تعددت الأسباب والموت واحد في قطاع غزة، الذي يعد أكبر سجن مفتوح في العالم، إذ لا يعاني الأطفال الموت فقط بسبب القصف الهمجي المستمر للمدنيين العُزل من شيوخ ونساء وأطفال، بل هم عُرضة أيضاً للموت بسبب العطش والجفاف وسوء التغذية والأمراض المنقولة التي يسببها الحصار المشدَّد وانقطاع الموارد الذي فرضه عليهم الاحتلال الإسرائيلي.
ويعاني سكان القطاع منذ أكثر من 60 يوماً بدأ فيها القتال بين فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة والجيش الإسرائيلي، انقطاع الماء ومنع دخول المواد الغذائية، إلّا بشكل قليل جداً لا يفي بما نسبته 3% من احتياجات القطاع.
وأعلن وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي يوآف غالانت بتاريخ 9 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فرض حصار شامل على ما يزيد على مليوني شخص في قطاع غزة في جملته المعروفة "لا ماء ولا غذاء ولا كهرباء ولا وقود".
وبينما قدَّرت الأمم المتحدة الاستهلاك اليومي للماء في غزة بثلاثة لترات يومياً للشخص الواحد في حال تمكنه من الحصول عليها، فإن منظمة الصحة العالمية توصي باستهلاك لا يقل عن 50-100 لتر من الماء يومياً، وهي الكمية التي لم يكن قطاع غزة يحصل عليها حتى قبل الحرب.
معاناة قطاع غزة انقطاع الماء والحصار ليست حديثة عهدها ولا المرة الأولى، ولكن هذه الظروف هي الأصعب، نظراً لتمادي الاحتلال في جرائمه التي حوَّلت الحياة في القطاع إلى ظروف غير آدمية وخالية من كل الحقوق الإنسانية حتى البسيطة منها مثل الحصول على ماء للشرب.
شعور بالعجز
وقابلت TRT عربي عدداً من النازحين في مدارس أونروا، منهم والدة الطفل سامي الدباس، ذو العامين. تقول والدته إن طفلها يعاني الحساسية الشديدة والطفح الجلدي نتيجة شرب المياه الملوثة.
وتضيف والدة سامي أن أطفالها الآخرين يعانون الجرثومة المعدية والنزلات المعوية، واصفةً الحياة في القطاع في ظل الحرب بأنها "صعبة جداً".
أما الطفل أمير فرج النجار، ذو الاثني عشر عاماً، من بلدة خزاعة والنازح مع عائلته في إحدى مدارس أونروا، فيعاني ارتفاع درجة حرارة الجسم بشكل مستمر، إضافةً إلى معاناته الشحوب والجفاف والقيء المتكرر بعد كل وجبة، بسبب تلوث المياه والغذاء وانعدام الرعاية الطبية والصحية، إضافةً إلى انعدام النظافة العامة.
وتصف والدة أمير في حديثها مع TRT عربي، معاناتها وخوفها الشديد على طفلها وشعورها بالعجز عن تقديم المساعدة له وحمايته مما يعانيه.
وفي ظل هذه الأوضاع، حذرت منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة لين هاستينغز، من "سيناريو مرعب وشيك" في غزة، لن تجدي معه الأنشطة الإنسانية نفعاً.
وأشارت في 5 من ديسمبر/كانون الأول الجاري، إلى أن "الملاجئ معدومة الإمكانات في غزة، والنظام الصحي منهار، إلى جانب نقص مياه الشرب النظيفة، وسوء التغذية لدى الأشخاص المنهكين ذهنياً وجسدياً، كل ذلك يمكن أن يؤدي إلى أوبئة تشكل خطراً على الصحة العامة".
عقاب جماعي
ويبيّن الطبيب ياسر أبو غالي، رئيس قسم الأطفال في مجمع ناصر الطبي في خان يونس، أن أعداد الأطفال الذين يعانون النزلات المعوية الشديدة والحادَة الناتجة عن سوء التغذية إضافةً إلى الجفاف، في ازدياد مستمر؛ بسبب ازدحام السكان الشديد في أماكن مغلقة، وعدم توفر مياه صالحة للشرب، وتردِّي أصناف وجودة الطعام المقدم للأطفال.
وأضاف أبو غالي لـTRT عربي، أن قسم الأطفال يستقبل يومياً ما يقارب 300-400 طفل يعانون من الجفاف والنزلات المعوية الشديدة، في ظل عدم توفر القدرة على علاجهم أو اتخاذ التدابير الصحية، مثل إدخالهم المشفى بسبب انعدام الإمدادات الطبية وخروج الكثير من المستشفيات عن الخدمة.
وأدى هذا الوضع المتردي إلى وصول بعض حالات الأطفال إلى الوفاة، إذ يؤكد رئيس قسم الأطفال وفاة طفلين على الأقل في مجمع ناصر الطبي، بسبب الجفاف والنزلات المعوية.
وحذرت منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية في 16 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، من تخوفات جدية تشغل خبراء الصحة العامة من ارتفاع أعداد الوفيات وانتشار الجفاف وسوء التغذية والأمراض المنقولة لدى الأطفال في غزة.
وطالبت المنظمة الحكومة الإسرائيلية بأن ترفع فوراً الحصار عن قطاع غزة، فيما وصفته بـ"عقاب جماعي" و"جريمة حرب"، وقالت: "عليها أن تعيد المياه والكهرباء، وتسمح بدخول إمدادات الغذاء، والمساعدات الطبية، والوقود التي تُمس الحاجة إليها في غزة، بما في ذلك عبر معبر كرم أبو سالم الذي تسيطر عليه".
ويُعد قطاع غزة أكثر مناطق العالم اكتظاظاً، وفيه أكبر نسبة أطفال ضمن عدد سكانه، التي تشكل 47% من سكان القطاع، حيث يعاني الأطفال فيه ظروفاً سيئة جداً، بدءاً من التهجير والنزوح والتعرض للقصف المستمر والخوف، وصولاً إلى عدم توفر الماء المعالَج والطعام لهم.
ويصف آلاف الحالات من قلب الميدان في المستشفيات ومراكز النزوح معاناتهم ومعاناة أطفالهم ظروفاً معيشية تكاد تكون الأسوأ نظراً لانعدام الماء والغذاء كأبسط أساسيات الحياة.
وشكَّل فقدان الوقود وانقطاع الكهرباء اللازم لضخ المياه من الآبار أزمة حقيقية للسكان، لانقطاع سبل تحلية مياه البحر والحصول على المياه الجوفية، مما دفع سكان غزة إلى شرب مياه البحر المالحة في حال توفرها، وبكميات قليلة جداً نظراً لملوحتها الشديدة وتلوثها.
وسبق أن حذّرت منظمات حقوقية، منها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، والمعهد العالمي للمياه والبيئة والصحة، من أن 97% من المياه في غزة غير صالحة للشرب والاستهلاك البشري؛ بسبب تلوثها بمياه الصرف الصحي، مما يجعلها سامَة ومُمرضة.
وقال محمد شحادة، مسؤول البرامج والاتصال في المرصد الأورومتوسطي، إن 12% من وفيات الأطفال ترتبط بأمراض معوية ناتجة عن التلوث المائي والغذائي.