلحة هجمات منسّقة على سجنين، وعلى المطار الدولي في العاصمة "بورت أو برنس"، ما أدى إلى هروب نحو 3500 سجين، وفق ما ذكرته حكومة البلاد.

وبلغ العنف ذروته عندما توجه رئيس الوزراء أرييل هنري إلى كينيا، من أجل إتمام صفقة نشر قوات قوامها 1000 ضابط شرطة كيني، لاستعادة النظام في البلاد، وأشار مراقبون إلى أن موجة العنف الجارية بمنزلة رسالة تبعثها العصابات إلى الحكومة والمنتظم الدولي، مفادها رفض نشر تلك القوة.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2023، وافق مجلس الأمن الدولي على إرسال قوات متعددة الجنسيات لمكافحة تفشي العصابات الإجرامية، بعد عام من طلب حكومة الجزيرة ذلك.

وأعلنت حكومة بورت أو برنس يوم الأحد 3 مارس/آذار حالة الطوارئ، بما في ذلك حظر تجوال استمر لمدة ثلاثة أيام، وقالت الحكومة في بلاغ: "لقد تلقت الشرطة أوامر باستخدام جميع الوسائل القانونية المتاحة لها لفرض حظر التجول والقبض على جميع المخالفين".

وفي 7 مارس/آذار الجاري، قررت الحكومة تمديد حالة الطوارئ إلى شهر، بينما أشارت الأمم المتحدة إلى أن الوضع في البلد الكاريبي "حرج جداً"، وأدى إلى نزوح نحو 15 ألف مدني من منازلهم.

وأعلنت الشرطة قتل ستة من أفرادها على الأقل، وتخريب نحو 30 منشأة تابعة لها، بينما لا يزال عدد القتلى غير واضح، على الرغم من مشاهد الجثث ملقاة في الشوارع. ووصفت صحيفة "لو نوفيليست"، وهي أكبر صحيفة في البلاد، أحداث العنف بأنها "موكب من النار والدماء والجثث والخوف".

وتسعى العصابات إلى السيطرة على العاصمة الهايتية والاستيلاء على الحكم في البلاد، ويقود أعمال العنف الجارية زعيم عصابة اسمه جيمي شيريزير ويلقب بـ"باربكيو"، وهو شرطي سابق ويتزعم أقوى تحالف بهايتي؛ المعروف بـ"جي 9"، ويضم 9 عصابات.

وهدد شيريزير بإغراق البلاد في حرب أهلية في حال رفض رئيس الحكومة التنحي عن السلطة، قائلاً: "إذا لم يستقِل أرييل هنري، وإذا استمر المجتمع الدولي في دعمه، فإننا نتجه مباشرة نحو حرب أهلية، ستؤدي إلى الإبادة الجماعية".

وحذّرت واشنطن من أن الحكومة الهايتية "قد تسقط في أي وقت"، وصرّح مسؤول في إدارة بايدن وقال إن "هذا ليس مجرد عنف عشوائي، فإذا استولى مسلحو العصابات على المطار أو القصر الرئاسي فإن الأمر سينتهي".

وبحسب رومان لو كور، الخبير الأمني في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود، فإن ما يجري هو "عصابات تسقط السلطة".

ولا يزال مصير عودة رئيس الوزراء أرييل هنري إلى البلاد مجهولاً، وأعلنت صحيفة ميامي هيرالد في وقت سابق، أن رئيس الوزراء موجود على الأراضي الأمريكية، بينما يُضغط عليه من أجل التنحي عن السلطة.

وكان من المفترض أن يغادر هنري منصبه شهر فبراير/شباط الماضي، بعد أن شغله لثلاث سنوات في أعقاب اغتيال الرئيس جوفينيل مويس، وتعتبر الحكومة الهايتية كلها منتهية الولاية وتعيش البلاد فراغاً في السلطة، ما أدى إلى اتساع رقعة سيطرة العصابات.

جزيرة العصابات

وتشهد هايتي انتشاراً واسعاً للعصابات وتزايداً مطّرداً لسلطتها، وقد بدأت الظاهرة في التنامي خلال الستينيات إبان حكم الرئيس فرانسوا دوفالييه، واستمرت بعدها في ولاية ابنه جان كلود، وطوال الأعوام الـ29 لحكمهما تحالف الرئيسان مع العصابات واستخدماها في إرهاب المعارضة.

وبالرغم من إسقاط جان كلود دوفالييه في عام 1986، استمر نشاط العصابات في هايتي، لكن بوتيرة مستقرة، وسرعان ما بدأت هذه الوتيرة بالارتفاع مجدداً مع انتخابات عام 2011، إذ "عمد السياسيون إلى الاستقواء بهذه العصابات المسلحة" لبسط نفوذهم على الأرض، و"خرجت الأمور عن السيطرة وأصبحت العصابات هي من تتحكم بالقرار في البلاد"، وفق الكاتبة والباحثة الهايتية إيميلي بروفيت.

وتنتشر في هايتي نحو 200 عصابة إجرامية، تتراوح من حيث الحجم بين المجموعات الصغيرة وتلك التي يتعدى أفرادها الـ1500 شخص، وتعتبر متفوقة جداً من حيث التسليح، إذ تحصل على ترسانتها من الأسلحة المهربة من الولايات المتحدة، مقابل ضعف تسليح الشرطة المحلية وقلة أفرادها، إذ لا يتعدون تسعة الآلاف فرد.

ويقول إدواردو جامارا، الباحث في جامعة فلوريدا الدولية الذي يدرس دول الكاريبي، إن "من يتزعمون هذه العصابات هم أشبه بأمراء الحرب، كما أنهم أفضل تسليحاً من الشرطة ويفوق عددهم عدد أفراد الشرطة".

وتمارس هذه العصابات أنواع الإجرام كافة، من اتجار بالبشر إلى الخطف والسرقات المسلحة، إضافة إلى تجارة المخدرات والأسلحة، بل يفرضون على المواطنين إتاوات إزاء الخدمات العامة في ظل غياب السلطة في البلاد.

كما تجبي العصابات ضرائب خاصة من أصحاب المحال التجارية والورشات الصناعية الصغيرة المنتشرة في مناطق نفوذهم، ويقدّمون خدمات حماية للشخصيات السياسية ورجال الأعمال في أثناء وجودهم بها مقابل المال، وفق مركزٍ محلي للدراسات الحقوقية.

وتجمع إحصاءات الأمم المتحدة على أن مليونين من الهايتيين يعيشون في مناطق تسيطر عليها عصابات مسلحة، من بينهم 600 ألف طفل على الأقل.

دور الاستعمار في مأساة هايتي!

وتشير الكاتبة إيميلي بروفيت إلى أن ما تعيشه بلادها هو نتيجة ما سمّته "صناعة الجريمة"، إذ "تنتشر الأسلحة بين يدي شباب الأحياء الفقيرة، ما يدفعهم للبحث عن المال عبر اختطاف الناس في وضح النهار بين أزقة العاصمة بورت أو برنس"، وكل هذا يجري في مناخ يطبعه "إفلاس الدولة وفقدان الحكومة الهايتية أي سيطرة على أراضيها".

ووفقاً لإحصائيات البرنامج العالمي للغذاء، يعيش 80% من سكان هايتي تحت خط الفقر، ويعاني أكثر من 4.4 مليون منهم المجاعة، كما تعد هايتي من أفقر الدول في العالم وأكبرها مديونية، وهو ما يقف سداً في وجه أي محاولات تنموية لإخراجها من هذا الوضع.

وورثت هايتي أزمة مديونيتها عن الاستعمار الفرنسي، إذ قبل أن تمنح باريس البلد الكاريبي استقلاله، فرضت عليه توقيع تعهُّد بتأدية إتاوة بلغ مقدارها 150 مليون فرنك تدفع على خمس سنوات، وهو ما سحق اقتصاد البلد الناشئ، ومهّد لاستعمار اقتصادي دائم.

وكشف تحقيق سابق لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية عن أن الدفعة الأولى من تلك الإتاوة التي فرض على الهايتيين دفعها، فاقت بستة أضعاف ناتجهم المحلي في تلك السنة، وبالتالي أرغمتهم باريس على الاستدانة من بنوكها، وهو ما زاد من حجم الديون المتراكمة على عاتقهم، وأدخلهم في دوامة استدانة استمرت لـ122 عاماً دفعت لسدادها هايتي ما يعادل 80% من ناتجها الخام سنوياً.

ووفق الصحيفة الأمريكية، يعادل إجمالي ما دفعته هايتي إلى فرنسا أكثر من 560 مليون دولار اليوم، كان ليصبح وقتها نحو 21 مليار دولار لو استُثمر في البلاد، ويسهم في نماء الاقتصاد الهايتي بـ115 مليار دولار.

وبعد الاستعمار الفرنسي، أتى الاحتلال الأمريكي لهايتي عام 1915، كي يغرق البلاد في دوامة عدم استقرار سياسي مستمرة، وذكر تقرير لمؤسسة بحثية مقرها نيويورك، بأنه "على مدى عقدين من الاحتلال، سيطرت الولايات المتحدة على أمن هايتي وأموالها، كما فرضت الفصل العنصري والعمل القسري والرقابة على الصحافة، وخلعت الرؤساء والمجالس التشريعية التي عارضت الوجود الأمريكي".

ويضيف التقرير أنه حتى بعد جلاء الأمريكيين عام 1934، خلّف ذلك توالياً للحكومات غير المستقرة، نتيجة التدخل المستمر في الشأن السياسي للبلاد، "التي بلغت ذروتها في عام 1957 بتأسيس دكتاتورية تحت قيادة فرانسوا دوفالييه وابنه جان كلود"، اللذين تحالفا مع العصابات المسلحة لحماية حكمهما.

TRT عربي