ذكرى مذبحة سربرنيتسا.. الحرب في البوسنة بعيون صحفيين عرب عاشوا المأساة (Michel Euler/AP)
تابعنا

"القذائف الصربية التي أصابت اليوم بناية التلفزيون الحكومي لم تترك مكتباً أو هيئةً صحفيةً من صحفيي العالم الموجودين هنا إلا وأوقعت بهم أضراراً.. إنها رسالة تحذير ومرحلة جديدة من الحرب البوسنية". هكذا اختتم الصحفي أسعد طه تقريره المرئي من العاصمة البوسنية سراييفو إبان تغطيته لحادث قصف مقر الإذاعة والتلفزيون البوسني من قبل الطائرات الصربية في الـ28 من يونيو/حزيران عام 1995.

أسعد ومثله كثيرون من الصحفيين العرب وُجدوا في البوسنة خلال سنوات الحرب العجاف، لتصل -بفضل شجاعتهم وصمودهم- معاناة الشعب البوسني إلى كل بيت عربي، بل وإلى العالم أجمع.

أسعد طه: الحُسن أول ما تلمسه هنا

أسعد طه صحفي مصري غطى الحرب في البوسنة على مدار ما يقارب الأربع سنوات، وقع بعدها أسعد في حب البوسنة وأهلها، وبعد مسيرة مهنية طويلة قرر أسعد أن يتقاعد ويعيش ما تبقى من عمره في العاصمة البوسنية سراييفو.

"الحُسن هو أول ما يمكن أن تلمسه هنا، أنساً ومكاناً. بالطبع لا أريد أن أساوي بين كل الأطراف، وبين الظالم والمظلوم. لكن عندما بدأت الحرب كنت اسأل أصدقائي من البوسنيين، كيف تتركون وتدعون كل هذا الجمال وتتحاربون؟ كيف يمكن لهذا الجمال ألا يهذّب النفس الإنسانية ويزجرها عن هذا العنف؟". هكذا أوجز أسعد طه معبراً عن أول ما يجول في خاطره عند تذكره لسنوات تغطيته لحرب البوسنية.

منظر جوي لسربرينيتسا في البوسنة والهرسك (Reuters)

أثناء تأدية مهامه الصحفية وفي طريقه لمدينة "توزلا" البوسنية لتغطية الحرب، وُقف طه واعتُقل على يد قوات كرواتية كانت تسيطر على تلك المنطقة، وجرى اقتياده والمترجم المصاحب له إلى "مكان مظلم أشبه بثكنة عسكرية"، وقضوا ليلتهم في برد قارس بدون طعام ولا شراب. في اليوم التالي جرى استدعاؤهم للتحقيق معهم من قبل قائد القوات الكرواتية بالمنطقة لاشتباههم بكونه مقاتلاً أجنبياً جاء ليصطف بجانب المسلمين البوسنيين.

يقول أسعد طه عن هذه اللحظات: "في الحروب الأهلية -غير النظامية- بوسع أي مقاتل أن يفعل ما يشاء وهو مطمئن أن أحداً لن يحاسبه، ولذلك كانت لحظات (التحقيق) مفعمة بخوف شديد. بَذلتُ جهدي أن أثبت للقائد الكرواتي أنني هنا لمهمة صحفية، ومعي كل الأوراق الثبوتية التي تؤكد ذلك".

يروي أسعد طه رد ذلك القائد العسكري: "لقد كنتَ في منطقة ذات أغلبية مسلمة، وتنتقل إلى منطقة مسلمين عبر أراضٍ كرواتية. بالنسبة لي أنت لست سوى «بندقية متحركة»". وذلك في إشارة من ذلك القائد لخطورة العمل الذي يقوم به طه، وربما لو كان الأمر بيد قائد آخر، ما كان ليُكتب لطه أن ينجو ويروي لنا قصته.

كنت داخل مقر التلفزيون لحظة قصفه

يروي المترجم الصحفي الفلسطيني حامد الزايغ أنه كان معرضاً للقتل أكثر من مرة خلال تغطيته للحرب البوسنية كمترجم صحفي. وأردف الزايغ: "اضطررنا لاستعمال الأنفاق أثناء الدخول والخروج من سراييفو، وليست هذه هي المشكلة، بل الأدهى أنه عند خروجنا من النفق الطويل نصل إلى سفح جبل علينا تسلقه. تأخذ عملية التسلق وعبور الجبل حوالي ثلث الساعة، نكون فيها بمرمى أعين القوات الصربية التي فرضت حصاراً كاملاً على المدينة. رأينا الموت عدة مرات".

سراييفو تنتظر انسحاب القوات الصربية (Getty Images)

وعن أحلك اللحظات التي مرّ بها كثيرون من الصحفيين العرب والأجانب الموجودين في سراييفو لتغطية الحرب، يروي حامد الغازي أنه كان موجوداً داخل مقر الإذاعة والتلفزيون البوسني عند قصفه من قبل الطائرات الصربية عام 1995. عن تلك الحادثة يقول الغازي: "كان التلفزيون البوسني وقتها مركزاً لتجمع الصحفيين العرب والأجانب، ذلك هو المكان الوحيد الذي استطعنا العمل به نظراً لأنه مجهز من الناحية التقنية، وكذلك لكونه المكان الوحيد الذي كانت تصله الكهرباء أثناء الحرب". "لحظة القصف أصبت أنا وزميل آخر بعدة شظايا. وراح جراء هذا القصف قتيلان ومئات الجرحى من بينهم صحفيون أجانب".

الحروب هي التي صنعت مني صحفياً

الإعلامي أحمد منصور الذي وُجد هو الآخر في البوسنة كمراسل حرب يعمل على نقل بشاعة الصورة والمآساة البوسنية للعالم، يعود بذاكرته ليقص أحد المواقف الذي أثر فيه وبشده: "في منتصف فبراير/شباط عام 1995 كنت أحاول دخول مدينة بيهاتش البوسنية المحاصرة، وكان الأمر مستحيلاً. حين علم 'مرساد فلاديتش' -ممثل الحكومة البوسنية في بيهاتش آنذاك- بوجودي ورغبتي في دخول المدينة، أرسل لي رسالة مؤثرة للغاية". يتمم منصور روايته بقراءة رسالة فلاديتش وهو يجهش بالبكاء: "لقد علمت بمجيئك إلى البوسنة، وكنت أود أن تتمكن من زيارتنا هنا في بيهاتش، حتى تسجل قصة صمود ما يزيد عن مئتي ألف مسلم، محاصرين يأتيهم الموت من كل مكان".

وعلى صعيد آخر، قال أحمد منصور إن: "الحروب كما تصنع قادة سياسيين وأبطالاً عسكريين، فهي أيضاً تصنع صحفيين". مؤكداً أن تغطيته للحرب البوسنية هي التي صنعت منه صحفياً، وأن أشهر الصحفيين والإعلاميين عالمياً كانوا بالأساس مراسلي حروب، ويُنسب لها الفضل في مسيرة أي صحفي مرّ بتلك التجربة.

تجدر الإشارة إلى أن القوات الصربية ارتكبت العديد من المجازر بحق مسلمين خلال ما عرف بفترة حرب البوسنة التي بدأت عام 1992، وانتهت 1995 بعد توقيع اتفاقية دايتون، وتسببت في إبادة أكثر من 100 ألف قتيل، وتهجير 2 مليون بوسني باعتراف الأمم المتحدة، إضافة إلى اغتصاب ممنهج للآلاف من النساء المسلمات في البوسنة والهرسك.

TRT عربي