تابعنا
يتعمد الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية حربة على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 تدمير قطاع الصيد أسوة بباقي القطاعات التي أبادها، إذ لا يكاد يمرّ يوم من دون تعرُّض الصيادين ومعدّاتهم لانتهاكات مستمرة.

عاد الصياد محمد على متن قاربه الصغير يحمل قليلاً من الأسماك اصطادتها شباكه بعد معركة بحرية يتربصها الموت من قِبل زوارق الاحتلال الإسرائيلي المنتشرة على طول عرض ساحل بحر غزة، يمكن أن تطلق نيران رشاشاتها تجاهه في أي لحظة.

يتعمد الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية حربة على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 تدمير قطاع الصيد أسوة بباقي القطاعات التي أبادها، إذ لا يكاد يمرّ يوم من دون تعرُّض الصيادين ومعدّاتهم لانتهاكات مستمرة، سواء بالاستهداف المباشر لهم أو بالاعتقال أو بالتدمير، حتى تحوّل لسان ميناء صيد غزة إلى مقبرة تضمّ مئات قوارب الصيد وأصحاب مهنته، إلا أنهم مصرّون على الاسترزاق و بيعها في أسواق غزة، التي تفتقد الغذاء.

رزقة مغمسة بالدم

نزح الصياد محمد بكر (50 عاماً) من مخيم الشاطئ إلى مدينة دير البلح وسط قطاع غزة برفقة أسرته المكونة من 8 أفراد، بعد تدمير منطقة سكنه، مصطحباً معه معدّات الصيد، وهي مصدر رزقه الوحيد.

ويقول بكر لـTRT عربي: "أعمل في مهنة الصيد منذ أكثر من 30 عاماً، ورثتها عن والدي، وكان اعتمادنا على هذه المهنة مصدر دخل وفير جداً، وكنا نلقب بـ(أثرياء غزة)، لكن بعد حصار الاحتلال للقطاع، وتدمير قطاع الصيد، تراجع عملنا وبالكاد أصبحنا نستطيع توفير لقمة عيشنا من هذه المهنة المغموسة بالدم".

ويضيف: "بعد تدمير الاحتلال لسان الميناء قرّرت متابعة الصيد على شاطئ دير البلح، أخرج كل يوم صباحاً للبحث عن رزقي في البحر، وأودع أسرتي بشعور الخارج بلا عودة، فزوارق الاحتلال تطلق علينا نيرانها بشكل دائم، لا نقترب من البحر إلا في حال شاهدناها ابتعدت قليلاً واتجهت نحو شمال القطاع، نرمي الشبك فوراً، نصطاد كميات قليلة ونعود مسرعين إلى الشاطىء".

يصف الحاج محمد الوضع بأنه "مأساوي" بالنسبة إليهم، إذ إنّ الصيد شحيح جداً، لكنه مضطر إلى ذلك لتوفير لقمة عيش لأولاده، كما صار السمك الطعام الوحيد الطازج الذي يمكن أن يتناوله الغزيون في ظل منع الاحتلال قوافل المساعدات الغذائية الدخول إلى القطاع.

صيادون على شاطئ دير البلح يخاطرون بحياتهم من أجل لقمة العيش (TRT Arabi)

يفرض الاحتلال الإسرائيلي حصاراً مشدداً على سواحل قطاع غزة البحرية منذ منتصف عام 2007، قلّص على إثرها مساحة الصيد تبعاً لتوتر الأحداث مع الجانب الفلسطيني في القطاع من 12 ميلاً إلى 9 أميال، وقبل سنوات قليلة خفض مساحة الصيد أمام الصيادين إلى 6 أميال فقط.

وبعد أحداث السابع من أكتوبر اكتفى الاحتلال بترك الصيادين يصطادون ضمن مساحة ميل واحد فقط، فارضاً سيطرته الكاملة على الساحل البحري ضمن منطقتَي غزة وشمالها، وجنوبها جزئياً، مما أسهم في الحدّ من حركة الصيد وكميات الأسماك وأنواعها في الأسواق الغزية، ليحرم موائدهم من أكلاتهم البحرية المفضلة، في أسلوب ممنهج ضمن مسلسل التجويع الذي يتبعه في حربه ضد غزة، لكنهم يصرّون على بيعها في الأسماك ولو بكميات قليلة تشبع رغبة الزبائن.

تراجعت كميات شباك صيد محمد البحرية التي كانت تحمل قرابة 6 أطنان من صناديق الأسماك المتنوعة، أشهرها "السلطان إبراهيم، الجمبري، الغزلان، بلميدة، الطرخونة"، واقتصرت الكمية على قرابة 4 كيلوغرامات فقط يشمل نوعين، سردينيا بحجم متوسط، ومليطي، مما أدى إلى ارتفاع ثمنها من 8 دولارات متوسط ثمن الكيلو الواحد إلى 32 دولاراً.

ويعزو الصياد الغزي الأسباب وراء ذلك إلى حجم المخاطرة التي يتعرض لها، إذ يخرج من دون عودة حاملاً روحه على كفه.

حمولة قليلة من أسماك الساردينيا بين شباك الصيد (TRT Arabi)

صيادية سمك خلال الحرب

وفي أسواق مخيمات النازحين بمنطقة المواصي جنوب قطاع غزة التي تعج بالعائلات النازحة كان يعلو صوت الصياد يوسف أبو حصيرة (38 عاماً) لبيع آخر كيلو سمك من نوع سردينيا، الحجم المتوسط، جاءته إحدى الزبونات بدهشة واستغراب كبيرين، فهي لأول مرة منذ 3 أشهر تشاهد السمك، موجهة إليه سؤالاً: "من أين السمك؟"، وطلبت منه شراء كيلو واحد، إذ قررت فوراً إعداد أكلة الصيادية وجبة على الإفطار في رمضان، فأجابها بأنه اصطاد كميات قليلة من شاطئ بحر رفح مستغلاً غياب زوارق الاحتلال البحرية لبضع ساعات.

ويقول أبو حصيرة لـTRT عربي: "المواطنون في قطاع غزة يشتهون المأكولات البحرية، تعبوا من تناول المعلبات التي تأتي من خلال المساعدات الإغاثية، ورغم ارتفاع ثمنها فإنّ هناك فئة تشتريها تحديداً في شهر رمضان المبارك".

ويضيف: "يُعَدّ شهرا مارس/آذار وأبريل/نيسان أكثر المواسم وفرة بالأسماك كل عام في غزة، إذ كنا نصدّر إلى الأسواق الخارجية لوجود فائض عن حاجة الأسواق المحلية، لكن بسبب الحرب ومنذ 6 أشهر فإن معظم الصيادين تركوا المهنة، فهُم معرّضون للموت في أي لحظة، ومعظمهم نزحوا من دون معدّات صيد".

أطفال يُفرّغون شباك الصيد للحصول على سمك لتناوله كوجبة تسد جوعهم (TRT Arabi)

تعرّض مركب محمد الذي يطلق عليه اسم "اللانش" لتدمير جرّاء القصف، فيما كان مستقراً على رمال شاطىء رفح، حارماً 3 أسر غزية تضم عشرين فرداً من العيش على رزقه، فاستبدل به قارباً صغيراً يبحر به، لعله يجد ما يعول عائلاتهم في ظل ظروف الحرب القاسية، وفي حال كانت كمية الأسماك التي يصطادها لا تزيد على كيلو يطعمها لأولاده، إذ يعول 5 أفراد.

وكان يعيش قبل الحرب على مهنة الصيد في قطاع غزة قرابة 4500 صياد، يمتلكون 1100 قارب صيد بمحرك كهربائي و800 قارب بالمجداف، إضافة إلى 1500 صياد مرتبطين بمهن على صلة بقطاع الصيد تضم ورشات تصنيع وصيانة القوارب، وعاملين في تنظيف السمك، ومصانع الثلج.

ويصرّ هؤلاء على البقاء على مهنتهم البحرية التي ورثها معظمهم عن آبائهم وأجدادهم رغم كل العوائق والتحديات والانتهاكات المباشرة التي يتعرضون لها في مهنتهم من قِبل الاحتلال الإسرائيلي، والتي بلغت ذروتها بعد أحداث السابع من أكتوبر.

مطالبات لحماية السلة السمكية

ويؤكد زكريا بكر مسؤول لجان الصيادين في غزة أن الحرب الإسرائيلية على قطاع الصيد ليست جديدة، بل استمرار لسلسلة الانتهاكات بحقه منذ 17 عاماً، إذ يفرض الاحتلال حصاره على قطاع غزة براً وبحراً وجواً، محاولاً وأْد أي منافذ اقتصادية ومعيشية تشكل للغزيين مصدر رزق.

ويشير بكر في حديثه مع TRT عربي إلى أن حرب السابع من أكتوبر أدت إلى تراجع المهنة البحرية بشكل كبير وتدمير 85% من مرافقها، مضيفاً أن عشرات الصيادين فقدوا أرواحهم، ومن تبقّى على قيد الحياة فقدَ مصدر رزقه، ونزحوا من الشمال إلى الجنوب تاركين المهنة قسراً، باستثناء من اصطحبوا معدّات معهم ويعملون بإمكانات متواضعة لتوفير لقمة عيش يومهم، من خلال بيع الأسماك في الأسواق الغزية، أو إطعامها لأبنائهم في ما لو كانت كميات الصيد غير وفيرة بسبب ملاحقة الاحتلال الإسرائيلي واستهدافهم بشكل مباشر.

ويبيّن أن عملية الصيد تجري بجهود فردية، متركزة في منطقتين في منطقة دير البلح وسط قطاع غزة، ومدينة رفح جنوباً، وفي حال اجتاح الاحتلال الإسرائيلي رفح فسيُبيد قطاع الصيد تماماً ويحرم الغزيين فتات المأكولات البحرية المتبقية لهم في الأسواق، التي يستعيضون بها عن عدم توافر اللحوم الطازجة.

ويناشد مسؤول لجان الصيادين الجهات الحقوقية للعمل على حماية قطاع الصيد في غزة من الانتهاكات المستمرة بحقه ووقف الاحتلال الإسرائيلي عن ملاحقة الصيادين في لقمة عيشهم، والحفاظ على السلة الغذائية السمكية.

TRT عربي
الأكثر تداولاً