تابعنا
تعمل فرنسا بكل إصرار على إدامة نفوذها في القارة الإفريقية، مستعينة في ذلك بماضيها الاستعماري. وهي محاولة تأتي في ظل زيادة مزاحمتها الدولية من قبل بعض الدول كالصين وتركيا.

''إن الاستعمار الفرنسي كان خطأ جسيماً ارتكبته الجمهورية"، كان هذا اعترافاً تاريخياً من الدولة الفرنسية، صرّح به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال ندوة صحفيّة عقدها مع نظيره الإيفواري حسن واتارا العام الماضي، داعياً إلى "فتح صفحة جديدة بين فرنسا وباقي دول القارة الإفريقية أو مستعمراتها القديمة" منوّهاً بأنه ينتمي "إلى جيل هو ليس بجيل الاستعمار". 

يعدّ تصريح إيمانويل ماكرون الشهير هذا بمثابة إعلان الجمهورية الفرنسية ''التوبة'' عن ماضيها الاستعماري. ولكن على الأرض، هل تخلت فرنسا عن نهجها الاستعماري القديم، وباتت تتعامل مع دول إفريقيا بمنطق الاحترام المتبادل؟   

يعود تاريخ الهيمنة الفرنسية على إفريقيا إلى القرن السابع عشر، إذ بدأت باريس في احتلال مناطق القارة واستغلال سكانها المحليين منذ سنة 1624، عبر إنشاء أول مراكزها التجارية في السنغال، لتتوالى فيما بعد الحملات العسكرية الفرنسية على بعض الدول الأخرى إلى أن احتلت الجزائر سنة 1830، ثم تونس وأجزاء من المغرب.

تعتبر فرنسا الدولة الأوروبية الأولى من حيث النفوذ والقدرة على الحركة والفعل في الساحة الإفريقية وفق دراسة نشرها المعهد العربي للبحوث والدراسات، إذ عملت فرنسا على إنشاء المراكز الثقافية والمدارس والجامعات في مختلف الدول الإفريقية، كما اعتمدت على نشر اللغة الفرنسية من خلال إنشاء منظمة الفرنكفونية، وعقد قممها كل سنتين سواء في باريس أو في إحدى العواصم الإفريقية، بالإضافة إلى امتلاكها خمس قواعد عسكرية موزّعة على دول إفريقية عديدة. 

لم يمنع حصول دول إفريقيا على استقلالها الذي يصفه البعض بأنه "استقلال صوري" فرنسا من التدخل عسكرياً مجدداً في المنطقة في بعض الدول الإفريقية من أجل إسقاط أنظمة معادية وتنصيب أخرى موالية لها،حيث اعتقلت القوات الفرنسية عام 2011 الرئيسَ العاجي المنتهية ولايته لوران غبابغو بعد قصف مقرّه وتسليمه لقوات خصمه حسن واتارا، الأمر الذي يرى فيه خبراء أن السياسة الفرنسية تغيرت ظاهرياً لكنها حافظت في عمقها على الصبغة الاستعمارية القديمة، ونزعتها التدخلية التي تكون غالباً من طرف واحد تحت ذرائع منها "محاربة الإرهاب".

الهيمنة الثقافية للحفاظ على ''المجال الحيوي'' 

الباحث والمحلل السياسي والأستاذ بالجامعة التونسيةالأمين البوعزيزي يرى أن فرنسا "لا تزال تتعامل مع ما يعرف بمستعمراتها السابقة باعتبار أنها مستعمرات قديمة حتى إنّ لديها وزارة حتى اليوم تسمّى وزارة المستعمرات القديمة، فتتعامل مع إفريقيا إلى اليوم على أنها مجالها الحيوي ومستعدة في أيّ لحظة للتدخل بالسلاح لإسقاط أنظمة وتنصيب أخرى دفاعاً عن نهبها للقارة الإفريقية على حدّ قوله.

ولفت البوعزيزي في حديثه معTRT عربي إلى أن فرنسا تتعامل مع مختلف الدول الإفريقية لا دول الساحل وجنوب الصحراء فقط على أساس أنها دول متخلّفة، باستثناء الجزائر نظراً إلى معركة التحرر الكبيرة، ولعقيدة جيشها الذي لا تزال تقوده ذاكرة الكفاح الوطني، نظراً إلى الهيمنة الاستعمارية وماضي الاستعباد الطويل. 

وواصل البوعزيزي حديثه مشيراً إلى أنّ الاستعمار الفرنسي هو الوحيد الذي يحاول أن يغلف صورته بنشر القيم، عملاً بالمقولة الفرنسيّة الشهيرة "نشر قيمنا يحمي أمننا"، إذ ''يسبق المستشرق الفرنسي والكاهن وعالم الاجتماع إرسال الدبابة، على عكس باقي الدول الاستعمارية''، مفسراً كلامه بأن ''الهيمنة الثقافية تعد رهاناً من رهانات فرنسا في الحفاظ على مصالحها في إفريقيا''، والدليل على ذلك، حسب البوعزيزي، سعي فرنسا لـ''ضرب اللغات الوطنية والمحلية في مختلف الدول الإفريقية''.

ولاحظ المحلل السياسي والأستاذ في الجامعة التونسية أنه حتى في تونس على الرغم من عراقة اللغة العربية التي يبلغ عمرها أكثر من 1400 عام فإن اللغة الأولى فيها هي الفرنسية، علاوة على استباحة الثقافات المحلية في دول إفريقيا جنوب الصحراء وتحطيمها. 

وعن مدى استقلالية القرار في هذه الدول أبرز البوعزيزي أن ''فرنسا تختلق ما يعرف بالفوضى الخلاقة لدحض أي مسعى تحرّري فيها، سواء بالتدخل العسكري عن طريق الانقلابات العسكرية أو ببث حركات تمرّد لتدميرها على شاكلة جماعة بوكو حرام المتشددة التي ثبت أنها نتيجة فعل استخباراتي فرنسي''، مضيفاً: ''الطريف في الأمر أن التدخل الفرنسي في شأن الدول الإفريقية يحدث بكل بجاحة وبشكل سافر وعلناً، معتبرة إفريقيا شاطئها الرابع''، على حد قوله. 

إفريقيا المزوِّد الرئيسي لفرنسا بالطاقة واليورانيوم والمعادن 

من جهته، أكد الباحث والمحلل السياسي غازي معلّى أن ''الدول الإفريقية على غرار النيجر ومالي والتشاد أصبحت مورداً أساسياً للطاقة بالنسبة لفرنسا، إذ إن 25% من المفاعلات النووية التي تعتمدها فرنسا للتزود بالكهرباء متأتية من مناجم موجودة في شمال النيجر والتشاد''، وبالتالي، وفق معلّى، ''تعد هذه المناطق حيوية جدّاً لفرنسا للتزود بالطاقة واليورانيوم''. 

وقال معلّى في حديثه لـTRT عربي: ''معظم معاملات الشركات الفرنسية تأتي من هذه الدول، إذ يمكن القول إن الوجود الفرنسي في هذه المنطقة له سببان، سبب تاريخي وسبب اقتصادي، وفرنسا حريصة على أن تكون موجودة لتبسط هيمنتها وسيطرتها السياسية والعسكرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأحسن دليل على ذلك العملية التي نفذتها القوات الفرنسية في مالي وتسمى عملية "البرخان" والمستمرة حتى الساعة وأثبتت أن فرنسا مستعدة أن تتحرك عسكرياً بكلّ ما أوتيت من قوة للمحافظة على مصالحها في هذه الدول''. 

وعملية ''برخان'' هي عملية عسكرية أطلقتها فرنسا في صيف عام 2014 لـ''مكافحة التمرد في منطقة الساحل الإفريقي''، وهي تتألف من 3000 إلى 4500 جندي فرنسي دائمين ومقرها نجامينا عاصمة تشاد. وقد جرى تشكيل العملية مع خمسة بلدان، والمستعمرات الفرنسية السابقة التي تمتد في منطقة الساحل الإفريقي: بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر. 

وأشار إلى أن فرنسا أنشأت قاعدة عسكرية في شمال النيجر وهي "قاعدة ماتاما" وتبعد نحو 80 كلم عن الحدود الليبية-النيجرية نظراً إلى الاضطرابات التي تشهدها ليبيا منذ ما يقارب عشر سنوات، والغاية منها حفظ مصالحها في شمال النيجر ومراقبة تحركات المهربين والإرهابيين في المنطقة التي تعتبرها حيوية بالنسبة إليها. 

وأقرّ المحلل السياسي، بأن أغلب الدول الافريقية تعاني تبعية وهيمنة سياسية واقتصادية نظراً إلى فقرها وتخلّفها وهشاشة مؤسساتها، معتبراً أن الانقلابات التي تحصل من حين إلى آخر في إفريقيا جنوب الصحراء مدعومة خارجياً، وبالتالي فإن القرار السيادي ضعيف ومرتهن للدول الكبرى ولفرنسا أساساً، حسب تقديره. 

تراجع مستمر للدور الفرنسي في إفريقيا 

في المقابل، اعتبر الدبلوماسي التونسي السابق والخبير في العلاقات الدولية عبد الله العبيدي، في تصريح لـTRT عربي، أن دور فرنسا في قارة إفريقيا في تراجع مستمر بخاصة مع تراجع اعتماد الفرنك الفرنسي في الدول الإفريقية. 

وقال العبيدي: ''أصبح لفرنسا منافسون أقوياء في دول الساحل وجنوب الصحراء مثل الصين وأمريكا وروسيا بعد أن اِنتبهوا حديثاً لإفريقيا وخيراتها، كذلك فإن كلفة التدخلات العسكرية في القارة عند الحاجة ارتفعت في وقت تعاني فيه فرنسا أزمات ومشاكل اقتصادية''. 

العبيدي أكد أيضاً أن ''الشعوب الإفريقية بدأت الاستفاقة، توازياً مع بروز الأطماع في إفريقيا تجاه ما تحتويه من ثروات طبيعية هامة بالنسبة إلى البلدان القوية التي أصبحت ترى القارة رئة العالم نظراً إلى عذريتها واحتوائها على مختلف الثروات كاليورانيوم والنفط والمعادن وقابليتها للاستثمار على نطاق واسع''. 

وبخصوص استقلالية القرار في هذه الدول، أوضح العبيدي أنها غير مستقلة نظراً إلى ضعف اقتصاداتها وارتفاع مديونيتها، كذلك فإنها تعاني التدخلات الخارجية من خلال تمويل بعض الفئات أو الحساسيات السياسية التي تُدعَم لتنفيذ الأجندة الفرنسية فيها. 

من جهة أخرى نوّه العبيدي بأن العديد من البلدان انطلق شيئاً فشيئاً في التخلص من الهيمنة الفرنسية بعقد شراكات مع الصين وروسيا وأمريكا وتركيا على المستويين الصناعي والفلاحي، مشيراً في السياق ذاته إلى تراجع قدرة فرنسا على الفعل والتغيير السياسي بعد أن كانت تتدخل في ما مضى في إرساء الأنظمة أو تغييرها والسيطرة على الأوضاع فيها. 

سيطرة مالية ونقدية على إفريقيا 

ويؤكد مراقبون وخبراء في شتى المجالات بخاصة الاقتصادية، أن النھب الفرنسي لخیرات إفریقیا زمن الاستعمار متواصل إلى اليوم، وأن السيطرة الفرنسية على اقتصاديات هذه الدول وتحكُّمها المباشر في معاملاتها التجارية والنقدية وسياساتها المالية لا يزال قائماً. 

ففي مطلع سنة 2019 طفت على السطح ''أزمة'' فرنسية-إيطالية بسبب الهجرة جعلت ''لويجي دي مايو'' نائب رئيس الحكومة الإيطالي يهاجم فرنسا ويتهمها بـ''إفقار قارة إفريقيا''، وقال في هذا الشأن: ''إن اتفاقیات ما يُعرف بالاستقلال تجعل من فرنسا خامس اقتصاد في العالم، ولولا هذا الاستغلال الفرنسي الفاحش لثروات الدول الإفریقیة لكان اقتصادھا في المرتبة 15 عالمیاً''، ودعا أيضاً الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات على باريس بسبب سياساتها تجاه إفريقيا.

وتفيد تقارير المنظمات والهيئات المالية الدولية بأن شبكة "فرانس-أفریك"مكّنت فرنسا من الاحتفاظ بالسيطرة على الوحدة النقدية الأساسية في وسط إفریقیا وغربها والمعروفة باسم الفرنك الإفريقي، وھو نظام تخضع بموجبه 14دولة إفریقیة من بینھا 12مستعمرة فرنسية سابقة للنظام المصرفي الفرنسي، من خلال اعتماد عملة موحدة مرتبطة بالعملة الفرنسية. وتفيد تقارير المنظمات والهيئات المالية الدولية بأن شبكة "فرانس-أفریك" مكّنت فرنسا من الاحتفاظ بالسيطرة على الوحدة النقدية الأساسية في وسط إفریقیا وغربها والمعروفة باسم الفرنك الإفريقي، وھو نظام تخضع بموجبه 14دولة إفریقیة من بینھا 12مستعمرة فرنسية سابقة للنظام المصرفي الفرنسي، من خلال اعتماد عملة موحدة مرتبطة بالعملة الفرنسية.

واعتُبر هذا الإجراء النقدي، أي الفرنك الإفريقي، بمثابة حیلة فرنسية ناجعة لتأمین التدفق المستمر للعائدات النقدیة والاقتصادیة من المستعمرات الفرنسية السابقة إلى باريس، بخاصة أن الاتفاق كان يشترط على دول الفرنك تورید 100% من ودائع النقد الأجنبي الخاصة بھا إلى البنك المركزي الفرنسي، قبل أن يجري تخفیض ھذه النسبة إلى 65% في السبعينيات، ولاحقا إلى 50% عام 2005، تحت ذريعة توفير غطاء نقدي لإصدار الفرنك الفرنسي. 

الإغراق في الديون سلاح آخر تعتمده فرنسا مع هذه الدول ما يجعلها رهينة الأوامر الفرنسية، فمثلاً تدفع التوغو إلى اليوم 80% من الدخل القومي لصالح فرنسا كضريبة للاستعمار.

ومن النتائج المترتبة على ربط البلدان الإفريقية في منطقة الفرنك الإفريقي بعملة قوية مثل اليورو أن تظل اقتصادات المنطقة ضعيفة وتمنعها من صياغة برامج اقتصادية وتنموية خاصة بها، كذلك فإنها ملزمة بوضع 50% من احتیاطیاتھا الأجنبية في البنك المركزي الفرنسي وتحت سيطرة الوزير الفرنسي للرقابة المالية، علماً أن التقارير المالية الدولية تحدثت عن أن احتیاطیات الدول الإفریقیة في البنك المركزي الفرنسي بلغت نحو 500 ملیار دولار، إلا أنها لا تستطیع الوصول إلى ھذه الأموال بأكثر من 15% في السنة، وفي حالة احتیاجھا إلى المزید فهي مجبرة على اقتراضھا من الخزانة الفرنسية مقابل فوائد ضخمة. 

وفي سنة 2017 أكدت الأمم المتحدة وجود 9 دول من منطقة الفرنك الإفريقي ضمن قائمة الدول الأقل نمواً في العالم. كذلك فإنها مدرجة أيضاً من قبل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ضمن مجموعة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون، على الرغم من تميزها بوفرة الموارد الزراعية والثروات الطبيعية. 

TRT عربي